ماذا يمكن أن تُعلّمنا الفوضى؟
تقف صفوف المصلين منتظمة في خطوط متوازية، يدعون الله بإلحاح شديد بعد الانتهاء من صلاة الاستسقاء، هذا المشهد الذي يستحوذ على اهتمام كل المارّة بلا استثناء التفتُّ عنه محوّلةً نظري إلى زاوية ضيقة تكاد تكون مظلمة في وقت الظهيرة، وكأنني أرى شبحًا بعباءةٍ سوداء يرصد مشهد المصلين بملء عينيه الجاحظتين، يغلب فضولي خوفي فألتف من الجهة الأخرى لأتفقد هذا الشبح.
كانت امرأة بشعر أبيض أذهلها رؤيتي لها وكأنها متيقنة من كونها غير مرئية، أحاول ألا أهتم لأمرها وأكمل طريقي لكنها توقفني مستأذنةً لأخذ دقائق من وقتي.
هل حشود النمل المنتظمة أذكى من حشود البشر؟
نتمشى سويًا بمحاذاة صفوف المصلين التي بدأت بالتفكك بعد التفرغ من الدعاء، تدفعني المرأة بلطف فأتساءل عن فعلتها هذه، تنظر إليّ بتعجب “إشارة موقعي أعطتني أمرًا بتجنب التصادم”، أقول مازحةً “هل أنتِ من عالم آخر؟”، عند هذه الكلمة تغيّر لون وجهها وأبعدتني بسرعة لتنبهني ألا أقول لأحد عن هذا الأمر، تقول “أنتِ اخترتِ الالتفات لي، يبدو أن ثمة نتيجة رائعة ستحققينها إثر ذلك”، حسنًا، يبدو أن هذا نوعٌ جديد من الجنون.
أسألها “بحق، لماذا دفعتني ونحن نمر من جنب المصلين؟”، تقول جملتها وكأنها روبوت يقرأ دون أن يفهم، “إشارة موقعي المرورية بين الجموع أعطتني احتمالية أن يصطدم بنا شخص، طبيعي جدًا أن أدفعك”، يبدو أنها تقصد أن هذه معلومات بدهية جدًا! يشدني في تلك اللحظة مشهد حشود من النمل تسير بانتظامٍ لافت، هل يحتاج أمر انتظام الحشود ذكاءً؟ أم أن الذكاء يسبب الفوضى؟
تلتفت لي باهتمام مبالغ “ولكن من هؤلاء المصلو… ماذا قلتِ عنهم؟ وهل ما فعلوه نوع من الطقوس؟”.
“مممممممم، يبدو أنني لست أمام شخص من عالم آخر بل من وجود آخر!”، أقول في نفسي ثم أقتبس أسلوبها (الروبوتيّ) في الإجابة، “حسنًا، هي طقوس للتضرع لله لاستجلاب المطر لأننا في فصل الشتاء والجو جاف جدًا، لم تزرنا الغيوم من بدايته إلا قليلاً”. تنظر إليّ باستغراب، “ولكن؛ هل أنتم لا تعرفون متى ستمطر كما لم تعرفي أن أحدهم سيصطدم بك بعد قليل؟”، “نعم يا سيدتي، هل هذا غريب!”.
ألتفت لسيل السيارات الذي ازدحم فجأة رغم عدم وجود حادث أو أي سبب يعطّل السير، أذكر جيدًا فكرة الفيزيائي مارك بوكانان حول (الذرة الاجتماعية)، حيث اعتبر البشر وكأنهم ذرات تسلك سلوكًا يمكن دراسته بعيدًا عن نظرة التعقيد الذي لا يمكن تفكيكه، اي بعيدا عن النظرة الفردية لكل انسان على انه حالة خاصة بل النظر لسلوك الفرد من خلال المشهد العام للجماعة، هنا هو يتحدث عن معظم الاستجابات البشرية ليفسر أزمة مرور السيارات كالتي تحدث أمامي، أو المشهد البانورامي التي يبدو عليه التجمع البشري في الشارع، أو حتى تلك الاستجابات أثناء تفجر الثورات والحروب. يلمع بذهني سؤالٌ فأبعد فكرة أن هذه المرأة تعاني الجنون، وأتساءل إن كانت فعلاً من عالم آخر رغم عدم منطقية الفكرة، أو كونها بصّارة ربما ترى ما لا يراه الإنسان العادي.
بجدية تامة أسألها إن كان مشهد الازدحام المروري قد استوقفها وأعرض أن أشرح الأمر، تلمع عيناها فرحًا بتجاوبي معها، وتحكي لي أنها حقًا متفاجئة من كيفية سير الأمور هنا؛ أحدثها قليلاً بأننا لم نتوصل بعد إلى معادلة رياضية تصف الفوضى في سير حركة المرور لكي ننظمها أكثر، وأقصى ما فعلناه هو إعطاء تنبيه أحمر على الشارع المزدحم في تطبيقات الخرائط GPS، هناك محاولات حثيثة لتطوير انظمة لتجنب الازمات المرورية، مثلا في انترنت الأشياء هناك تصور عن نظام يعطي الأولوية لمرور شخص يذهب لمكان مهم ويوجه آخر الى طريق اطول لتجنب الإزدحام بنفس الطريق. فكرة الذرة الاجتماعية تنطوي على البحث عن الأنماط في السلوك البشري ولكن يبقى الأمر خارج امكانية التنبؤ الدقيق. يعجبني الحديث معها وأطمع لسماع إجابات منها فأدعوها لشرب القهوة بالحليب في مقهى على ناصية الشارع.
قنديل الحليب في القهوة!
تصادمات البشر في أماكن التجمعات وتعطّل السير في الشارع قد نعزوها لأسباب بشرية تماماً، فالبشر أنانيون بطبعهم ليسوا كالنمل، عملية إيجاد أنماط لمعرفة أسباب الإزدحام ثم طرح حلول، هي بالضبط محاولة للتنبؤ بحدوث الإزدحام قبل وقوعه، ولكن؛ هل تقتصر عدم القدرة على التنبؤ على٨ النشاطات البشرية فقط؟ أم أن الأمر يمتد ليطال قوانين الطبيعة؟
أمسك بجرة الحليب الصغيرة الملحقة مع القهوة، وأشاهد انتشار الأبيض وتغلغله في البني الداكن بإعجاب شديد، فتقول هي قاطعة الصمت بيننا “عندما أقوم بهذه الحركة أتأمل عظمة القانون الطبيعي عندما تطور شكل قنديل البحر إلى ما هو عليه، كقطرات الحليب في لحظات هبوطها في كأس القهوة”، أدّعي الكُحّة لثوانٍ لأخبّئ استهجاني من جملتها، هل هذه ترجمة سيئة لشعر جيد يحمل معنىً ما عميقًا! أم تراها رأت حشرة في الفنجان يسمونها في عالمهم قنديل بحر!
تلمع برأسي فكرة سبق وأن قرأتها في كتاب (نظرية الفوضى، علم اللامتوقع) لجيمس غليك، شكل نقطة الحبر في أحد اللحظات وهي تدخل كأس ماء يشبه شكل قنديل البحر، فهل تعليقها كان نابعاً من تصور دقيق عن الأسباب الفيزيائية التي أدت لتطور الأنواع الحيّة _مثل أوراق النباتات المختلفة أو الحيوانات البحرية_ على الشكل الذي هي عليه والتنبؤ بأشكال الأنواع الحبة القادمة؟ومعرفة أسباب تشابه شكل كائن حي مع شيء في مكان آخر كالفضاء مثلا؟
“إنها نتيجة مثيرة، تظهر حساسية تلك النقاط للظروف الفيزيائية، وباستعمال الطلاء عينه، مع تغيير الكثافة، يمكن الحصول على مجموعة من الأشكال، من القطرة المعلقة، إلى النسق المشرشر…”
في رسالة من الجيولوجي تشارلز ليل الى تشارلز داروين [1]، يتسائل حول نوع من الرخويات اختفى فجأة من السجل الاحفوري البريطاني، ثم عاود الظهور مرة أخرى بعد ٢ مليون عام في ظل نظرية داروين للنشوء والارتقاء، المعتمدة بشكل أساسي على حدوث الطفرات عند الكائن ثم الانتقاء الطبيعي وفقاً لما يتناسب مع البيئة المحيطة؛ فهل وجدنا اجابة لهذا السؤال؟ هل الأمر يقتصر على فكرة تشابه الظروف الفيزيائية؟
والاهم من ذلك هل يمكن التنبؤ بظهور نوع معين او حدوث تغيرات معينة عند النسل؟
وهنا تعاود الفوضى لتطل برأسها، فكرة الانتقاء الطبيعي تبعاً للتغيرات البيئية فقط لم تعد فكرة مقبولة، فأسباب التطور تبين أنها أعقد من هذا بكثير، ربما تكون آثار طفرة واحدة كبيرة على المستوى البعيد وليس فقط في الجيل التالي مباشرة، أي ان العلاقة بين النمط الوراثي والنمط الظاهري علاقة غير خطية، وهنا سنقع فريسة للتغييرات الدائمة فالطفرات دائمة التشكل مما يؤدي للمزيد من التعقيد، وسيكون ما يعرف بالتطور الكبروي (التحول من نوع الى نوع آخر) مدفوعاً بالتغير الوراثي _خاصة على المدى الطويل_ أكثر من التأقلم مع البيئة الخارجية. اذن التطور ببساطة مثال آخر على الأنظمة الفوضوية فالتغيير في جزء صغير من النظام يؤدي الى حدوث تغيّر مباشر، وتحولات على المدى البعيد لا يمكن التنبؤ بها، كما أن سلوك النظام حساس للظروف الأولية، وشكل شجرة الحياة تابع للهندسة الكسيرية، لأن التغيير التطوري يعيد تقسيم أفرع الشجرة باستمرار، كما أننا لو أرجعنا الساعة التطورية الى الماضي وتركناها تعمل مرة أخرى، لن نخرج بنفس النتيجة. الشيء الوحيد الذي نستطيع معرفته هو دراسة الحاضر وتوقع أسباب الوصول اليه؛ لكن لا يمكننا التنبؤ بأشكال الحياة في المستقبل، ولم نستطع للآن الإجابة عن سؤال تشارلز ليل.
الإيمان بما لا نستطيع التنبؤ به
أتأمل ملامح هذه المرأة وكأنني أعرفها جيدًا، وأتساءل حقًا عن هذه الصدفة التي أوصلتني لهذه المحاورة وماذا سيحدث إثْرها! ترتسم على وجهها ابتسامة جانبية، وتعود لفتح حوار آخر باستهزاء هذه المرة “هل هؤلاء الذين يقومون بالطقوس يحاولون دفع خسوف القمر أيضاً؟”.
أتذكر القصة المكتوبة عن كريستوفر كولومبوس [2] في إحدى رحلاته البحرية عام ١٥٠٤؛ علِقَ هو وطاقمه في الساحل الشمالي من جزيرة جاميكا بسبب ثقب في السفينة، امتنع سكان الجزيرة عن تقديم المعونة لهم بسبب سوء أخلاق الطاقم، فانكبّ كولومبوس على أوراقه للبحث عن مخرج للمأزق الذي وقع فيه فوجد أن ثمة خسوف سيحدث في ٢٩ شباط ١٥٠٤، استغل هذا وجمع أعيان الجزيرة لتهديدهم بأن الآلهة ستغضب وتخفي القمر ثم يظهر بدلاً منه قمرٌ أحمرٌ مهيب إذا لم يقدموا لهم المعونة؛ لم يصدقه أحد ولكن في الليلة التالية حدث الأمر كما قاله تمامًا، فتوجس السكان خيفةً والتزموا بتقديم المعونة.
“خسوف القمر موضوع سهل التنبؤ، فلا يشترك فيه إلا ثلاثة عوامل: موقع الأرض وموقع الشمس وموقع القمر، وكلها تتنبأ بها المعادلات”، أقول لها هذا الكلام وأنا أفكر بأنه قبل التوصل لصيغ رياضية في حركة الكواكب لم نكن نعلم هذا الأمر، والدليل هو سكان الجزيرة الذين لم يصل لهم العلم فصدّقوا الخرافة التي اختلقها كولومبوس، وتساءلت في نفسي، هل سيأتي يوم ننظر فيه للمصلّين لاستجلاب المطر كما نرى سكان الجزيرة في موقفهم من الخسوف الذي حاولوا إبعاد تكرره بتقديم المعونة لعصابةٍ أساءت لهم؟
الإنسان منذ اكتسب الوعي وهو يبحث عن الأنماط في كل شيء، ولطالما ارتبطت هذه الأمور بالطقوس الدينية، فشروق الشمس وغروبها أمورٌ تحدث دوريًا مما جعلهم يتنبأون بتكرار الأمر دائمًا، وجعلهم يسمون هذا التكرار بـ “اليوم”، وكانت الصلوات اليومية مرتبطة بشروق الشمس أو غروبها أو أي مظهر يتعلق بها. كما أن تكرار أطوار القمر جعلهم ببعض التقاويم يعتبرونه شهرًا، تكرار الفصول الأربعة هو الذي خلق مسمى السنة، وكم من المناسبات الدينية منذ بدأ التأريخ مرتبطة بظواهر فلكية؛ وأشهرها عيد الفصح في المسيحية الذي يلي اليوم الرابع عشر للقمر في ٢١ مارس أو بعدها، وهنا كان لعلم الفلك نصيب الدخول للكنيسة حيث استخدموا دورة ميتون، وهو لوغاريتم معقد يسمح بالتنبؤ بعيد الفصح، أو ليلة رد الشمس (شب يلدا) وهي أطول ليلة في السنة، إذ اعتقد الزرادشتيون أن في هذه الليلة يحاول (أهريمن) وهو بمثابة الشيطان أن يتغلب على الإله (أهورا مزدا) في نشر الظلمات، فيخرج الناس للشوارع لإشعال النيران لطرده ويحتفلون عندما تطلع شمس اليوم التالي، وأمثلة أخرى كعيد النيروز أو الربيع وغيرها لا يتسع المجال لذكرها هنا. كما رصد الإنسان تكرار أنماط النجوم التي أطلق عليها اسم الأبراج السماوية، وزاد على الأمر أن ربط حركة الأجرام بمصائر البشر وأقدارهم.
فهل هناك سبيل لاستخراج الأنماط من الأمور التي تبدو عشوائية كالطقس؟
هل يزيد البشر من فوضوية الأحداث والبيئة؟
نغادر المقهى ونعود للسير بلا هدف محدد، وكأننا اتفقنا على ألا نتفق، تبدأ السيدة بصنع حركات ورقصات بأيديها بل وتلتف بدوائر، فسألتها بدوري “هل هذه طقوس لشيء ما؟”، “لا، أنا فقط أتعلم الآن درسًا مثيرًا من هذا المكان، أن تفعل أشياء كثيرة كل يوم دون أن تعلم الى أين ستصل، يا لها من حريّة!”.
أضحك معها وأقرر مشاركتها رقصاتها الجنونية، وما أن نفرغ ونحاول التقاط أنفاسنا الممزوجة بالضحكات العالية، أتلو على مسامعها اقتباسًا من فيلم Cloud Atlas محفور بذهني.
“طبيعة حياتنا الأبدية ما هي إلا نتيجة لأقوالنا وأفعالنا، حياتنا ليست ملكًا لنا، من ميلادنا وحتى مماتنا، نحن مرتبطون بالآخرين، لقد ولدنا من أجلهم في الماضي والحاضر، ومع كل جريمة أو فعل خير نرتكبه نَخلُُقُ مُستقبلنا”.
تحاول المرأة بجدية شرح بعض الأمور عن عالمها لتقربها لذهني، فعندهم شبكة إلكترونية معقدة توصل أدمغة كل البشر ببعضهم، في عقل كل منهم يتم رصد احتمالات نتائج القرارات المهمة التي قد يتخذها، يتم فورًا احتساب الآثار التي تترتب على كل احتمال وإعطاء حلول مثلي وفقًا للبيانات التي تم إدخالها في التطبيق الموصول بالدماغ مع الهاتف، وتبعًا لذلك يختار الشخص القرار الأمثل قدر الإمكان، لكن الأمر لا يقف عند هذا الحد، فالمحاكم مملوءة بالشكاوي نتيجة إبداء الشخص مصلحته وإن كان سيتسبب بأذية محتّمة لغيره.
أفكر بكلامها وأقارنه بواقعنا؛ فطبيعة البشر واحدة حتى في العوالم المتشابهة فيزيائيًا، ولكن عندما يتخذ أيًا منا قرارًا يعتبره الأقرب للصواب لا يكون يعلم مسبقًا حجم الأذية التي قد تلحق بغيره، حيواتنا متشابكة بتعقيد يصعب التنبؤ به، تعقيد مفتوح للتأثير والتأثر بالمحيط الخارجي.
وها نحن نغيّر في الأغذية ونصنعها ونهجّن النباتات ليؤدي كل ذلك للتأثير في الكيمياء التي تدخل جسم الإنسان، كما لنا يدٌ تتدخل في تغيير الطقس بسبب المخلفات الصناعية وعوادم السيارات بل ومن زيادة أعداد الأبقار التي تزيد غازاتها من الاحتباس الحراري، هذا ولم نتحدث بعد عن محاولات إبادة مسببات الأمراض أو تحسين النسل البشري، وهذا ما بدأ بالحدوث بالتعديل الجيني باستخدام تقنية كريسبر، فما تأثير كل هذا على طبيعة البشر؟ وما هي كمية الأسباب التي علينا البحث بها لنتنبأ بأي حدثٍ معقّد يبدو عشوائيًا أو فوضويًا؟
يطرح الخبير في مجال الابتكار (أليك روس) في كتابه (صناعات المستقبل) قضية الجانب المظلم من علم الجينوم؛ إذ يتحدث عن تقديم برنامج للبيانات الضخمة يقوم على المعلومات الطبية والسلوكية والبيئية، بهدف تقديم مجموعة من التوصيات للشخص ليتجنب الأمراض التي قد تصيبه، يعني أن تذهب للفحص فتستلم تقريرًا يعطيك حلولاً لتحسين حياتك، حلول لك أنت فقط مبنية على قراءة جينومك لا مجرد دراسات ذات نتائج إحصائية معمولة على عينة عشوائية من البشر، ليس كاملاً بعدُ هذا البرنامج بل يتعلق بالجزئيات التي استكشفها العلماء للآن، وقد يتم تقديم عقاقير تُجنب المرء ما تم التنبؤ بحدوثه، ولكن هل ستكون حياة مُرضيَة أم مَرَضِيّة؟
عاد لشنق نفسه بالحبل السُريّ
في فيلم The Butterfly Effect يتم عرض الجانب الفكري المتعلق بما يعرف بنفس الاسم (تأثير الفراشة) في نظرية الفوضى، حين يدخل بطل الفيلم مع أمه إلى بصّارة تجيبه بأنه لا يملك روحًا، وأنه غير موجود! صديقنا هذا يمتلك قدرة خارقة على السفر عبر الزمن، عن طريق قراءة مذكراته، فينتقل لليوم المعني ويستطيع تغيير تصرفه الذي تسبب بنتيجة يعتبرها غير مرغوبة، من هنا بدأ بمحاولات حثيثة لتعديل حياته وتغيير القرارات التي ندم على اتخاذها، فيدخل في متاهة، حيث كل محاولة تؤدي إلى نتيجة أسوأ من سابقتها، بسبب الحساسية المفرطة للظروف البدئية فكل تغيير ولو كان بسيطاً سيغير حياته تماماً ويؤدي لنتائج صعب التنبؤ بها، حتى يقرر مشاهدة فيديو ولادته ليعود ويشنق نفسه في الحبل السري.
الوعي البشري في طوره الحالي ليس مؤهلاً بعد للإلمام بكل التفاصيل التي تؤدي إلى نتيجة معينة، كلما تقدم العلم كلما اكتشفنا أن عملية استخراج الأنماط أكثر تعقيدًا مما نتخيل، خاصة مع تدخلات الإنسان (ما استعرضت بالعنوان السابق)، ولكن لا شيء مستحيل، فطالما خدمتنا الرياضيات في الوصول لنظريات فيزيائية تصف سلوك الطبيعة الذي لا يُعدّ البشر شيئًا مستثنى منها، سيأتي ذلك اليوم الذي نقوم فيه بتلخيص السلوك البشري ربما ببضع قوانين، فينظر أولئك البشر للوراء ويقولون “أووووه لقد كان أسلافنا يعانون من أفكارٍ حول الفوضى والعشوائية، وليس الأمر إلا بضع قوانين بسيطة كانت في قعر كأس التعقيد“، وحتى ذلك اليوم أتمنى أن نستمتع بكل لحظة في بشريتنا في هذا النطاق المحدود، وألا نتوقف عن الاستمرار في التقدم.
تنظر لي السيدة ذات الشعر الأبيض من وحي خيالي بابتسامة ملائكية، تمسك يدي بحنو الجدة وتهنئني على رغبتي باستعراض سريع لمظاهر نظرية الفوضى في حياتنا، وتحكي لي أن الحريّة مع قدر قليل من التنبؤ تهب الإنسان روحًا مميزة وتُبعده عن أن يكون نسخة عن غيره، ثم تغادر المكان تاركةً هذه الذكرى التي خطيتها في هذا المقال المتواضع، لم أتنبه أنها قد تكون أناي المتطورة من بُعدٍ آخر أتت لتدلني على الطريق لأحقق ما أطمح له، لكنها تراجعت لتهب لي حرية الاختيار والوصول لمكانٍ أكثر إثارة عما وصلته في عالمها الموازي.