اختلافُ مصائر البشر تحت عدسة البيئة: مناقشة كتاب أسلحة جراثيم فولاذ

يبدو أحيانًا التاريخ المكتوب مراهقًا يهذي بالكثير من الهراء، حَلَبة آراءٍ متناقضةٍ متصارعةٍ سياسيًا واقتصاديًا، هذا ما نخرج منه حين تتتالى علينا كتب التاريخ، تتحدث عن الحروب والفوز والخسارة، وعن التكتّلات البشرية بثقافاتها، كيف التَحمَت وكيف تفكّكت. حين ننظر إلى حاضرنا محاولين إعادة فهمه من خلال خط سير الأحداث في الماضي، نجد اختلافًا في مصائر البشر حول العالم، فمن قبائل ما زالت تمارس نمط الحياة البدائي، إلى الدول التي حاربت الطبيعة القاسية بابتكاراتها، وتجاوزت الحاجات الأساسية بدراسة الفضاء وعالم الكم .

فما هي الأسباب التاريخية لهذا البون الشاسع؟ لماذا لا تتشابه المجتمعات البشرية التي تعيش نفس الزمان ومتاحٌ لها نفس المعارف؟ هل هي سياسة واقتصاد ونظريات؟ أم أنها أسلحة وجراثيم وفولاذ؟ سأناقش في هذا المقال النموذج التفسيري الذي وضعه جاريد دايموند في كتابه (أسلحة جراثيم فولاذ)، والذي يعتمد على الجغرافيا الحيويّة، ويربط أكثر من مجالٍ علمي، متّبعةً نمط استعراضٍ عكسيٍّ للأفكار الواردة.

سأطرح فكرة النماذج التفسيرية ثم أستعرض فكرتين جوهريتين حين نرصد مسألة تباين المصائر البشرية في الوقت الحاضر، وما يتعلق بهما من إشكالياتٍ مبدئية، وهما حول تباين القدرة على الاختراع، ونتائج تزايد الكثافة السكانية للتجمّعات البشرية وعلاقتها مع تسارع التطور، ثم أناقش فكرة الحتمية الجغرافية التي اتُّهم الكتاب بها، وأهمية البحث عن إطارٍ علمي للتاريخ. وبعدها أستعرض نموذجه التفسيري بقليلٍ من التفصيل خاصة فيما يتعلق بالماضي البعيد، وأخيراً أطرح أهم الفجوات والحجج التي طرحها الكاتب.

السعي نحو نموذج تفسيريّ

جلسة عصف ذهني سرمدية، تتشابك خطوطها ثم تعيد التفكّك محاولة إصلاح الأخطاء بأخطاءٍ أقل فشلًا، عبر الأزمان التي عاشها الكائن البشري على سطح الأرض، إنها محاولاتنا العنيدة لفهم العالم، لكن العالم أكبر بكثير من أن يُفهم مرة واحدة وإلى الأبد.
يبدو أن وشوشاتنا وصرخاتنا المتتالية أرّقت نوم أمّنا الأرض، غايا التي لا تستيقظ إلا بعد مرور عصور على سباتها اللا واعٍ، لأول مرة تفيق على شعورها بفكرة تجول بخاطرها، تُدركها، وتعي أن هذه الفكرة تنتمي لها، إنها جزء منها، خرجت من تجمّع العقول البشرية، وأصبحت كابوسًا مقلقًا أحيانًا، وفكرة مثيرة مؤرّقة تسترعي كامل الانتباه.

وتلك الأنا الضئيلة التي نستشعرها بأنفسنا، ليست إلا هباءة تحوم في عالم غايا، قد تكون تلك الهباءة محمّلة ببذور أفكار جديدة تعيد ترتيب الخيوط العامة لمعارف البشرية، قد تنبت وتزهر وتتألق.
تمنحنا المعارف البشرية تعاونًا مثيرًا يضمنا إلى شبكةٍ كبيرةٍ من الغرباء، ما إن نقرأ أفكارهم حتى تولد بقلوبنا تقبلًا أو نفورًا، وتتّقد بعقولنا فكرةً أو تجهض أخرى، وليس ثمة ما هو أكثر إثارة من تلك الكتب والبحوث التي تحاول حبك الخيوط المتباعدة جدًا، الرؤى التي تحاول الانفلات من الزوايا الضيّقة لتضع أطرًا عمومية مفتوحة المصدر قابلة للتعديل.

إعلان

تسير المعارف البشرية نحو التخصّص الدقيق جنبًا إلى جنب. الجمع غير المتوقع بين التخصصات، فنحن نعلم أن الكائن الحي مكون من كيمياء وهي مكونة من ذرات بدورها، فتتماهى التخصّصات وتتشابك لتخرج برؤى مفيدة، كما بدأت حركة الجمع بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية في مرحلة ليست ببعيدة في تاريخ العلوم، ومهما ظنّنا أن في هذا اختزالًا مريعًا للكائن البشري، إلا أنه سرعان ما يتبين لنا أن الاختزال الجيد القائم على محاولة التبسيط مختلف عن التعقيد السخيف الذي لا يقدّم إلا المزيد من الحيرة، ومحاولات تفنيد تلك النظريات واضحة بالأطروحات التي تتضارب بشكل صارخ أمامنا، فكيف نشعر أننا نمشي بطريقٍ تفسيريٍّ صحيح؟ وما التفسير الذي يقدّمه جارد دايموند لفهم سبب التباين بين البشر؟ هل عثر دايموند على سر العلم في التاريخ (النمط)، النظام من الفوضى؟

الفضول وحب العبث

على أكتاف العمالقة السابقين، تستند الاختراعات الأكثر جدّة، وهذا ما لا يمكن فهمه من النظرة الأولى لتاريخ الاختراع، فنحن لم نتخلّص بعد من أساطير البطولة الفردية، فتدفعنا الإثارة للإشادة بالاسم الأخير الذي توّج المعارف في شكلٍ واحدٍ واضحٍ من الاختراعات المادية أو الكشوفات المعرفية. فتنهمر الأقلام لكتابة ملحمة الاختراع، ولا تسلم أي تفصيلة من حياة المخترع إلا ويتم توظيفها في سياق سرد عبقريته الفذّة وفضوله وباقي محاسنه التي جعلته نبيًّا برسالة سامية.

عند مراقبة الاختراعات الحديثة عن كثب، نستكشف تلك الخطوات البسيطة كثيرة التعثر عبر العالم، والتي يجزمها صاحب الحظ العظيم، نجد أنها تحوّرات وظيفية لشيء موجود أصلًا، أو جمع غير مسبوق بين أفكارٍ كانت تبدو متباعدة، أو تتويج لسلسلة طويلة من الكشوف في ملاحظة أخيرة تجعل الأمور مفهومة. أما الاختراعات القديمة التي لا نملك بيانات كافية عن كيفية ظهورها، فيبدو أنها حصيلة محاولات متكرّرة من المراقبة والتجربة والخطأ، وفي مرحلة البزوغ تبدو تلك الاختراعات إما مرحّبٌ بها بشدة بسبب تلبيتها لحاجة ما، أو أنها تتلقى مقاومة قبل إيجاد أداة مناسبة تجعلها قيد التنفيذ.

عند مراكمة الاختراعات، تتقدّم الأمة على غيرها، كونها أصبحت أكثر قدرة على تلبية احتياجاتها، وتتفوق في قدرتها في محاولة حماية نفسها، ولكن .

ما هو السبب الرئيسي الذي يجعل أمة بالذات أكثر إنتاجية من غيرها في مجال الاختراع؟

إن مجال محاولة إيجاد نموذج تفسيري للإبداع شائكٌ جدًا، تعوم التفسيرات التي تعمل بمبدأ الهندسة العكسية، فهي تقدّم التفسير بعد حدوث الأمور وذلك لا يبدو كافيا بمعظم الحالات. يناقش دايموند في كتابه العديد من النماذج، تلك التي تعتمد على المنظومات السياسية والاقتصادية، أخرى عقائدية، سأحاول استعراض بعضها لتكون مفهومة.

يبدو كأن توفر اليد العاملة الرخيصة في مكان يسرع عملية الاختراع، لكن على الجانب الآخر نجد أن نقص الأيدي العاملة يكون حافزًا لإيجاد أجهزة تختصر المهمّات! وحين نعتقد أن ثمة ديانة صنعت حضارة بسبب تشجيعها على الاكتشاف نجدها بمكان آخر أو وقت آخر تثبط من محاولات المعرفة والتجديد، ثمة دول تتساهل مع اختلاف الآراء فيبزغ الاختراع، وأخرى تغوص في تنوع فوضوي يفشل في استنباط شيء ذي قيمة. حتى الحروب دارت حول الاختراع في حين، وآخر دكّت بالاختراعات ومسحتها. في حين قد تكون البيئة المريحة غير دافعة إلا للاسترخاء، تبدو أنها تعطي مجالاً واسعًا للابتكار.

لقد بدأت مقالي من منتصف الكتاب، وذلك لترك الأمور غير الواضحة متقدة في الأذهان، فهل وسع نموذج دايموند التفسيريّ لتحليل مصادر الاختراع؟ وما الذي يحفّز التكنولوجيا؟ ولماذا استمرت الحضارة الغربية إلى اليوم تتسارع في قوتها وعلمها؟

تزيد الكثافة وتتّسع الشبكات

حين نفكّر بسؤال معقد يبحث عن تفسيرٍ للتباين الحضاري الحالي، فنحن بحاجة لتوضيح الاختلافات الكبرى التي حدثت عبر الزمن، فالفرق بين أسلافنا الذين لم يعرفوا إلا التنقل باستخدام أقدامهم مقابل وسائل التنقل والاتصال الحديثة، فرق كمّي يتولّد عنه تسارعٌ في التطور.

يدرس الكتاب التنوع البشريّ المجتمعيّ محاولًا تصنيفه في أربعة أنماط رئيسية، والحدود بين هذه الأنماط اعتباطية لغرض البحث، إذ إن كل مرحلة تنمو من مرحلة سابقة، وهذه المراحل هي العصبة والقبيلة والمشيخة والدولة.

تمثل العصبة مجتمعًا صغيرًا جدًا يضم أقارب بالولادة والزواج، عادة ما يكونوا غير مستقرين بمكان واحد، مثل البدو وجامعي الطعام، في العصب لا يوجد تراتبية اجتماعية أو تسلّط في اتخاذ القرارات، فقط يتم توزيع الأدوار البسيطة. وحين تجتمع أعداد تصل للمئات لا يعرفون بعضهم، يتحوّل التجمّع إلى قبيلة تتقاسم اللغة والثقافة ذاتيهما، تشترك بالمكان ومصادر الحاجات، إذ تنتج الغذاء بنفسها، أما عن اتخاذ القرار فيكون بيد مجموعة حاكمة، وتقدّم الخطوط الفاصلة بين القبائل ضرورة التصنيف إلى صديق وعدو.

حين يصل عدد الأفراد إلى آلاف، تتحول إلى مشيخة، القوة تتركّز بيد حاكم، ويظهر تنوع أكبر في التخصصات والوظائف التي لا تنتج الغذاء بشكلٍ مباشر، ومن ثم، تساعد وسائل الاتصال والمواصلات في خلق دول وأمم كاملة خاضعة لحكم تسلطي وقوانين تحوي جمع الضرائب وشرطة تحفظ الأمن.

كيف يتم تنظيم الأمور في الدول مع اتساع المساحة وزيادة عدد السكان؟

النخبة التي تنال الدعم الشعبي في الدول، عادة ما تستخدم حيلًا قانونية، مثل نزع السلاح من المواطن العادي مقابل التكفّل بحمايته بالقانون، وإسعاد الجماهير بإعادة توزيع الضرائب أو الأتاوة بخدمات عامة، والأهم من ذلك هو تأسيس أيدولوجية ذات شعارات برّاقة تخلق روابط بين أعداد كبيرة من الناس، وتجعلهم على استعداد للتضحية بأنفسهم في الخلافات الكبيرة مع الدول المجاورة، وقادرون على تبادل المصالح.

ويأتي الآن السؤال، كيف يتدخل عامل التوسّع الجغرافي والزيادة السكانية في تفوق الحضارة واستمراريتها؟ تاريخيًا شهدنا النقيضين، إذ كان التوسع مرة سبب الازدهار ومرة أدى للانهيار. فما هي الشروط والظروف التي تتدخل لتحفيز الإنتاج والاختراع وبالتالي تحقيق التفوق الحضاري؟ وماذا عن الولايات المتحدة وأوروبا في الوقت الحالي؟ لنترك السؤال مفتوحًا حتى نستكمل استعراض نموذج دايموند التفسيري.

هل نهرب من الحتمية الجينية في تحديد مصائر البشر، لنؤكد الحتمية الجغرافية؟

أتيت على الحديث عن أهم موضوعين في دراسة دايموند حول مصائر البشر، عن أسباب الابتكار، وتأثير المساحة والكثافة السكانية، وهما أهم جزئيتين تقوم عليهما الحضارات الحالية. الآن، سأنتقل للحديث عن جزيئيتين متعلقتين بالشكل العام لبحثه.

عند الرجوع للخلف قليلًا في تاريخ العلوم، والبحث في الأطروحات التي بدأت تسأل عن أسباب اختلاف مصائر البشر، والتي برزت تحديدًا في عصر التنوير، حيث كتبت بأقلام المنتصرين، نجد الاستعراض والتباهي والذي لا نجهل ظواهره. ففكرة التفوّق العرقي، وفكرة الأعراق البشرية أصلًا، فكرة متجذرة في التاريخ الثقافي في الأنثروبولوجيا والتاريخ، وهو اعتقاد بأن البشر منقسمون إلى أعراق وأنواع مختلفة في درجات الذكاء والقدرات جعلت الأوروبيون هم أسياد القوة والتكنولوجيا.

هذه النظرية التي تدّعي صحة الحتمية الجينية، والتي تغاضت عن النظر إلى التفوق الحضاري السابق للصين أو العالم الإسلامي أو حتى حضارات أكثر قدمًا مثل الفراعنة، فيأتي دايموند بعد دراساته الميدانية في بابوا غينيا -كعالم أحياء يدرس الطيور-، مدفوعًا بسؤال شخص يدّعى يالي، والذي كان الشرارة لبناء هذا البحث الضخم، “لماذا تطورتم أنتم البيض ولم نتطور نحن السود؟”، يأتي ليسعى للحصول على إجابات أكثر جوهرية من هذه.

ثمة معضلة ترافق أي محاولة تفسيرية، فقد يعني طرحك لأسباب حدوث ظاهرة حساسة مثل اختلاف مصائر البشر، وكأنه تبريرٌ لهذا الاختلاف، وبالتالي يترتب عليه راحة أخلاقية وتملّص من المسؤوليات الأممية. ولكن علينا ألا نقع في شرك (المغالطة الطبيعية)، والتي تعني ببساطة أن التفسير للظواهر يعني محاولة فهمها كما هي ولا يتبع التفسير أي قانون أخلاقي، فالفلسفة والمنطق والإنسانية تتكفّل بإنشاء المنظومات الأخلاقية التي تراعي الطبيعة البشرية وتعمل بشروطها كي تنجح.

الفروقات المثيرة بين التواريخ الطويلة لشعوب في قارات مختلفة، ليست فروقاتٍ جينية بين الشعوب نفسها، ولكنها فروقاتٌ تتعلق بالبيئة.

ماذا يقصد دايموند بالفروقات البيئية؟ وكيف اختلفت النتيجة الحضارية في نفس البقعة الجغرافية على مر العصور؟ وهل ما قام به هو خروجٌ من مستنقع الحتمية الجينية للوقوع في وحل الحتمية الجغرافية؟

نحو مستقبل أفضل للتاريخ!

إن الحقل التاريخي لا يبدو علمًا بشكل عام، إنه تابع للإنسانيات المفتوحة على اختلاف الآراء وطرق الطرح، والاستعارات المستهزئة _مثل العبارة الافتتاحية للمقال- والتي تعني أن التاريخ مجرّد حقيقة تلو الأخرى كثيرة التقلّب ولا قانون لها؛ هي النظرة الأكثر انتشارًا خاصة من أولئك الذين يمارسون العلوم بمعناها الضيق. ولكن حين نفكر بالمجالات التي أصبحت تشملها العلوم التاريخية مثل الفلك والتاريخ الطبيعي، فنجد أننا أمام حقل قابل للدراسة ولكن بطرق مختلفة عن التجربة والبرهان.

مناهج البحث في مساقات التاريخ تعتمد على الاستقصاء وجمع الأدلة، وعلى الملاحظة والمقارنة ووضع الأطر العامة، وهي لا تسعى لإيجاد سبب نهائي فاعتمادها على التكهن كبير. وكل الصعوبات التي يواجهها المؤرخون تتجلى في عدم قدرة النماذج التفسيرية على التنبؤ، فملايين الأحداث الصغيرة غير القابلة للرصد والقياس تعني ببساطة أن ثمة فوضى في الدراسة. ولكن النماذج التفسيرية توضع حتى يتم اختبارها مرارًا وتكرارًا، وهي ليست نماذج نهائية بحال من الأحوال، بل نماذج _كما ذكرت_ مفتوحة المصدر وقابلة للتعديل.

كل هذه الصعوبات التي تعترض طريق تحويل التاريخ البشري لعلم، والتساؤلات العالقة عن الحتمية الجغرافية، وأسباب الاختراع، ونتائج التوسّع البشري، سنضعها بعين الاعتبار أثناء محاولة استعراض جوهر الكتاب في القسم التالي، ثم نعود لها فيما يليه.

قد يعجبك أيضًا

أسلحة جراثيم فولاذ

وأخيرًا! سأتحدث عن النموذج التفسيري الذي صدعت رؤوسكم بالتقديم له. يبدو لي ممتعًا إعادة ترتيب استعراض فكرة الكتب، فهذا يعني أنني أتفاعل معه كما يحلو لي وليس كما هو مخطّط.

حسنًا. القارات تختلف من حيث البيئة بمواصفات بيئية وديموغرافية، فمن الأماكن الاستوائية وصولا الى الأماكن المتجمدة هناك الكثير من التنوع، وقد حاول دايموند تفصيل مجموعات رئيسية من الاختلافات:

  1. أنواع النباتات والحيوانات المتواجدة كمواد قابلة للتدجين والاستفادة البشرية، فقدرة أماكن معينة على اكتشاف الزراعة وتطوير محاصيل معينة، وتدجين حيوانات بدلا من الصيد، غيرت من ملامح الحياة إلى الاستقرار بمكان واحد، ومراكمة فائض من الغذاء، وإيجاد تخصّصات أخرى مثل الحماية والحكم والزعامة الدينية وغيرها. وعلى الجانب الآخر أدى الاحتكاك مع الحيوانات بشكل مباشر إلى تطوّر أنواع من الأمراض، ومع الكثافة السكانية انتشرت الأوبئة وبالتالي المناعة.
  2. أنماط الهجرة والمدى المؤثّر لانتشار الأفكار والاختراعات، والتي تختلف من قارة إلى أخرى بناءً على مظاهر بيئية مثل صعوبة التنقل في حالة الجزر المعزولة أو وعورة التضاريس، أو سهولته في الأماكن السهلية. وهذا مختلف في حساباتنا الحالية بما هو متاح من تقنيات.
  3. اختلاف قاري في المساحة المتاحة والكثافة السكانية، وهي النقطة التي تحدّثت عنها سابقًا.

* جولة حول العالم

في الكتاب تفاصيل مطوّلة من حول العالم تؤكد على نتائج هذه الخصائص البيئية، خاصة قديمًا. مثل سهولة حدوث الثورة الزراعية في الهلال الخصيب بسبب اختلاف الفصول وتتابعها وسهولة حصد المزروعات وتنوع المواد الغذائية من نباتات المنطقة، وأتى أيضًا على أسباب لفشل هذه المنطقة في الحفاظ على تميزها فيما بعد بسبب انتقال الاهتمام الأكبر للاختراعات التقنية بدل الزراعة، ونوع من الانتحار الأيكولوجي الذي حدث للمنطقة بسبب الزراعة طويلة الأمد. فالخصائص البيئية تأتي لتخدم المنطقة ولكن وفقًا لشروط التفوق في زمن معين. يعني ببساطة هناك أدوات بيئية وعامل تفوق زمني، فيستطيع الإنسان استغلالها (وربما اهمالها) فتؤثر على مكانته.

والمثال الأبرز هو تفوق الأوروبيين وغزوهم لمناطق أمريكا، والتي كانت منعزلة ومكتفية بأسلوبها الذي يحقق الاستدامة لهم، لكن وصول الأوروبيين إلى تلك المناطق مع أمراضهم التي لا تملك أمريكا القديمة مناعة ضدها، (بسبب عدم تعرضهم لها لأنهم لم يتوفر لهم هذه الأنواع من الحيوانات لتدجينها.) واختراعاتهم للأسلحة واستخدامهم للخيول أدت لنتيجة مخزية تاريخيًا أبادت شعبًا كاملاً. وطبعًا لنذكر هنا أن التفسير هذا لا يعني التبرير مطلقًا.

وهذا هو شرح عنوان الكتاب، فالأسلحة والجراثيم والفولاذ، هي خصائص أساسية تدخلت بالتباين بين الشعوب، وهدف المقال ليس تلخيص أكثر من 600 صفحة، لذلك أدعوك لقراءة الكتاب بتأنٍ للحصول على أمثلة أكثر حول العالم، ولكن اختبار النماذج التفسيرية يمتد أبعد من الأمثلة المطروحة، خاصة اختبارها على الأحداث الجديدة والمشهد الحالي للعالم.

ثغرات وعوائق تفسيرية

في حين يطرح دايموند نموذجه، والذي ينطبق بشكل كبير على أسباب التفوق الحضاري القديمة (التدجين، الزراعة، الدول، التخصص، الكتابة ..الخ)؛ لا يغفل هو نفسه عن التفكير بصوت مرتفع في العوائق والثغرات التي ظهرت أمامه، في محاولته لإيجاد نمط عام قابل للتطبيق على الحاضر، وأن يملك بعض القدرة على
.التنبؤ، فقد أصبحت كل تلك العوامل غير متصلة مع القدرة على التغلب عليها

لنتفق أن ما طرحه هو إطار عام قابل للتعديل، ولكن، هل يعقل أن البيئة _بتعريفها الواسع_ هي المسبب النهائي لكل الاختلافات بدون استثناء؟ حتى لو ضممنا التواصل الجغرافي والتفاعل الثقافي، فهل يُعقل أن نجد عوامل جغرافية تقف وراء كل منظومة ثقافية؟ وهل يمكننا استنباط عوامل دافعة للاختراع في عصرنا الحالي؟ كيف تعمل الكثافة السكانية وتوسع المساحة كعامل دافع أو مثبط للتطور؟

* جواذب غريبة!

يحاول دايموند الخروج من بعض هذه المآزق بالحديث عن الشذوذات التاريخية التي لا صلة لها بالبيئة ظاهريًا، والتي قد تتحول إلى ظاهرة ثقافية متنفذة وطويلة الأمد، وهي مجرد “مصادفات فردية قذفت أوراقها الدوارة إلى مسار التاريخ لتتضخم وتفاجئنا نتائجها”، وهي ظاهرة قابلة للتفسير من خلال المدى الأوسع لدراسة التاريخ، أي أنها مثل الجواذب الغريبة في نظرية الفوضى، تشكّل أنماطا تكرارية ولكن عبر مرور زمن طويل.

* التحفيز الذاتي

أما عند الحديث عن دوافع الاختراع والابتكار، فالمسألة تتعلق بما يعرف ب (التحفيز الذاتي)، وهي العملية التي تتسارع مع مرور الوقت لأنها تحفظ نفسها بنفسها، وهذا ما تفعله التقنيات، ففي الوقت التي تبدأ بالظهور أول مرة، نجدها تولّد نفسها، كما يتدخل بعملية التحفيز الذاتي عامل المساحة والكثافة السكانية، لأن هذا يحقق تعقيدًا اجتماعيًّا أكبر فيؤدي إلى تنظيم شبكات أوسع مثل شبكات الري وإنتاج وتصدير المعادن والأدوات وتطوير الصناعات وصولًا إلى الشركات العالمية، وكل هذا نابع من التنوع الكبير الذي تحظى به التجمعات البشرية الأكبر، ووجود تنافس يخلق أفكارًا جديدة. ولكن المسألة تتعلق بنقطة البداية التي تتصل بالبيئة وأسباب النجاح حسب الفترة الزمنية. يعني الآن هناك عوامل محيطة لا تتعلق فقط بالطبيعة الجغرافية للمكان، بينما بالاختراعات السابقة التي سهّلت الاتصال والمواصلات، وقللت من تأثير الأوبئة والأمراض والعوامل المناخية، فحيّدت دور الجغرافيا المباشرة للانطلاق من خصائص وتكيّفات جديدة.

يبدو لي أن نموذج دايموند التفسيري حول اختلاف مصائر البشر أصبح من كلاسيكيات العلوم التاريخية المهمة، وما تبعه من كتب تبحث في التاريخ الثقافي لكل خصائص الحضارة اعتمدت عليه بشكل كبير، وثمة توسيع للمنظور الذي بدأه ورد في كتاب (موجز التاريخ الطبيعي للحضارة)، والذي أبعد زاوية النظر ليشمل تاريخ الحياة كلها، ليستنبط خصائص أصيلة استمرت مع أحداث التاريخ البشري، يمكنكم قراءته على منصة المحطة.

المقال مناقشة لأطروحة جاريد دايموند في كتابه أسلحة جراثيم فولاذ.
الكتاب مترجم للعربية من قبل الدار الأهلية للنشر والتوزيع.
الأفكار الواردة في المقال هي محاولة الكاتبة لوضع النموذج التفسيري في سياق المعرفة الحالية المتحققة.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: دعاء أبو عصبة

تدقيق لغوي: بيسان صلاح

الصورة: سارة عمرو

اترك تعليقا