دستورية تدريس نظرية التطور في قضاء المحكمة العليا الأمريكية

أثارت نظرية التطور انقساماً وجدلاً شديداً لدى العديد من الأفراد حول العالم بين مؤيد ومعارض، ولم تكن محل جدل في الأوساط الدينية والعامة فحسب، بل أثيرت دعاوى حول دستورية تدريسها إلى المحكمة العليا الأمريكية في العديد من القضايا.

قبل الحديث عن القضايا يقتضي الإشارة لنظرية التطور بشيء من الاختصار… تعد نظرية التطور مختصراً لمصطلح “نظرية التطور عن طريق الانتقاء الطبيعي” والتي وضعها كل من تشارلز داروين وألفريد راسل في القرن التاسع عشر.

    وُضعت تعاريف عدة لها ومن بينها أنها عملية التغيير في جميع أشكال الحياة عبر الأجيال، وتختص الأحياء التطورية بدراسة كيفية حدوث عملية التطور. وفي كل حال من الأحوال تتطور الأنواع من خلال التغييرات الجينية التي تتوافق مع التغييرات الظاهرية لها، والتي تحدث بسبب تلف أو خطأ في نسخ الحمض النووي والتي تسبب حدوث صفات جديدة، وبعد تراكم هذه الطفرات الجديدة تبدأ الأنواع الجديدة بالظهور والتي تختلف عن سلفها. 

لا تبحث هذه النظرية بشكل عام بغايات التطور ولا تبحث ببداياتها بل جل ما تبحث به هو كيفية حصول الطفرات والتغييرات فحسب، أي تهتم بكيفية نشوء الأنواع بالتطور.

  لا يخفى على القارئ أن نظرية التطور والتي تفسّر نشأة الأنواع تتعارض مع قصة خلق الكون المسيحية، إذ إن الديانة المسيحية تفترض أن عمر كوكب الأرض لا يتعدى 6000 سنة، أما ما كشفه لنا العلم فقد بيّن أن عمر كوكب الأرض يتعدى 4.5 مليار سنة، وأن نظرية التطور قد كشفت أن الأنواع نشأت بشكل تدريجي عبر ملايين السنين، أما قصة الخلق فتؤكد أن الله خلق الأنواع بشكل متزامن، وأن الأنواع ثابتة لا يمكن أن تتطور.

إعلان

ويذكر أن ما يعطي لنظرية التطور قيمتها هو استنادها على مئات الآلاف من الأدلة كالأدلة الأحفورية والجينية وغيرها من الأدلة، وبعبارة أخرى إن نظرية التطور قد اجتازت مراحل المنهج العلمي من وضع فرضية وجمع الأدلة وإثبات الفرضية، مما يجعلها ذات مستوى عال من الدقة بوصف أصل الأنواع مقارنة بغيرها من النظريات ومن بينها الدينية.

وبسبب مضمون هذه النظرية يعارض المسيحيون في العديد من الولايات تدريس التطور، فدعوا لحضرها في أحيان، و طالبوا بتدريس نظريات دينية إلى جانبها في أحيان أخرى، ونتيجة لذلك كانت القضايا التي عرضت على المحكمة العليا تتعلق بإمكانية تدريس التطور في قضايا، وفي قضايا أخرى تتعلق بإمكانية تدريس نظرية دينية إلى جانبها. 

    بهذا سنبحث في هذا المقال عن الجواب لسؤالين…

هل تدريس نظرية التطور يوافق بند التأسيس؟

وهل تدريس نظريات دينية إلى جانبها مسألة مسموحاً بها؟ 

أولاً: معايير المحكمة العليا

عليه يقتضي تدريس التطور، أو إثارة إمكانية تدريس قصص دينية إلى جانبها، وجود علاقة بين الدين والدولة، قد تسمح بتدريس هذه النظرية  أو تلك. إذ إن حظرها أو تدريسها أو تدريس نظرية دينية إلى جانبها يتعلق بشكل أساسي بمسألة علاقة الدين والدولة، وذلك لأن حظرها سيكون غالباً لأسباب وغايات دينية مما يعني انتهاك محتمل لبند التأسيس، وتدريس نظرية دينية يعني وجود أسباب وغايات دينية وراء ذلك، مما يعني حصول انتهاك محتمل لبند التأسيس أيضًا، وبالتالي يقتضي تناول هذه القضايا توضيح أهم المعايير التي وضعتها المحكمة لمناقشة المسائل ذات الطابع الديني أو لتفسير طبيعة العلاقة بين الدين والدولة وهي معايير ليمون ومعيار الإكراه ومعيار التقليد التاريخي، وبالتالي سنبحث في هذا المقال عن أمرين: أولاً في معايير المحكمة العليا، وثانياً: القضايا ذات الصلة بالتطور.

وضعت المحكمة معايير عديدة تحكم بها المسائل الخاصة في بيان علاقة الدين والدولة، ولعل أولها هي معايير سابقة ليمون. وكانت معايير قضية لَيْمون Lemon v Kurtzman هي:

1-وجوب أن تكون غايات التشريع علمانية.

2- يجب ألا يؤدي التشريع إلى تشجيع أو منع أحد الأديان.

3- ويجب ألا يؤدي التشريع لتداخل كبير بين الدين والدولة.

وبهذا فقد وضعت المحكمة العليا في هذه النظرية ثلاثة معايير يجب أن يتجاوزها التشريع الذي يتصل بمسألة العلاقة بين الدين والدولة، وهي معيار الغاية، ومعيار التداخل، ومعيار الأثر، ويعني معيار الغاية باختصار ألا تكون غايات التشريع دينية، ويعني معيار التداخل ألا يُحدث التشريع تداخل الدولة في المؤسسات الدينية أو العكس، وأما الأثر فيعني وجوب ألا يكون أثر التشريع ديني بشكل أساسي.

    ومن المعايير الأخرى هو معيار المقبولية Endorsement الذي اقترحته القاضية O’Conor في قضية Lynch Donelly في العام 1984م كتفسير لمعيارَي الغاية والأثر، لكنه قوبل بقضايا عديدة بوصفه معيارًا مستقلًا، إذ أكدت بأن الأثر المباشر والسلبي للتشريع الذي يخالف بند التأسيس هو إرسال رسالة لمُتبعي الدين الذي صدر التشريع لمصلحته بأن لهم معاملة تفضيلية، وبأن الأشخاص اللذين لا يتبعون هذا الدين ليسوا أعضاء المجتمع السياسي، هذا وأنهم غرباء على هذا المجتمع السياسي، وتُحدَد مقبولية التشريع من خلال دراسة أثر التشريع وغاياته من قبل شخص ما، يحدد ما إذا سيُحدث هذا التشريع ذاك الأثر، ويكون ذلك التحديد إما بشكل موضوعي أو بشكل شخصي. 

وثالث المعايير هو معيار الإكراه والذي تبنته المحكمة العليا في قضية Lee V Wiseman في العام 1992م الذي أكدته المحكمة العليا بأن التشريع  يخالف بند التأسيس إذا ما أفضى إلى الإكراه على الأفراد، فمثلاً في القضية الأخيرة حكمت المحكمة بأن إقامة الصلوات في حفل التخرج تفضي إلى إكراه الطلاب اللذين لا يرغبون بإقامة الصلاة على أدائها.

وأما المعيار الأخير فهو معيار التقليد التاريخي الذي يحظى بثلاثة تفاسير، الأول أن التشريع أو التصرف يخالف الدستور إذا لم يقبل وكان محط جدل تاريخي، وأما التفسير الثاني فإن التشريع يكون دستوريًا إذا  كان مقبولًا تاريخيًا، أو إذا لم يعارض قيَم عدم تأسيس دين رسمي للدولة. وأخيراً فإن المعنى الثالث للتقليد التاريخي هو أن التشريع لا يكون دستوريًا إذا أدى لحصول أحد الشرور التي وضعها بند التأسيس من أجل منعها، ومن هذه الشرور التي وصفها القاضي برنان:

أ-القيام بنشاط ديني لمؤسسة دينية عن طريق الحكومة.

ب-توظيف مؤسسات الدولة لأغراض دينية.

ت-استخدام وسائل دينية لإدراك غايات حكومية وذلك في قضية School District of Abington Township, Pennsylvania v. Schempp في العام 1963م.

ثانياً: القضايا

نظرت المحكمة العليا ثلاث قضايا… الأولى تتعلق بحظر إحدى الولايات لتدريس التطور في المدارس العامة، وأما الثانية فتتعلق بصدور قانون حظرت به إحدى الولايات تدريس التطور من دون علوم الخلق، وقضية ثالثة تتعلق بتدريس نظرية الخلق إلى جانب التطور.

قضية  Epperson v. Arkansas:

 نظرت المحكمة العليا في هذه القضية عام 1968م التي تتعلق بقانون ولاية أركنساس الذي حظر تدريس التطور في المدارس أو الجامعات، وتتمثل وقائعها بطلب مدرس لإحدى المحاكم بإصدار حكم تقريري حول دستورية هذا القانون أمام المحكمة، حكمت محكمة Chancery بعدم دستورية القانون؛ وذلك لأنه يشكل تقييدًا لحرية التعبير بموجب التعديل الأول والرابع عشر، وحين استُؤنف الحكم أمام محكمة ولاية أركنساس حكمت الأخيرة بأن القانون دستوري وذلك لأنه يقع ضمن صلاحية الولاية في اختيار المواد الدراسية.

فيما بعد طعن المدرس بالحكم أمام المحكمة العليا، وأكدت المحكمة العليا أن القانون غير دستوري، وأنه يخالف التعديل الأول والرابع عشر، ويشكل أخيراً مخالفة لواجب الولايات بعدم إقامة دين رسمي لها. وبينت المحكمة العليا أنه لا يمكن للولاية أن تحظر تدريس نظرية علمية وتفرض عقوبة جنائية على من يخالفه، حينما تكون الغايات الكامنة وراء هذا القانون تخالف بند التأسيس. وهكذا لم يكن يستهدف القانون الحياد الديني على الأطلاق بل استهدف حظر تعليم نظرية علمية تخالف تعاليم الإنجيل. 

قضية Edwards v. Aguillard

حكمت المحكمة العليا بهذه القضية عام 1987م التي تتعلق بصدور قانون لولاية لويزيانا يحظر تدريس التطور إلا إذا كان مصحوبًا بعلوم الخلق Creation-Science والتي تمثل معتقداً مسيحياً يرى بأن الأنواع ظهرت بشكل فجائي على الكوكب، لا تلزم المدارس بتدريس التطور، ولكن إذا درّسته يجب أن تصحبه بعلوم الخلق. 

حين عُرضت الدعوى أمام المحكمة العليا حكمت المحكمة العليا بعدم دستورية القانون، مستندة بذلك على معايير سابقة ليمون Lemon v. Kurtzman إذ بيّن أحد القضاة أن غاية هذا التشريع لم تكن علمانية، وأن أثره الأساسي هو تعزيز وجهة النظر الدينية القائلة إن”خالق خارق للطبيعة خلق الإنسانية”، وإن هذا القانون خل التداخل بين الدين والدولة عن طريق الدعم الحكومي المالي والرمزي للدين”.

قضية Kitzmiller v. Dover Area Sch. Dist:

وهي إحدى القضايا التي حكمت بها المحكمة العليا عام 2005م التي تتمثل وقائعها برفع المدعين ومن بينهم Kitzmiller دعوى على مدارس مقاطعة Dover Area ومجلسها التي ألزمت تدريس التصميم الذكي (نظرية دينية ترتكز على تسبيب وجود الخالق وصحة الدين على حدود ما نمتلكه من معارف لا على صحتها) في مادة الأحياء للصف التاسع، مدعين أن تدريس نظرية نشوء الكون والحياة هذه تؤدي إلى إقامة دين رسمي للدولة وتعارض التعديل الأول الذي ينطبق على الولايات بحكم التعديل الرابع عشر.

طبقت المحكمة العليا بالواقع معايير قضية ليمون وكذلك معيار المقبولية، وأكدت بأن الطبيعة الدينية لهذا التصرف واضحة للبالغ والطفل، إذ إن نظرية التصميم الذكي ليست علمًا، وذلك لأنها: 

-خالفت تقاليد علمية مترسخة منذ قرون عدة حينما أكدت وجود سببية خارقة للطبيعة.

-إن حجة التعقيد غير قابلة للاختزال قد اتبعت نفس المغالطة المنطقية التي اتبعتها نظرية علوم الخلق.

-إن انتقادات التطور التي وضعها مؤيدو هذه النظرية قد دُحضت من قبل المجتمع العلمي.

– لا تعد نظرية التصميم الذكي علمًا، إذ لم تخضع للاختبارات ولا للبحوث، ولا يمكن أن تفصل عن الدين.

وفي النهاية أكدت المحكمة بأنه لا تعد نظرية التطور، نظرية كاملة ومثالية، لكن هذا لا يعني أن نستخدم الأسئلة التي لم تجب عنها النظرية كسبب لإدخال نظريات غير علمية أو تقديم النظريات العلمية المثبتة بصورة سيئة.

المصادر:

 1. Epperson v. Arkansas , 393 U.S. 97, 89 S. Ct. 266 (1968), the link:

https://cutt.ly/sMRexVE

2. Edwards v. Aguillard, 482 U.S. 578 (1987), the link:

https://cutt.ly/vMRrckr

3. Kitzmiller v. Dover Area Sch. Dist. – 400 F. Supp. 2d 707 (M.D. Pa. 2005), the link:

https://cutt.ly/gMRrOwm

4. محمد رسول محمد، تفسير معايير قضية ليمون في قضاء المحكمة العليا، حوسب، الرابط:

https://cutt.ly/AMRrF3q

5- Kent Greenwalt, Religion and the Constitution, Establishment and Fairness, 2.

6. School District of Abington Township, Pennsylvania v. Schempp, the link:

https://cutt.ly/7MRrL9Z

7. Francisco Jose Ayala, evolution, Britannica, 1999, the link:

https://cutt.ly/6MRrBBe

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: محمد المصطفى رسول محمد

تدقيق لغوي: نور مطر

اترك تعليقا