موجز التاريخ الطبيعي للحضارة

يحيطُ بنا من كل جانبٍ وهمٌ متقن خلقته أدمغتنا، عن تميّزنا عن باقي الكائنات الحيّة، كلما نظرنا إلى مظاهر الحضارة البشرية من حولنا، وكلما قرأنا تاريخنا الخاص. لكن هل يمكن البحث في افتراضِ أنَّ هذا التميّز مجرّد وهم؟ إذا ما روينا قصة الحضارة من منظور التاريخ الطبيعي؛ لأي مدى نكون اقتربنا من رواية القصة الصحيحة؟

كل منا يملك قصّته الخاصة، يحدِّث نفسه بها ويكررها، ورغم أنها تزخر بتعديلات متتابعة في كل مرة نروي جزءًا منها؛ إلَّا أنها تبقينا آمنين، تُشعرنا بالثقة والتماسك، تضُمّنا لننتمي لقصةٍ أكبر مع تجمعات من البشر، عوائلنا وأوطاننا وصولًا إلى الحضارة البشرية: ذلك “التنظيم البشري الذي يؤدي الى تطور مطّرد للثقافة والعلم والصناعة والحكم”. فهل هذا التنظيم آلية فوق طبيعية؟ وهل تنتهي انتماءاتنا وقصصنا عند هذا الحد أم نحن على استعداد للانضمام لما هو أكبر من ذلك؟

في خريطة التاريخ الطبيعي التي تمتد إلى بداية الحياة على الأرض، نحاول جاهدين اقتصاص قصتنا وروايتها بألسنتنا، لكن ثمة الكثير من البيانات التي تُدلي بدلوها، لنستمع لتلك الرواية من البكتيريا مثلًا، أو من إفراز نبتة تدفع عن نفسها المفترسين، أو حتى من بقايا طعام بين أسنان أحفورة حيوان. في هذا المقال سنتحدث عن كتاب «موجز التاريخ الطبيعي للحضارة»، نستعرض فكرته العامة، وكيف نضمُّه إلى معارفنا السابقة.

لم عليك القراءة في التاريخ الطبيعي

صباح الخير أيّها العالم، كلما فتحت عيني لأصافح أوّل شعاع ضوئي أشعر بتلك التساؤلات التي تجول في رأسي، فألتقف الكتاب الذي أضعه بجانبي عادة، أبحث عن هواءٍ أتنفسه من إجابة ما محتملة بين الأسطر.
كيف أشعر بذلك الخيط الذي يربط الزمان والمكان بذاتي؟ وأنني امتدادٌ لشيء ما أكبر؟ وأنا لست إلَّا كائنًا حائرًا لا أعرف من أين أتيت ولا إلى أين أنا ذاهبة أو حتى من أنا أصلًا؟


فالفجوات؛ وأحيانًا الحفر؛ تملأُ معارفنا، منها تلك التي نعرفها (مجهول معلوم)، ومنها ما نتنعم بعدم معرفته (مجهول مجهول). وكلما علِمنا أكثر، كلما طالنا شعور غريب؛ كأن أسلافنا قد خانونا عبر أساطيرهم وقصصهم، إذ أورثونا ذلك الشعور حول أهميتنا في هذا الكون. لكن الكون يُظهر نفسه لنا أكثر فأكثر، فندرك أننا لسنا المركز، ونتعلم أن بيولوجيتنا لا تختلف عن أي كائن آخر، بل أننا على هذه الشاكلة لنناسب الأرض بشروطها هي. 

إعلان

1. خصائصُ حضارتنا تزيدنا حيرة

ورغمَ نجاح الحضارة البشرية على المقياس التطوري؛ الامتداد السُكّاني الذي غزا كل البيئات تقريبًا، وإيجاد حلول للطبيعة المحدودة كالملابس والبيوت والتكييف ووسائل التنقل والاتصالات، لقد أعدنا هندسة التنوع الحيويّ بما يتواءم معنا، كأننا سجّلنا هدف النهائي في مرمى كل المُفترِسين والمُفتَرَسين في مباراة صراع البقاء الأخيرة.

إلَّا أننا نبدو كمن يكسر الغصن الذي يجلس عليه، فنحن نترك خلفنا آثارًا غير قابلة للعكس، فقد دمرنا الموائل واستغللنا الطبيعة استغلالًا مفرطًا، حتى دخلنا عصرًا جيولوجيًا جديدًا يتربّع به الإنسان على عرش التغير المناخي، فربما الآتي هو مزيدٌ من الصراع والعنف الذي أتقنّاه وتفنّنا به بشدة حتى يومنا هذا! فإن التقطت أي كتاب يحكي عن تاريخ الحضارات ستجده صحيفة ممتقعة الصفار تنقل الجانب الأهوج من الإنسان.

تنتابني الحيرة! كيف أقوم بتوليف المعلومات عن هذا الكائن الذي أنتمي إليه؟ من أي زاوية أنظر للصورة المزدوجة التي أراها أحيانًا أسطورية كما أورثتني إياها ثقافة بلدي، وأحيانًا تلك الصورة الحذرة الممتلئة بالفجوات _بكل فخر_ والتي يمليها عليّ منظّرو العلوم الحديثة؟

2. الرؤية الكلية تتيح استخراج المشتركات

“إنَّ التغلّب على جمودنا لفهم القوى الكامنة التي تحرّك الحياة، هو الاختراق الأيديولوجي التالي الذي يجب أن نحققه من أجل البقاء”

طالما ارتبطت المعارف بالسلطات، إذ تحاول احتكارها، وهي من تدعم بعض جوانبها أو تقوضها، وذلك انطلاقًا من كون المعرفة خطرة، أسلوبًا للتحكم، فإن كانت المعرفة الجديدة تقدّم منظورًا مختلفًا عن النظام القائم، سيتم مقاومتها، لكن ما هو مبشّر هو أنَّ ممارسة النقد الذاتي والاستمرار في التجريب والبحث هي أساليب نقلتنا إلى العالم الجريء الذي نعيش فيه حاليًا، والذي تزخر فيه المعرفة الجادّة باهتمام ينزع الحصانة عن أفراد أو سلطات معينة تفرض رؤاها، مما يدفعنا للقراءة والاطلاع على ما يصل إليه العلم بكل ثقة بأننا لسنا أمام لاهوت جديد، بل نمط مفتوح يضعنا على طريق التغلُّب على جيناتنا الأنانية وما أورثته من مشاكل.

ينتمي التاريخ الطبيعي للمجال الاستقصائي من العلم، ويعني تتبع البيانات القادمة من عدة مجالات مثل علم الأحافير والكيمياء الحيوية والجينوم وعلوم البيئة وغيرها، لدراسة تطور العلاقات بين الكائنات المختلفة والبيئة من حولهم، وما يمكن قوله حول المجال الاستقصائي هو إنه لا يشبه العلوم التجريبية التي تعتمد على قابلية التفنيد كمزيّة أساسية؛ وهذا لصعوبة خلق مختبر يحاكي إنشاء الحياة أو يحصر تجربة الأنظمة المفتوحة (الكائنات) في المختبر. وهذا يجعله نطاقًا يعتمد على دقة الملاحظة وجمع بيانات مختلفة والتحلي بالجرأة في الطرح.

3. آليات التعاون في التاريخ الطبيعي

يرتبط اسم «التاريخ الطبيعي» بالانتقاء القائم على المنافسة، إذ تزخر الكتب بالحديث حول صراعات البقاء متغاضية عن صفة أخرى ملازمة، ألا وهي «التعاون»، فتتحدث عادة عن التعديلات ليتأقلم الكائن مع بيئته ويحظى بنسخ جيناته. لكن برز مؤخرًا الحديث عن آليات التعاون المتصاعد الذي جعلنا ما نحن عليه اليوم، وهي تلك القصة التي تصف الانتقال من الخلايا النووية والكائنات متعددة الخلايا إلى التعاون في الصيد والتجارة والتنظيم الاجتماعي والثورات في الحضارة والنمو المفرط في السكان.

وتتمثّل قصة التعاون بعمليتين؛

  • الأولى تعرف بـ (النشوء التكافلي)، وتصف التعاون بين كائنين لتحقيق مصالح مشتركة: كأن تهب نبتة لحيوان مادة مغذية مقابل أن يوزع بذورها عبر التصاقها بأقدامه.
  • العملية الثانية تعرف بـ (التنظيم التراتبي) والتي تصف ترتيبًا إلزاميًّا متسلسلًا لتطوّر نماذج متكررة ويمكن التنبؤ بها، وهذا يظهر في تجمعات الكائنات (مثلًا على الشواطئ الصخرية) فهي تبدو منظمة بطريقة تراتبية، لكن يلزم النظر إليها من الجانب أو المنظور الزمني الملائم.

وعند البحث في التاريخ الطويل للحضارة من منظورها الواسع بما فيها حضارة البشر، نجد أنها تحققت بفعل تحولات تحدُثُ استجابةً للبيئة الطبيعية والبيولوجية، أي أنَّ تطور العلم والثقافة والصناعة والتحكم كلها محكومة بقوانين وعمليات طبيعية.

إنني كبير جدًا، أتكون من حشود، مثلما أنا جزء من أخرى

قصة حضارة الإنسان هي امتداد لعمليات طبيعية استمرت لمليارات السنين، إنها قصة النشوء والتنظيم الذاتي الذي يقوم عليه الكون، إذ يحكي لنا الكتاب باختصار قصة نشوء الكون منذ الانفجار العظيم حتى تشكُّل الأرض وبدء ظهور الحياة عليها. تقوم عمليات النشوء والتنظيم الذاتي على فكرة أن التنسيق ينشأ من التفاعلات المحلية بين الأجزاء الصغيرة المكونة في بداية اختلال النظام، وهي عمليات لا تحتاج إلى دافع أو أداة من خارج النظام، حيث تكون مدفوعة بردود الفعل الايجابية. ويقصد بالنظام هنا أي شيء طبيعي مكون من أجزاء، مثل من المجرات حتى الخلايا.

1. بداية وتعقّد الحياة

لم يتم اعتماد نموذج واحد لقصة أصل الحياة على الأرض، لأنَّ هذا مجالٌ خارج إمكانية القدرة على الاختبار، لكننا نمتلك العديد من الفرضيات القائمة على بيانات، خاصة تلك التي أتتنا من منافذ التنفيس الحراري، التي تتيح إمكانية تكوين مركبات جديدة بسبب الحرارة والضغط العاليين (النشوء الذاتي).

تمتد معضلات دراسة التاريخ الطبيعي من نشوء الحياة لتصل إلى عدم تحديد كيفية ظهور الحياة المعقدة لأول مرة، تقترح فرضية التعايش الداخلي أنَّ حقيقيات النوى ظهرت نتيجة نشوء تكافل بين عدة كائنات بدائية شكّلت نواة وقدرة على استخدام الطاقة الخارجية وتحويلها لوقود للنمو والتكاثر .

2. كائنات فائقة تكافلية

الجنس البشري مثل غيره من الأنظمة، مجموعة تكافلية بما يحمله من عوالم صغيرة وميكروبات، وهذا يعيد تعريف الجنس البشري ككائنات فائقة تكافلية. ولا يقتصر الأمر على الجسد البيولوجي؛ بل يمتد لتلك التقنيات الحاسمة في ارتقاء البشر لأعلى السلسة الغذائية، فزيادة التعقيد في حضارة البشر كانت بسبب أن كل تغيير يغيّر شيئًا آخر، فالتحوُّل إلى قناصين غيّر فسيولوجيا الإنسان، من تغيير في التنفس وقصر أصابع الأقدام وتطور الغدة الدرقية وزيادة مرونة الكتف والخصر والذراع، والذي أدى بدوره لإمكانية تطوير أدوات الصيد. كما أن المشي المنتصب زاد من كفاءة البشر في استخدام الطاقة، كما أدى اكتشاف النار وتناول الطبخ المطهي لكبر حجم الدماغ وتوفير وقت الفراغ، وهكذا الحال مع تطوير الكلام والصيد التعاوني ونقل المعارف.

3. جايا

تفترض فرضية جايا أن عمليات النشوء والتنظيـم الـذاتي تعمل بشكل متزامن لجعـل الأرض صالحة للسكن ولخلـق تنوع للكائنات الحية الموجـودة اليـوم. كما تفترض أن التطور قـد أثـر عـلى البيئة العالمية، إذ أدى إلى إعادة تدوير منتجـات النفايـات ومـن خـلال تعزيز الاستقرار والتوازن

من أكثر الفرضيات المثيرة للجدل هي تلك التي طرحها جيمس لوفلوك، فرضية جايا، كما هو موضح في الاقتباس أعلاه، تتعامل مع الأرض كأنها كائنٌ حيٌّ متناسق يعيد التوازن لنفسه عبر كائناته وظواهره الطبيعية، وهذا _إن صح_ فيعني إمكانية تطوير آلية للتنبيه بالتغيّرات الحيوية والمناخية في المستقبل في حال توفر البيانات الكافية لذلك.

نحن لا نمتلك القصة الكاملة في التاريخ الطبيعي، كما يتم التأكيد دائمًا، فالفرضيات الكلية لا تشبه التفاصيل التي تعتمد على البيانات المؤكدة.

وكلاء الإنتقاء الطبيعي

دخل البشر كغيرهم من الكائنات في علاقاتٍ مع البيئة المحيطة، تقوم على الشراكة والتنافس، وقد أتاحت لهم قدراتهم المميزة إدارة الأراضي من تدجين للحيوانات وانتقاء للنباتات، إذ بدوا وكأنهم وكلاء للانتقاء الطبيعي. إذ إن الأمر دخل إلى حيز الإدراك البشري والقصدية في اختيار ما هو أنسب وأكثر فائدة، وقد ترتب على ذلك ردود فعل أخرى أدّت لوجود آفات طبيعية مقاومة للبشر، أو حتى استخدام المواد الكيميائية التي تفرزها النباتات في سبيل الدفاع عن نفسها لغرضٍ بشري طبي أو التسبب بهلوسات، الأمر الذي له تبعات ثقافية سنناقشها فيما يلي.

لقد تضاعف التأثير البشري في هذا العالم خاصة بعد الثورة الزراعية، التي أدّت إلى الاستقرار في مكان واحد وتطوير نظم الحكم وتوزيع الأدوار، أنها منحدرات زلقة، أدخلت الإنسان في اضطرار مستمر للتأقلم وبالتالي خلق مسارات جديدة، وهذا أورثنا ثقافات وتنوع الشعوب واختلاطها فيما بعد. فما هو تدرّج التأثير الحضاري في التاريخ الطبيعي؟

عندما تخلّت خلايا بدائية النوى عن استقلالها ودوافعها الفردية، أصبحت جزءًا من كائنات معقّدة منظّمة متعاونة مرتبة هرميًا، وهذا جعلها مناسبة أكثر للبقاء والازدهار في عالم من المنافسة. إنَّ هذا السيناريو يشابه ما حدث مع البشر بعد الثورة الزراعية، إذ نشأت عملية التمدين بسبب استقرار عدد كبير من البشر في مكان واحد، مثلما أدّت لظهور الصراع المنظم والعنف.

ومثلما تم امتلاك مكونات مادية مشتركة مثل المطاحن وحاويات التخزين وأدوات الفلاحة والأسلحة، حدثت الثورة المعرفية والثقافية، إذ يحتاج التجمّع البشري إلى قوانين ونظم دينية ومعتقدات مشتركة تدعم الازدهار وقوة الجماعة لمقاومة الجماعات الأخرى. كما أن قصة حلقة ردود الفعل مع الكائنات الأخرى لم تتوقف، فقد زادت معرفة الإنسان بالنباتات وتطوّر نظام طبي استشفائي.

المعرفة أداة قوة، لا انتصار

تعتبر الحضـارة بشكل عـام دليـل انتصار الإنسـان عـلى الطبيعـة، هـي النقطة التـي فيهـا تمكَّن الإنسـان مـن اختطاف تاريخـه الطبيعـي الخـاص، ليصبـح سـيد مستقبله. ولكـن، بدلًا مـن أن يؤدي هـذا “الانتصار” إلى رفاهيـة البـشر عامة فقد أدى إلى نتائج قاسية وخطيرة.

يبدو لي أننا وصلنا الآن إلى أكثر محطة مألوفة في دراسة الحضارة، إنّه التاريخ التقليدي المكتوب، الذي يشمل الحروب وفترات التهدئة. سباق التسلح البشري هو مثال بسيط للتاريخ الطبيعي التقليدي، إذ استخدم البشر معارفهم في المواد الكيميائية والمعادن لتطوير أسلحة وأدوات طبية تحسّن من صحة ورفاهية المجتمع. وسائل التعاون بين التجمعات البشرية تمثَّلت في طرق التجارة البرية والبحرية، والتي قصّرت بدورها المسافات وأدّت لتبادل الثقافات مثل السلع، ووجهها البشع يتمثَّل في الاستعباد والاستغلال والاستكشاف التعسفي.

ساهمت الطرق في إحداث مفاجآت تتمثل بالأوبئة والمجاعات، إذ أدّى انتقال الميكروبات إلى غير موائلها إلى مفاجئة المَزَارع والجسد البشري نفسه بعدوٍّ قويِّ لم يكن بينهما حرب تسلّح تطورية تدريجية، فتحدث الكوارث. لكن استطاع البشر خوض هذه الحرب بتطوير علاجات ولقاحات للأمراض، وهذه الحرب محتدّة ومستمرة حتى يومنا هذا، إذ إن أسباب المرض هي كائنات حية تحتاج لفسحة مثلنا تمامًا.

حدث تسريع لوتيرة «التغيير الثقافي» في الحضارة البشرية بعد الثورة الصناعية، وقد غيّرت قواعد اللعبة، إذ أصبحت الطاقات الجديدة تنقل العالم من فوضى إلى نظام مسخّر لخدمة الإنسان، من زيادة إنتاج الأغذية إلى استخدام أدوات النسج والاتصال والمواصلات والإضاءة وكل مظاهر التصنيع الأخرى. وقد سادت المعلومات في الفترة الأخيرة من حياة البشر مع تطوير وسائل التعلم وجعلها شرطًا للبقاء، فامتلاك الأفراد للمعارف والمهارات المتراكمة كفيل بالارتقاء بحياة البشر وأنظمتهم السياسية والاقتصادية والثقافية.

اقرأ أيضًا: فلسفة الحضارة وأسس التمدُّن وعلاقتهما بالثقافة وسير التاريخ

صندوق أدوات تطوري

إنَّ الكائن البشري بعملية مراقبته للمحيط الحيوي حوله ومراكمة المعارف وتوريثها عبر النقل الشفوي ثم الكتابة وتدوين النظريات، أدى لوصوله إلى أماكن ليست ببساطة مخصّصة لدخوله، فقد استخدم الإنسان المواد الأفيونية والكافيين والتخمير باستخدام علاقات بين كائنات أخرى غيره، حيث استغل الأسلحة الكيميائية للنباتات أو تكاثر الكائنات الدقيقة لمزيد من خيارات التغذية والمتعة.

تعد سمة التأثير على العقل من إفرازات كيميائية معينة حاسمة في تاريخ الثقافة البشرية، تبدء بالشامانية وتخيّل الأساطير الجمعية والمعتقدات الميتافيزيقية، التي تؤدي إلى زيادة تماسك المجتمعات واكتساب معنىً للحياة، كما أنها جزءٌ لا يتجزأ من ممارسة السلطة الاجتماعية على الآخرين وإيجاد طبقات تراتبية هرمية.

إنَّ حالات الوعي غير العادية هي مرجعية التجارب الروحية عند البشر؛ فالدماغ نظام معقد يعمل لهدف النجاح التطوري للجينات، لكن حين نتدخل بعمله بإيجاد روابط جديدة بين أجزاءه، فنحن نكتشف أمراض معيقة أو مواهب خارقة.

كما أن التوابل هي مثال آخر على هذا التدخل، حيث ساهمت بدور بارز في التاريخ الطبيعي للحضارة، فأصبحت هي الصيدليات الأولى التي تم دمجها في الأنظمة الغذائية للبشر لمكافحة الجراثيم أو الفطريات. ننتقل إلى الحديث عن إمكانيات حفظ الطعام وتطوير أغذية طويلة الأمد، مثل أنواع الجبنة أو خميرة القمح، ومهارات التجفيف والتجميد والتخليل والمعالجة والتتبيل. حتى أن الملح له أهمية كبيرة في تاريخ البشرية؛ إذ كان عملة نقدية لتبادل السلع وحمل مزايا لحفظ الطعام وإضافة الفائدة إلى الأطباق.

نحن لا نستطيع لليوم التنبؤ بعواقب هذه الانتقالات التي ما زالت مستمرة، سواء في تصنيع الأدوية أو المواد الغذائية، مثلما نتابع يوميًا التأثيرات الجانبية للأغذية المصنعة والأدوية ومحاولاتنا الجادة لابتكار مناورات وتقنيات تحسن من تقدمنا وسيادتنا.

عصر جيولوجي جديد

البشر لا يزالون، كما فعل أسلافهم عبر التاريخ وما قبل التاريخ، يستفيدون من النظم البيئية وموارد الطاقة بكل أشكالها، وقد حمل هذا الاستغلال أشكالَا من التدمير غير قابلة للعكس. بدأت قصة الاستغلال منذ اكتشاف النار التي وسّعت حاجتنا لقطع الغابات، الأمر الذي يؤدي للتدخل في التنوع الحيوي البيئي.

كما أدى اكتشاف الوقود الأحفوري والفحم إلى تغيير حياة البشر والبيئة، إذ بدأت التأثيرات على جودة الهواء ناهيك عن مشاكل المناجم. وقد نال استخدام النفط نصيب الأسد في التغييرات الحضارية، فقد أتاح لنا تسريع وسائل التنقل والشحن والاتصالات ونقل الثقافة وتوحيدها باتجاه العولمة.

إن الاحترار العالمي يهدِّد مدننا وصحتنا، ويدفعنا لتطوير تكيّفات أخرى لمواجهة مستقبل غير قابل للتنبؤ، تطوير أدوات البناء والعزل والتكييف والفلترة، والتي تؤدي بدورها لتحديات جديدة! يطلق على العصر الذي ساهم البشر في تغيير وجه الأرض «عصر الأنثروبوسين»، إذ أصبحت أنشطة البشر محورية في مسألة تدمير موائل حية واستنزاف الغابات والذوبان الجليدي.

مرآة مستقبل الحضارة

لقد حاول الكتاب فحص الحضارة من خلال عدسة التاريخ الطبيعي، وخلص إلى فكرة رئيسية مفادها أنَّ الحضارة ليست مجرَّد صدفة أو تمرُّد للإنسان على الطبيعة، بل هي مصير تطوري لهذا النوع. إنَّ دراسة الحضارات تفيدنا لفهم الازدهار والاضمحلال والتلاشي، إذ نفهم أن هذا قانون طبيعي وقاعدة، فمهما بدت الحضارة أثناء صعودها حتمية ولا تقهر، إلَّا أنها تدحرج إلى مصيرها نحو الانهيار.

وعودة إلى فرضية جايا، وفكرة التنظيم الذاتي الذي تحظى به الارض، نستنتج أنَّ سيادتنا ليست نهائية، إذ إن تأثير نوعنا سلبًا على الأنظمة البيئية، يدفع الآليات الطبيعية من حولنا لإعادة التوازن وتحسين الاستقرار البيئي، لكن هذا يعني بالضرورة سحب البساط من تحت الحضارة البشرية بمعناها الواسع، إذ لن تبقى الأرض في خدمتنا رغم امتصاصنا لكل مميزاتها وتدميرنا للمساحات التي نشغلها.

لكن كما كان دائمًا التعاون الوجه الاخر للتنافس، ستظهر سمات تؤدي للتكافل، ما هو مثير للاهتمام هو أن الحضارة البشرية وصلت لمكان جديد آخر وفتح عظيم في التاريخ الطبيعي، إذ انتقلت من كونها نظام مفتوح مثل أي نوع حي إلى أن تصبح نظام مغلق عبر تطوير العولمة والأنظمة المشتركة والتحكّم من أعلى لأسفل. إنَّ نجاحنا المتمركز حول ذاتنا الذي لمسناه عبر العصور، أصبح الآن أكبر تهديد لنا، وبذلك تطرح مسألة التعاون كحلٍّ مثلما كان دائمًا، عبر تطوير أنظمة حماية للبيئة والمناخ والمحيط الحيوي، لنكون أسيادًا بمسؤولياتنا تجاه كوكبنا لا استنزافنا له.

كتاب موجز التاريخ الطبيعي للحضارة، يقع في 356 صفحة، من ترجمة سحر توفيق، ونشر دار المحروسة

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: دعاء أبو عصبة

تدقيق لغوي: بيسان صلاح

تحرير/تنسيق: دعاء أبو عصبة

الصورة: صفحة استنارلوجيا

اترك تعليقا