الحرية الرقمية

يجادل كلٌ من روبرتا فيشلي وتوماس بيشورنر، بأن مستقبلنا الرقمي ليس مُبَرْمَجًا مسبقًا: لقد حان الوقت لنبدأ في التَّفكير في الشَّكل الذي يجب أن يبدو عليه.
هل شاهدت المسلسل التلفزيونيّ الديستوبيّ (المرآة السوداء- Black Mirror)؟ ترسم حلقة نوزدايف صورة لمجتمعٍ مستقبليٍّ يُقيِّم فيه الناس سلوك بعضهم البعض وفقًا لنظام الائتمان. يُكَافأ السلوك «الجيد» بالنقاط، ويُقلِّل السلوك «السيئ» من درجاتك. هذا الشَّكل من أشكال الرقابة الاجتماعيَّة محُاَط بجميع أنواع مُراقبة الدَّولة، على سبيل المثال: تُستخدم تقنيات التعرُّف على الوجه لتتبَّع كل حركةٍ يقوم بها الأشخاص. عندما بثت الحلقة لأول مرَّة في عام 2016، كانت بالفعل إشارة وانتقادًا لنظام الائتمان الاجتماعيّ الناشئ في الصين. لكن ليس علينا أن ننظر إلى هذا الحَدّ. في السنوات الأخيرة، أصبح العَالَم الغربيّ أيضًا على درايةٍ باتجاهات مُمَاثِلة.

انهارت «لاسي باوند -Lacie Pound»، البطلة الرئيسيَّة للحلقة، في هذا المجتمع. يؤدي سلوكها إلى تراجع تصنيفها، وتجد نفسها في دوامة هبوط. في النهاية، ينتهي بها الأمر في السجن. من المُفَارقات أن هذا هو المكان الوحيد للحُرِّيَّة في ذلك المجتمع. تخدم استعارة «السجن» أيضًا وظيفة مهمة أخرى في المناقشة المستمرة حول التحول الرقمي. إنه يُوفِّر رمزًا للرأسماليَّة المُراقِبَة الجديدة التي تسلبنا حُرِّيتنا و«تسجننا»، وإن كان ذلك بطريقةٍ غريبة.

صمَّم الفيلسوف النفعيّ جيريمي بنثام ذات مرَّة «سجنًا مثاليًا» سُمي بانوبتيكون. في السجن، يتمكَّن عدد قليل من الحُرَّاس في أبراج المُرَاقَبة المركزيَّة من مُرَاقبة العديد من السُّجَنَاء. مع ذلك، في عصرنا الرَّقميّ، يتحدَّث عَالِم الجريمة النرويجيّ توماس ماتيسين عن سينوبتيكون، حيث يحتمل أن يراقب الجميع -وبالتالي التحكُّم- في أي شخصٍ آخر. ما إذا كان الرَّصد يحدث بالفعل أم لا، فهو أمر غير ذي صلةٍ بالتَّأثير. كما أظهر الاقتصاديون السلوكيون، فإن مجرَّد إمكانية «الاعتدال الاجتماعيّ» من المُرجَّح أن يكون لها تأثير مخيف على التعبير والعمل.

على الرغم من أهمية تركيزنا العِلْميّ والسياسيّ الحالي على تداعيات المُرَاقبة، هناك أسئلة أخرى لا تقل أهمية يجب أن نطرحها على وجه السُّرعة. في البداية، يرتبط مصطلحا «المراقبة» و«السَّيطرة» بفهمٍ محدَّدٍ للحُرِّيَّة -التحرُّر من شيءٍ ما- مثل التدخُّل والسَّيطرة والقيود. أطلق الفيلسوف أشعيا برلين على هذه الحُرِّيَّة “السَّلبيَّة”. يرتبط هذا النوع من الحُرِّيَّة ارتباطًا وثيقًا بالقِيَم الليبراليَّة للمجتمعات الغربيَّة. تنعكس فِكْرة تحرِّير الذَّات من القيود غير المرغوب فيها أيضًا في العديد من محادثاتنا حول مخاطر التقنيَّات الرَّقميَّة. وَفْقًا لذلك، فإن أهم معايير الحّرِّيَّة الرَّقميَّة تميل للتوافق مع هذا الفهم الليبراليّ السَّلبيّ للحُرِّيَّة: أفكار مثل الاستقلال الذَّاتيّ، والاستقلال، والاختيار الحُرّ. لكن على الرَّغم من أن هذا يُوفِّر رؤى فِكْريَّة قَيِّمَة -خطر زيادة المُرَاقبة لحُرِّيَّة التعبير والديمقراطيَّة، على سبيل المثال- فإن مكانتها النموذجية في نهجنا للحُرِّيَّة تُخَاطِر بنا بإهمال اعتبارات أخرى لا تقل أهمية في العَالَم الرَّقميّ.

تمامًا مثل أي مفهومٍ أساسيٍّ آخر مُتنَازع عليه، عُرِّفت «الحُرِّيَّة» وفُسِرَّت من مجموعةٍ متنوعة من وجهات النَّظر. تجدر الإشارة هنا إلى نهجين آخرين هما: النهج «الإيجابيّ» والنهج «الاجتماعيّ» إزاء الحُرِّيَّة.

إعلان

على عكس التحرُّر السَّلبيّ من القيود، فإن الحُرِّيَّة الإيجابيَّة كما أطْلَقَ عليها أشعيا برلين: هي امتلاك القُدْرة الإيجابيَّة على فعل شيءٍ ما. تُشدِّد الحُرِّيَّة الإيجابيَّة، على سبيل المثال، على أهمية المُشارَكة السياسيَّة والسَّعي وراء النُّسْخة الخاصة من «الخير». لهذا السبب، فإن التَّفكير الإيجابيّ في الحُرِّيَّة يدعونا إلى التَّفكير في القِيَم والأهداف التي نَوَدّ أن نراها مجسَّدة ومتابعة وربما حتى مُحقَّقة من خلال التحول الرقمي. لذا، فإن الأسئلة المتعلِّقة بالحرية الرقمية ليست ببساطةٍ: كيف يمكننا منع مجتمع المُرَاقَبة؟ ولكن أيضًا، ما هي المُثُل الاجتماعيَّة والسياسيَّة الإيجابيَّة التي نريد ترويجها، ومن الذي يُحدِّد ذلك؟

الفَهْم الآخر للحُرِّيَّة الذي يوفِّر أرْضية مُثمِرة للنقاش هنا -الحُرِّيَّة الاجتماعيَّة- يقدمه الفيلسوف الاجتماعيّ الألمانيّ المُعاصِر أكسيل هونيت. يُجادل هونيت بأنه لا أحد منا يعيش في «الحَبْس الانفراديّ» باعتباره «أنا» غير اجتماعيٍّ، ولكن بدلًا من ذلك، نتفاعل باستمرارٍ مع الآخرين بصفتنا «أنا» اجتماعيًا: كأفرادٍ في الأُسْرة، ومُسْتَهلكين، ومواطنين. “من نحن” يعتمد بشكلٍ كبير على “من حولنا”. تُحدِّد أفعالنا أيضًا الآخرين وتجعلهم من هُم. هناك «نحن» في «أنا» و«أنا» في «نحن». بعبارةٍ أخرى: يُشكِّل إخواننا البشر “من نحن” بصفتنا أفرادًا. لذا، فإن الحُرِّيَّة تتحقَّق ليس فقط من خلالهم، أو حتى على الرَّغم منهم، ولكن فيهم.

تدعونا الحُرِّيات الإيجابيَّة والاجتماعيَّة إلى الجُرْأة على الهروب من السجن من مفهوم ضيق للغاية للحُرِّيَّة، مثل غياب الإكراه. عند تطبيق هذا التحرُّر من الحُرِّيَّة السَّلبيَّة على التحول الرقمي، تظهر ثلاثة مجالاتٍ ذات أهميةٍ خاصة.

من المعروف أن مُطوري البرمجيَّات ينتمون أساسًا إلى فئةٍ اجتماعيَّةٍ معيَّنةٍ: رجال بيض متعلِّمون جيدًا. تشمل العواقب الخوارزميَّات التي تعمل لصالح أعضاء تلك البيئة الاجتماعيَّة، و«مُعَاقبة» الآخرين، على سبيل المثال، من خلال تقييد وصولهم. حيث تُحدِّد الخصائص «ذات الصلة»- يُعرف «نحن»- في التَّرميز، كتابة البرنامج. وبالتالي، فإن التَّجَانُس القوي في أقسام التنمية في شركات البرمجيَّات يمكن أن يكون مصدرًا للعيوب المنهجيَّة، أو حتى على درجة من الاضطهاد من قِبَل الفئات الاجتماعيَّة الأخرى.

كان أحد وعود الإنترنت تسهيل الاتصال العالميّ وترك المسافة المكانية تتلاشى في الخلفية. في الواقع، يمكننا اليوم الحفاظ على العَلاقات التُجاريَّة أو الاجتماعيَّة التي لم يكن من الممكن تصوُّرها قبل ثلاثين عامًا. وقد أدى هذا إلى توسيع إمكانيات «نحن». ومع ذلك، في الوقت نفسه، تشير التطوُّرات التي حدثت على مدار السنوات القليلة الماضية أيضًا إلى شيءٍ آخر أكثر ضررًا من فائدته «لنحن»: نحن نُغْلِق على أنفسنا مع أقراننا في فُقَّاعات وسائل التواصُل الاجتماعيّ وغرف الصدى. غالبًا ما تُشكِّل هذه المناطق الجديدة تقسيمًا جديدًا «نحن ضِدَّهم». تصلب جبهات الخطاب. من حيث تفكير هونيت، فإن هذه التطوُّرات تحد أو تحرمنا أيضًا من الحُرِّيَّة الاجتماعيَّة التي تُشكِّلنا كأشخاصٍ.

عِلاوَة على ذلك، مثلما تتطلَّب الديمقراطيَّة مواطنين مُطَّلِعين، لا يمكن لمستقبلنا الرَّقميّ أن يزدهر دون كفاءة رَقْميَّة واسعة النطاق. لا يعني هذا معرفة لُغَات البرمجة، ولكن معرفة تأثيرات أفعال الفرد عبر الإنترنت. لكنه قد يستلزم ذلك مسؤولية من جانب مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، ليس فقط على أساس العناوين الرئيسيَّّة والإعلانات التشويقيَّة، ولكن لتكوين رأي جوهريّ ومستنير بشأن الموضوعات التي يرغبون في نشرها. ستكون هذه خُطوة مهمة نحو الحُرِّيَّة الإيجابيَّة للفرد في مجتمعٍ رَقْميٍّ ليبراليٍّ.

النِّضَال من أجل الحرية الرقمية

إذا سألنا كيف يمكننا إحراز التقدُّم في هذه المجالات، فمن المُحتَمل أن توجه ثلاثة خيارات للعمل:

  • ضبط النَّفس من قِبَل الشركات.
  • تنظيم صارم من قِبَل المؤسَّسات السياسيَّة.
  • تقوية المجتمع المدنيّ.

قد تزداد شُكُوك المرء فيما يتعلَّق بالخيار الأوَّل. منذ استجواب مؤسِّس فيسبوك مارك زوكربيرغ من قِبَل لجنة الكونجرس الأمريكيّ للاشتباه في التأثير على الانتخابات الرئاسيَّة لعام 2016، انتشرت تصريحات الالتزام الذَّاتيّ الأخلاقيّ عبر الفضاء الإلكترونيّ. يمكن بالتأكيد التساؤل عَمَّ إذا كان هذا أكثر من مجرَّد كلام. على سبيل المثال: طردت Google الباحثة البارزة (تيمنيت غيبرو- Timnit Gebru) من قسم الذكاء الاصطناعي والأخلاقيَّات في أواخر عام 2020 لتحضيرها لنشر مقال بحثيّ نقديّ. قَيَّد فيسبوك الوصول إلى مرصد الإعلانات التابع لجامعة نيويورك في عام 2021، لإجرائه بحثًا حول قضايا المعلومات الخاطئة في البث السياسيّ.

في عام 1944 شكَّك المؤرِّخ الاقتصاديّ كارل بولاني بالفعل بشأن إمكانية تغيير الرأسماليَّة من الداخل. لكن في كتابه من ذلك العام، “التحوُّل العظيم“، وصف التفاعُل التاريخيّ بين الأفْكَار الديمقراطيَّة والمصالح الرأسمالية من ناحية «الحركة المزدوجة» التي تتميَّز بالنمو المُستمر للسوق الذي يقابله «تحرُّك مضاد» للجهود التلقائيَّة التي تبذلها السياسة، والمواطنون، والمجتمع المدني لكَبْح التوسُّع للاقتصاد في اتجاهاتٍ معيَّنة والحَدّ من انفصاله عن المجتمع بدرجاتٍ متفاوتة من النجاح والفشل. إن أوجه الشَّبه مع التحقُّق من توسُّع الرأسماليَّة المراقبة واضح. على حَدّ تعبير الأستاذة بجامعة هارفارد شوشانا زوبوف: «إذا ازدهرت الحضارة الصناعيَّة على حساب الطبيعة وهدَّدت بخسارتنا الأرض، فإن حضارة المعلومات التي شكَّلتها الرأسماليَّة المراقبة ستزدهر على حساب الطبيعة البشريَّة وتتسبَّب في خسارتنا إنسانيتنا». (عصر الرأسمالية المراقبة، 2019، ص 326).

ربما يكون التَّنظيم الأفضل وتعزيز المجتمع المدنيّ واعدًا أكثر من الاعتماد على شركات التكنولوجيا وحدها لتحمُّل المسؤولية؟ على سبيل المثال، أطْلَقَ الاتحاد الأوروبيّ بالفعل العديد من مبادرات تنظيم السياسة في السنوات الأخيرة. لا سيما، «اقتراح لائحة تُحدِّد القواعد المُنسِّقة للذكاء الاصطناعيّ» في أبريل 2021.

غير أن هذه المبادرة وغيرها من المبادرات التشريعيَّة تحتاج إلى أن تقترن بمُدْخَلات أكثر ديمقراطيَّة وعناصر تشاركيَّة. المجتمع المدنيّ، وخاصة في شكل المُنظَّمات غير الحكوميَّة، أمر مهم لإعادة تشكيل الساحة الرَّقميَّة. فمن ناحيةٍ، يمكن للمُنظَّمات غير الحكوميَّة أن تساعد في عملية النَّقد البنَّاء من خلال المُسَاهمة بخبراتها ووجهات نظرها الاجتماعيَّة المختلفة. سيكون من الضروريّ تعزيز أصوات النُقَّاد والمُعَارِضين، وكذلك توفير الموارد الكافية لتنفيذ بعض انتقاداتهم.

من المُحتَمل أن يكون دور مُنظَّمات المجتمع المدنيّ مهمًا لسببٍ آخر أيضًا. يبدو أن الاستخدام المتزايد للذكاء الاصطناعيّ لا يمكن إيقافه، وبهذا المعنى يبدو أن المستقبل مُبرمَج مُسْبقًا للعديد من مجالات الحياة. لكن السؤال الأكثر جوهرية حول مجالات المجتمع والقرارات الاجتماعيَّة التي نريد استبعادها من استخدام الذكاء الاصطناعيّ لأسبابٍ مبدئية، هو السؤال الذي يحاولون تجاهله. عندما يتعارض استخدام الذكاء الاصطناعيّ مع أفْكَارنا عن الحُرِّيَّة أو الخُصُوصية أو العدالة، وربما يُعرِّض نظامنا الديمقراطيّ الليبراليّ للخطر، فنحن بحاجةٍ إلى أن نقول: لا شكرًا. هل نريد أنظمة أسلحة مدعومة بالذكاء الاصطناعيّ، أو أنظمة مراقبة تستخدم تقنية التعرُّف على الوجه؟ هل يجب السماح للخوارزميات باتخاذ قرارات الفَرز في وحدات العناية المركَّزة؟ إن مُعَالجة هذه الأسئلة والعديد من الأسئلة المُمَاثِلة الأخرى، سيكون شرطًا أساسيًا لاكتساب رؤية محورها الإنسان حقًا في التحوُّل الرَّقميّ، حيث لا يكون البشر «في الحلقة» فحسب، ولكن أيضًا «خارج الكود».

المصدر

إعلان

مصدر مصدر الترجمة
فريق الإعداد

تدقيق لغوي: أمل فاخر

اترك تعليقا