أفكارٌ عالقة

من طرقَ بوابة رأسي؟ اخترقت أذني من الداخل صرخات وأنين تلك الأفكار الحبيسة، لو أنه بمقدور أحدهم اختراع جهازٍ يفحصُ ما تبقى من وقت للفكرة حتى تولد! تأتيني أعراض المَخاض، فأهرعُ للصفحات الفارغة محاولة الكتابة، أتألَّمُ وأصرخ، أتنفسُ بعمقٍ وأنتظر، ثم لا شيء! لم يحن الوقت بعد.

ترتصفُ الكتب التي تتحدث عن الكتابة على رفوف المكتبات في كل العالم، يحاول الكتّاب جاهدين لوصف شعورهم ودوافعهم وتقنياتهم، يتباهون، يتفلسفون، يشتكون؛ وأنا أجلسُ هنا خلف مقود عقلي، أنتظر لحظة الإقلاع، تصدمني الكتب والمقالات من كل النواحي، ولا حراك، تصطف النصائح خلفي، والمدائح، والدعوات، تدفعني وتدفعني، ولا حراك. لم يحن الوقت!

فهل ثمة من بحث في سؤالي، لماذا لا نمارس الكتابة؟ هل بإمكاني إضافة محتوى عليه القيمة؟ هل لدي دافع قوي للكتابة عن “اللا كتابة”؟ لأسباب اغترابي عن عالم أشعر أنني أنتمي إليه؟

حُمّى المعرفة المثالية ..

نظرتُ للمقدمة التي كتبتها للتو، فكّرتُ وفكّرتُ، واو! يا لها من فكرة ثرية، فهل كتب أحدهم عن الأمر سابقًا؟ هممم ، طبعًا ثمّة أحد، لعلي أبحث جيدًا في مكتبتي، وعن تلك الكتب التي لم أعرفها بعد، سيكون الموضوع مذكورًا في السير الذاتية، وكم أنا مقصّرة في قراءة السير!

ولكن كيف أبحث عن أولئك الذين لم يكتبوا أبدًا رغم رؤوسهم الممتلئة، كيف أعلم ما يدور برؤوسهم إذا لم تتجاوز الفكرة سقف ذواتهم؟ وهل ما أمتلكه غير كافٍ للتدوين؟ هل تجربتي، استنتاجاتي، والمعلومات العالقة، لا تؤهلني للكتابة؟

إعلان

جزيرةُ الكتابة مكانٌ شبه معزول، لا يبحر إليه إلا غواصين مهرة، يقاومون الوحوش الضارية، ويخرجون من الزوابع، أو لعل البعض يبني جسرًا في الهواء، متخطيًا كل العقبات، فيقطنُ الجزيرة دون أن يعلم ما بها، دون أن يكون له إنتاجًا ذا أهمية، يحمل معه نصائح كتب تنمية الذات الرخيصة، ويبيع مثلها أسماكًا في المحيط.

في رحلتنا القرائيّة، يعتري القارئُ النهمُ ترحالًا دائمًا، تصيبهُ حمّى المعرفة والاستزادة والإلمام بكل شيء قبل البدء بفعل الكتابة، خاصة أولئك الذين لا يمشون على جسر الهواء، أولئك الذين يرغبون في استحقاق الوصول، واستحقاق الاستمرارية مرة بعد أخرى. فيحاصرهم الزمن، وبهذا لا يصلون، لأن الذئب الداخلي يتغذى على أفكارهم الزائدة وسعيهم الحثيث نحو المثالية.

يعتريني الخوف عند التفكير بإتمام مهمة الكتابة، يملَأُ الغبار أنصاف المقالات التي تركتها، يدفعني الحماس لأنحت وصولي إلى فكرة، الربط بين فكرتين، نقل معلومة مدهشة، الحديث عن فلسفة فيلم أعجبني؛ ثم أجدني أهرع لاستكمال المسير اللا نهائي نحو المعرفة المطلقة، نحو قراءة كل الإجابات المحتلّة عن أسئلتي التي تحوم في رأسي وتطن.

أين المصدر؟

أفكّرُ بإعادة قراءة بعض الكتب لاقتباس بعض الأفكار الثرية، سأحكي عن أسماءٍ لامعةٍ في عالم الأدب قالوا إنهم أصيبوا بحبسة طويلة الأمد فلم تنبس أقلامهم بفكرة، أتساءل عن كم الكتب التي يسعني استخراج معلومات مهمة لاستكمال المقال، آخذ الاقتباسات، أذيل الأفكار. أريد المزيد، فهل هذا يكفي؟

حين نكتب، تنهمر الأفكار بسرعة أقوى من تلك التي تملكها أصابعنا، يصيبنا شك في إمكانية إتمام المهمة، نتشتت حين نحاول تذكر مكان فكرة ما على رفوف المكتبة، تخوننا العبارات لنقل ما نريد، فنتوقف للبحث عن المزيد، عن الدعامات الشرعية لما نرغب بقوله، نتجنب الكتابة دون الإحالة للمصدر، على الرغم اننا يمكن أن نتبنى الفكرة ببساطة، أن نصغها كما نفهمها، ولكننا لا نصل، لا نكتب، لتعذر ذكر المراجع، لتراكمها أو نسيانها.

وسواس انتقاد الكتابة ..

يسوءني ذلك الهلع الجاف، فوح رائحة جثتي العارية، وأنا ما زلت حية؛ حين أقتل فكرتي ولا أدفنها، حين ألقيها للطيور الجارحة تنهش بها وتطير، وديدان الأرض تشبع وترحل. يا له من كابوس مرعب؛ أن يمسك أحدهم ما كتبته، يقرأه، ثم يرفع قلمه بوجهي، يخطئني، يفضحني، ويسلط الضوء على هفواتي.

يسوءني أن ألقي تناقضاتي وأحلامي ورغباتي ومخاوفي، في شارع العامة، المارقين الذين سيلقون ضحكاتهم وهمهماتهم ويرحلون، أمام أولئك الذين سيمتدحونني، ويتركوني في حيرة من أمري، هل هذا إهمال مقنّع؟ مجرد مجاملة لبقة؟

حين يكتب أحدنا، فهو يأمل بدخول عالم الأفكار الجمعية عبر أفكاره الفردية، يرى من الكتابة وسيلة لبناء صلة مع الآخرين عبر تفرده، يريد أن ينقل تلك التجمعية الفريدة من عقائده الحرة، ليرفض ويتجاوز كل ما كتب قبله، ويستخدمه ويصعد على أكتافه. لكن يخشى المتربصين، ويبدّي عذابه الشخصي ووحدته وتقوقعه، على أن ينتمي للآخرين مقابل فضح نفسه. إن ممارسة النقد الذاتي أثناء فعل الكتابة يُقعد عن استكمال المهمة، خاصة تلك المحاولة الحثيثة للوصول لشريحة أكبر من الناس، لاسترضاء الجميع أو تجنب شر ألسنتهم.

متلازمة المزيف..

مرحبا، لقد اجتمعنا اليوم للحوار، والموضوع الذي سأكتب عنه اليوم هو ….

شكرا لحسن القراءة، شكرا لتأييدكم، لامتداحكم، ممتنةٌ لأنني كنتُ مفيدة بشكل ما. ولكن؛ لو سألتموني شيئا ما لا أعرفه، حتمًا سأفضح نفسي أنني لا أعرف جيدًا عمّا كتبت، أخشى أن يعجب بكتابتي أحدهم ثم يخوض معي حوارات أخرى فيجدني فارغة، يجدني مهرجة أنطق بالترهات المضحكة، وهذا يجعلني أتراجع خلف أستار المسرح هذا.

 

إن الشعور بعدم استحقاق الحديث عن موضوع ما، يلازم أولئك الذين يدركون حجم جهلهم، أولئك الذين ظنوا ذات مرة أنهم يعلمون الكثير لأنهم عرفوه أول مرة، وحين تعمقوا اكثر وجدوا ذلك الظلام الدامس، امتداد يفوق مد البصر، يتفوق على عدسات الميكروسكوبات والتلسكوبات التي سمعوا عنها حتى.

إن هذا شعور حرجٌ مقنعٌ بالثقة، إذ يخبئ خلف قوة الكلمات وغزارة الأفكار طفلًا باكيًا يخشى الظهور، ثم يلازمه شعور إما باليأس من الوصول للحالة المطلوبة للاستحقاق، أو السعي المحموم نحو المثالية. متلازمة المزيف تقبع خلف إحجامنا عن الكتابة، فإما أن تقتل الإبداع أو أن تصقله.

تجنب الثرثرة..

عندما أنظر حولي إلى ناطحات السحاب الفكرية التي انشأتها ثقافة الانسان، يغزوني شعور الجلال والرهبة، هذا الكائن الذي ساد الكوكب، بخيره وشره للتسلق على عرش الأنواع، تناقل المعرفة شفويا، فنسي الكثير؛ فحاول تدوينها، وصعد، ثم صعد أكثر وأكثر عندما اختصر الزمان وابتلع المكان بتقنيات اتصالاتٍ ومواصلات، فأصبحت المعرفة البشرية عالمية، يضيف إليها أيُّ شخصٍ مجتهد معلومة جديدة فيدقق وراءه آخرون.

ولكن؛ أين مكاني من كل هذا؟ حين تراكمت المعارف، وعلت أماكن التخزين لتصبح سحابة لا نهائية المساحة، أصبح الإنسان قادرًا على تدوين أي شيء بأي وقت دون رقيب، بل ويصل تدوينه للآخرين مباشرة، ويبقى محفوظا مع البيانات الضخمة التي تملأ الأرض.

الطريق ممهدةٌ للمعرفة، والمعلومة الواحدة مكررةٌ بعدد من قرأها، فما أضيفه حين أكتبها مرة أخرى؟ مع تزاحم الكتّاب، من سيصل لما كتبت؟ ثم يختار، ثم يقرأ، ويقرر الاستكمال، ويا له من قرارٍ صعب في ظل السوق المُلتهبة للمزيد. هذا الشخص قادرٌ على قراءة نفس الكلام بأي مكان آخر، بل وقد لا يلقي بالاً إلا إن كان له اهتمامٌ سابق وبالتالي معرفة كافية بالأمر، فما جديدي؟

يبدو الأمر صعبًا لتجاوزه، الاقتناع بأن ثمة من سيقرأ ويستفيد، فما فائدة الكلمات إن لم يكن لها قارئٌ؟ وأنا اكتبها كي أجد حدود نفسي عبر إدراك حدود العالم من حولي. ماذا لو لم يهتم أحدهم لسبر غور أفكاري؟ ماذا لو كنت مجرد رقم آخر قد يتم اختزاله للتبسيط. فلا فائدة من ثرثرة أشك بأن يعيرها أحد اهتمامه، وبهذا لا أكتب ..

التنفيس ..

أحيانا تفقد الفكرة بريقها حين نقولها مرة، حين نقنع أنفسنا أن هذه الفكرة التصقت بهوياتنا عند أحدهم، فلماذا اجتهد وأعيد كتابتها مرة أخرى؟

نعلم أن إجابات سؤال (لماذا نكتب) متفاوتة، سؤال يرتبط بفرد واحد وتخصّه إجابته، فمثلما تكون دوافعي للكتابة شخصية، كذلك انحسار الدافع. فإذا كانت إحدى دوافعي للكتابة هي استكشاف ذاتي عبر الآخر، مشاركة أفكاري لأستمع لنفسي وأنا أتحدث، أو أقرأ نفسي بين السطور، فإذا ما سارعت بإرسال الفكرة لأحدهم، لا أجد نفعا لأنشرها على نطاقٍ أوسع!

اقرأ ايضا: الكتابة كعملية لفهم الذات والواقع

إن متعة المعرفة ترافق الكثير من القرّاء، خاصةً أولئك الذين يشرعون عقولهم لامتداد الإنتاج البشري بكل أطيافه، أولئك يبحثون عن الجديد متلهفين خلف المزيد، فلا يشبع ظمأهم قانونٌ، ولا يقف عقلهم عند فلسفة واحدة. فتقرن كل فكرة جديدة برغبة مؤقتة لمشاركتها، لعدم اتساع الوقت للمزيد من المشاركة، فالتنفيس عن هذه الرغبة الجامحة تزيدها جموحًا وترفع سقف توقعات القادم، لترمي بالقارئ في قاع المحيط دون محاولة الاستراحة بالكتابة.

من سيذكرني إذن؟

فعل الكتابة مقرون بالذاتية الساعية للاندماج عبر التميز كما ذكرتُ سابقًا، ويا لها من فكرةٍ مثيرةٍ حين نقرر أن نخلد عبر أفكارنا، فيعود الكثير ليحيونا عبر كلماتها. لكن في ظل التخمة المعلوماتية، وسهولة النشر، وصعوبة المنافسة في جلب الانتباه اللحظي ناهيك عن الاستمرارية، فما هو السبيل للبقاء؟

إن عدم سهولة الحظو بالشهرة والوصول لعدد كافٍ من المهتمين الذين سيتناقلون كتاباتنا، لهي أعظم المخاوف. فكيف نشعرُ حين نفكر أن ما كتبناه مجرد نفايات رقمية في المستقبل القريب، مثلها مثل ثرثرةٍ لا معنى لها، هذا سببٌ كافٍ للإحجام عن الكتابة والاكتفاء بالتهام الكتب.

ما الذي تبقى من الدوافع؟

إن الوقت الذي يستهلكه كاتب جاد لإتمام مقال، يعادل إنجاز الكثير من الأمور الأخرى، ويعني أيضًا الصومَ عن متعٌ أخرى سهلة وسريعة تخفّف أعباءنا. فعندما تنتفي الرغبة بالمشاركة، أو تنهدم عزيمة نشر معلومة جديدة، حين نخشى النقد، ونشعر بالزيف، ما يتبقى لنا أن نجني شهرة أو أموال بسبب ما نكتب.

سوق الكتابة ممتلئٌ بالتنافس الشرس للمجتهدين، ناهيكَ عن تدافع الرغبة في دخول هذا العالم لمجرد معرفة القراءة والكتابة، فيبدو تحديًا كبيرًا أن تتخطى كل شيء لتجد نفسك بالنهاية تشحذ وظيفة في مجلة أو تحاول نشر كتاب بين أكوام الهراء الذي تصدرها دور النشر لتعبئة المكتبات بغرض الربح. ويا لها من كارثة إذا تساءلت عن فائدة الفعل الإبداعي.

لقد شعرت بنشوة حين نظرت للأسطر السابقة، يبدو لي أنني خطوتُ خطوة أولى للعودة للكتابة التي لم أتعلمها جيدًا بعد، فإن وجدت نفسك بين الأسطر فيؤسفني عدم امتلاكي لحلول أخرى غير الإمساك بقلمك أو هاتفك للبدء، غير هذا الحل ستدخل سراديب لا نهائية. أما إن لم تجد نفسك بين الأسطر فيسعدني أنني وجدت نفسي حين قرأتني. أعلم أن المقال غير مكتمل، لم ألم به بكل ما يمنع القارئ الراغب بالكتابة بأن يفعل، وقد أخرج بشعور مخجل بأنني لم أكتب كل شيء يستحقه هذا الموضوع الخصب، وربما أنني أخشى من الحديث مجددًا عنه فأكشف زيف تجربتي، ربما أكون حزينةً لعدم مشاركتي أسماءَ كتبٍ لأكسب ثقتك بما أقول. فهل كان مُشبعًا حديثي حول التوقف عن الكتابة؟

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: دعاء أبو عصبة

تدقيق لغوي: بيسان صلاح

اترك تعليقا