مسلسل Black Mirror: متعة مراقبة الآخر وإيذاءه

الإنسان لا يرى الإنسان دون متعة

ماكسيميليان روبسبيار

المراقبة والمشاهدة والتلصُّص أو النظر إلى ما يحيط بنا من بشرٍ مع الاهتمام بأسخفِ تفاصيلِهم، كلَّها ورغم اختلافاتها تبدو جوهرًا واحد مع مظاهر مختلفة، فهي مفاهيمٌ تصوّر لنا اقتحام دوائر الآخرين التي بها أسرارهم، أو أكثر صور حياتهم بساطةً وسطحيَّةً ومع ذلك هي ملكٌ لهم، لكنَّنا في حاجة إلى امتلاكها.

إنَّه نوعٌ من حب التطفُّل الذي عمل عليه الفنَّان السرياليّ “سلفادور دالي”حين قام بكتابة مذكِّراته أو سيرته، فعنونها بـ”الحياة السريَّة”، أيّ الحياة الحميميَّة التي تخصّه. لا شكّ إذن أنَّ الكثيرين سوف يداهمهم الاهتمام ليقتنوا الكتاب ويبدأوا بقراءته حتى يكون بوسعهم التجسُّس على فنَّان ميِّت. تجسُّسٌ متبوع بحالات متضخِّمة من حب الاستكشاف، ويمكن أن يكون دافعه مَرَضي فنحن كائنات مصابة بالفضول والرغبة في النظر، لا سيّما حين لا يشمل الأمر حياتنا بل حياة غيرنا، وتتزايد حدة الفعل حين يمسُّ أكثر مناطق المرء حساسيَّة وخصوصيَّة فكلّ الأشياء التي نود أن لا يراها الناس هي أكثرها إثارةً لعواطفهم.

لقد أصبحنا نؤذي ذاتنا والآخر بحبّ التلصُّص والإدمان عليه، في نفس الوقت الذي نجد فيه المتعة واللذَّة ونحن نمعن النظر فيما لا يجب أن نمعن النظر فيه.

في هذا الموضوع نحن لم نجد أفضل من المسلسل البريطانيّ Black Mirror للتعبير عن مثل هذه الظاهرة في أكثر من خمس حلقات. ولقد قادتنا حلقاته المنفردة والمنفصلة عن غيرها، إلى الوصول إلى بعض الزوايا التي جسَّدها وأثارها في وعي ولاوعي المشاهد.

التاريخ الكامل لك: The Entire History of You

هذه الحلقة من الموسم الأوَّل في مسلسل Black Mirror ليست أكثر الحلقات إثارة وغموض، لكن من أكثرها تأثيرًا وطرحًا للأسئلة. تتعلَّق قصتها بالذاكرة حيث يمكن لكلّ شخص في مستقبلٍ قريب من حاضرنا أن يكون قادرًا على التحكّم بها من خلال جهاز متصِّل بجهازه العصبيّ.

إعلان

يستطيع الإنسان عبر هذه التكنولوجيا تسجيل حياته وعرضها مجددًا لنفسه في أيِّ وقت يريده، وهو يراها بعينيه مثلما يرى أحلامه أو كما يشاهد التلفاز لكن بواقعيةٍ مفرطة، وبامكانه كذلك عرضها لغيره على شاشات العرض والكومبيوتر.

يصير الإنسان في هذه الحلقة عالقًا بين حياتين، حياته الواقعيَّة وحياته السابقة المخزَّنة مثل أيّ ملفات في بطاقةِ ذاكرة تُمكِّنه من أن يعيشها مجددًا من خلال مشاهدتها، وبمعنى آخر: هو يعيش داخل الذكريات. كما أنَّه يبدو فاقدًا لذاكرته بوجود مثل هذه التسجيلات المخزنَّة التي يرجع لرؤيتها في كلِّ مرة من دون اتعاب نفسه بمحاولة تذكُّر ما يرغب في استرجاعه بشكلٍ طبيعي. إنَّه أشبه بما يمكن أن نطلق عليه الإنسان الجديد الفاقد للذاكرة.

تستعمل الحكومة في مؤسَّساتها وأيّ مكان فيه نقاط تفتيش أو سلطةً ترغب في معرفة ماضي المواطنين والموظَّفين: ما يسجِّلونه من أيامهم وسنواتهم التي مضت، لكي تستطيع معرفة حياة الواحد منهم أو آخر شي فعله، وإذا ما كان يشكّل أي خطر محتمل (إرهابي، هارب، مشبوه) مع مصالح أخرى.

لكن الموضوع لا ينتهي هنا ففي مجتمع الذكريات، تصبح ذكريات الفرد مثل فيلمٍ أو مسلسلٍ يتسلَّى به الأشخاص ويتم مشاركتها فيما بينهم، كما أنَّ حياتهم الخاصة عرضة للكشف ومشاهدتها من قبل غرباء ولصوص، فالأمر يتجاوز إرادة الشخص في عرض ذكرياته أو الضغط عليه إلى شبكات من المافيا تهاجم الناس وتسرق ذاكرتهم، حينها بوسع المجرم الاستمتاع بحياة الغير، لاسيما إذا كان شخصًا منحرفًا يجد المتعة في التطفُّل على حياة النساء الحميميَّة كما حدث مع أحد شخصيات الحلقة.


لا يتوقَّف الأمر عند هذا الحدِّ بل يمكن لذاكرتك وضعك في موقفٍ محرِج، فإذا خضت علاقة سابقة مع أحدهم (صداقة، زواج، حب) يستطيع شريكك أن يعرضها لبقية أصدقائه حتى لو كانت حميميَّة جدًا وأن يستمتع بها مثلما يفعل الإنسان اليوم مع الأفلام الإباحية. ويمكنه بفضلها أيضًا الانتقام منك وفضحك أو ابتزازك إذا فكرنا أبعد مما عرضه مسلسل Black Mirror.

أخلاقيات التعامل مع هذا الاختراع غائبة في هذا العمل، وحتى الشرطة أو جهاز الأمن الذي يحمي الفرد أويمنعه من سوء استعماله لذاكرته وذاكرة غيره لا يتم ذكره بتاتًا بل نعثر فقط على رقابة السلطة لأجل مصالح البلد ومؤسساته.

بِوسعنا التصوّر أثناء مشاهدة هذا الجزء من مسلسل Black Mirror أنَّ هذه التكنولوجيا تحدّ من قدرة الشخص على التخيَّل والملاحظة الدقيقة، فهو في كل لحظة يعتمد على هذا الجهاز ليستعيد به ذكريات الأمس أو قبل ساعة ودقائق فقط من حاضره الآني؛ ليدقِّق مجددًا في الأحداث ويفحصها سواء كانت مقابلة عمل، لقاء مع أصدقاء، ليلة مع الزوج/الزوجة. ورغم عدم قدرة الانسان على تغيير ذكرياته أو إلغاءها في الماضي، غير أنَّه يستطيع عبر الاتصال بها الاستفادة منها وتغيير أو تحسين مستقبله وفُرَصِه في الحياة.

غير أنَّ بطل الحلقة ومن خلال هذا الجهاز استطاع أن يكون أكثر ذكاءً وملاحظة، ويعود الفضل إلى انطباعات سلبيَّة كَوَّنَها عن زوجته -فقدان الثقة بها على سبيل المثال-، في هذه الحالة يكتشف خيانتها له بفضل مساعدة جهاز الذكريات.

يحق لنا أن نسأل أنفسنا عن إمكانية وجود مجتمع شفاف مثل هذا؟ فإذا كانت مواقع التواصل تكشف الكثير من الأشياء فإنَّ مثل هذه التقنية تتعدَّى قدرات مواقع التواصل بكثير، ورغم إيجابياتها العديدة إلّا أنَّ فيها سلبيات أكثر من بينها: الرقابة، الفضائح ونشر حياة الآخر، والإدمان على الذكريات والمتاجرة بها، وسوء الاستخدام، وغياب الحماية والشبكات الواسعة التي ستكون مهتمة كل الاهتمام بسرقة ذكريات الشخص لأسبابٍ: جنسيَّة ومخابراتيَّة وتجاريَّة وشخصيَّة.

إنَّ ارتباط الفرد مع ذكرياته ليس مجرد وسيلة عمليَّة تساعده في بعض المجالات والمواقف الطارئة، بل هو أسلوب حياة لدى هؤلاء الأفراد مرتبط بأجسادهم وعقولهم على نحو يرتبط بتحسين جودة حياة الإنسان وعلاقاته مع غيره وعالمه بل وجسده كذلك، وتقترب هذه التكنولوجيا من دعاوى تجاوز الإنسانية Transhumanism عبر محاولة العبور من إنسانيتنا المحدودة إلى أخرى أوسع ذهنيًا وجسديًا وذات صلاحيات أكبر. والاقتراب نسبيًا من الإنسان الخارق.

تشبه هذه الحلقة حلقةً أخرى بعنوان Crocodile هي عن اقتحام ذكريات الآخرين من طرف السلطات المعنيَّة بالأمر ومعرفة ما فعلوه سابقًا بما في ذلك أشد مواقف المرء خصوصية، مثلما حدث في أحد المشاهد حين قامت جهة معينة بالنبش في ذاكرة أحد الأطباء الذي كان بدوره يتلصّص من عيادته على رجل أثار إعجابه. وربما يكون عنوانها الذي يحيل إلى التمساح -وهو الحيوان الذي يملك عينين فعالتين- حول القدرة الفائقة على الرؤية المجاوزة لقدرتنا المحدودة الآن. وتطرح هذه الحلقة آفاقًا واسعة لمجيء عصر سيصبح فيه الحفاظ على السريَّة أصعب من حاضرنا، مع تجسيد لحالاتٍ نفسيَّةٍ وأخلاقيَّةٍ أخرى.

آرك آنجل: Arkangel

تُذكِّرنا الحلقة السابقة بحلقةٍ أخرى من الموسم الرابع، عن فتاة صغيرة تقوم والدتها بعد يوم شاق من اختفاءها والبحث عنها، بتركيب جهاز صغير داخل رأسها من قبل شركة تكنولوجية، خوفًا عليها من ضياعها مجددًا بلا عودة.

هذه التقنية تساعد الأم بمراقبة طفلتها من خلال لوحةِ تحكُّم، فهي ترى على الشاشة كل ما تراه الفتاة وتبصره بعينيها، وبإمكانها أيضا تعقَّب موقعها. ما يثير الرعب في الجهاز هو أنَّه ليس للمراقبة فحسب بل تستطيع الأم بضغطة زر من اللوحة أن تحجب عن الفتاة كل المؤثِّرات غير المرغوب فيها مثل حادثة أو صور تراها في الحياة من شأنها أن تزيد من نبضات قلبها وتصيبها بالتوتر مثل مشاهدة رجال يتشاجرون أو كلب ينبح أو دماء أو ممارسات جنسيَّة.

فمن خلال هذه التقنية يتم التشويش على أعصاب الفتاة، وبذلك فهي سترى بشكل ضبابي على سبيل المثال وسمعها يصير ضعيف، حينها كلّ المظاهر العدوانيَّة أو الغريزيَّة التي تشترك فيها الطبيعة البشريَّة تصبح شبه مختفية وغير مُدرَكة.

بعد عدد من السنوات تكبر الفتاة وهي لا تعرف شيئًا عن الجانب المظلم للواقع أو نصفه الحقيقيّ، فتصاب بحالة نفسيَّة مضطربة تضطَّر والدتها بعد استشارة الطبيب النفسيّ التوقَّف عن مراقبتها والتشويش على حواسها نهائيا، من دون القدرة على إزالة الأداة العالقة داخل رأسها.


في مرحلة الفتاة الثانوية وبعد أن وقعت في حب صديقها، لا تستطيع الأم مقاومة قلقها وحبها للرقابة، فتسارع مجددًا إلى اللوحة لتعود إلى نفس مدخل المتاهة.

إنَّ نهاية هذه الحلقة مأساويَّة حين تكتشف الفتاة أنَّ والدتها قد استطاعت أن ترى أشياء تخص حياتها الحميميَّة لم يكن يجدر بها رؤيتها.

تطرح الحلقة أسئلةً ومعضلات عن رقابة الأهل فمتى تبدأ ومتى تنتهي؟ كيف يجب أن تكون هذه الرقابة؟ وهل من حق الأبوين مراقبة ابنهم المراهق أو الراشد بحجة حماية مصالحه؟
هل هذه الطريقة أفضل؟ أم أنَّها مجرَّد مشكلة تُضاف إلى مشاكل عائليَّة أخرى؟ والأهم من ذلك هل من حق الأم التحكُّم بدماغ ابنتها لِمساعدتها في خوض تجربة آمنة وورديّة تحمي حالتها الذهنيَّة؟ أم أنّ ما تفعله مجرد خداع لابنتها وإبعادها عن عيش الحياة كما هي بذاتها؟

ما يجعل طبيعةَ الحلقة نفسيَّة؛ هو الإدمان الذي شعرت به الأم من خلال مراقبتها لابنتهاؤ فمراقبتها لها تعدّى دافع الخوف عليها ليصبح ظاهرة أخرى تقترب من السلوكات المنحرفة، وكيف أنَّها قاومت رغبتها لأجلها ثم عادت إليها.

وتتقاطع خطوط هذه القصة مع حلقة أخرى تدعى Smithereens وفيها يسلِّط الضوء على الإدمان الذي تسبِّبه مواقع التواصل الاجتماعي، وقدرتها على توفير متعة النظر هذه عن طريق تصفُّح تطبيقها وما فيه من صور وفيديوهات ومنشورات يتابعها المستخدم بإفراط، لدرجة أنه بالكاد يستطيع رفع رأسه إلى السماء بعيدًا عن الشاشة.

إنَّ ما تمثِّله مواقع التواصل ربما هو حالة باذخة في إهدار الوقت تنشأ من الرغبة في التجسّس على العالم وأفراده عن طريق ما ينشرونه، حتى أتفه تفاصيل حياتهم اليوميَّة. فهي هيمنة تواصلية تشمل معظم مساحات الكوكب، وفيها يصبح الفرد معتادًا على رؤية الآخر بمجرد أن يستيقظ صباحًا ويمسك هاتفه ليعرف شيئًا جديدًا أو ينظر إليه.

النشيد الوطني: The National Anthem

إنَّ ما يشابه التلصُّص على ذكرياتنا القديمة والخاصة بالأصدقاء والأبناء؛ أو ترقَّب ما سيفعله غيرنا، يمكننا العثور عليه في أوّل حلقة بالمسلسل، عن رئيس وزراء المملكة المتحدَّة الذي يجد نفسه في موقفٍ محرج بعد اختطاف “سوزانا” أميرة البلاد، ووصول فيديو موّجه إليه يطالبه بممارسة الجنس مع خنزير ومشاركته في بث حي.

ينتشر فيديو الاختطاف على مواقع التواصل ليشاهده الجميع، فيثير الأمر سخريتهم وصدمتهم، أما هو فيبقى حبيس الخوف والحيرة.

ومع تزايدِ الضغط عليه عن طريق تهديد الخاطفين بقتل الأميرة إذا ما بدرت منه أيّ محاولة لخداعهم أو تقاعس، ثمَّ تهديده هو وعائلته مرة ثانية من قبل الملكة الخائفة على حفيدتها، ناهيك عن مطالبة شعبه بتنفيذ الشرط، يرضخ رئيس الوزراء للواقعِ ليمارس الجنس مع خنزير في حالة من الإجبار في بثٍّ مباشر يراه الجميع.

الجميع يستعدُّ لمشاهدةِ البثِّ والاستمتاع بذلك بمن فيهم أطباء وممرضو المستشفى يجتمعون للتفرج وكأنٌَهم في أحد الحفلات، مسرورون بما سوف يرونه ومتحمسين له.
لكن بمجرد بدايته ومشاهدة رئيس الوزراء المرتبك والمحرج، والكلمات المضطربة التي يتفوَّه بها حتى تتحوَّل فرحة وضحكات المتفرّجين إلى صدمة وشفقة. فالجميع ما عدا شخص واحد لم يتحمَّلوا ما حصل، وبذلك نحن نرى البعض منهم يقرِّر التوقّف عن المشاهدة.

لقد نجح المسلسل في إيصال هذه الدهشة المرعبة التي شعر بها هؤلاء المتفرّجين، وهذا الكم من تعاطفهم في تناقضٍ صادم بين محبة المشاهدة ثم النفور من ذلك، إلّا أنَّه لم يوفَّق في تجسيد سيكولوجية الأشخاص بكلّ اختلافاتهم فحتى بوجود أشخاص سيصابون بالصدمة ويتعاطفون معه بمجرد رؤيته على تلك الحالة فيوجد غيرهم من سوف يستمتع بالأمر ولا يشعر بأي تأنيب ضمير، ربما كان الشخص الوحيد الذي أراد مواصلة الاستمتاع بالمشهد هو الذي يمثّل هذه الفئة.

يتكرَّر الأمر كذلك في حلقةٍ أخرى معنونة بـ USS Callister وهي تتحدَّث عن مبرمج ومصمم أحد الألعاب الذي يتم استغلاله من شريكه في اللعبة الذي يصبح المدير الأوَّل. يعيش هذا الرجل حياةً منعزلة ويشعر بأنَّ الجميع يسخر منه وينبذه، ونراه طوال الوقت يحدِّق إلى زميلاته في العمل اللواتي يرغب بهن، ولا يستطيع الوصول إليهن وبزملائه من الرجال أيضًا الذي يبدو أنَّه يحقد عليهم أو يشعر بالغيرة منهم، فتجعله حياته يخلق عالمًا داخل لعبته يزج فيه الأشخاص الذين لا يحبهم داخله عن طريق نُسَخهم الرقمية التي تملك نفس شخصياتهم وأفكارهم وذكرياتهم ليمارس ساديَّته عليهم وأمراضه النفسيَّة.

متعة النظر:

إنَّ حب النظر يجعلنا نستحضر الكاتبة والمنظّرة السينمائية لورا مولفي في ورقتها البحثية (Visuals Pleasure and Narrative Cinema) التي تنطلق من التحليل النفسيّ في مناقشة لموضوع المتعة البصريَّة عند مشاهدة الأفلام وداخل الأفلام نفسها، مع الطريقة التي يقدِّم فيها الإنتاج السينمائي أعماله.


تتحدَّث لورا مولفي عن اللذَّة البصريَّة التي تقدِّمها السينما للمشاهدين فيما يخص المرأة في المقام الأول وبالتالي يصبح النظر مصدر من مصادر المتعة، ففي السينما التي ينتجها ويتحكَّم بها المجتمع البطرياركي تصبح المرأة هنا التي هي المفعول به؛ الشيء والأداة والصورة التي يراها الرجل الفاعل، إنَّ المرأة الخاملة تُرى والرجل الفعال يَرَى.

تكتب لورا مولفي: “في عالم ينسِّقه اختلال التوازن الجنسي، تم تقسيم متعة النظر بين الذكر الإيجابي والأنثى السلبية، إنَّ النظرة الذكوريَّة الحاسمة تسقط خيالاتها على المظهر الأنثوي الذي صُمِّم وفقا لها. وتكون النساء في دورهن الاستعراضي التقليدي تحت محط الأنظار والعرض معًا، بمظهرهن الذي تم إعادة برمجته لأجل أحداث تأثير بصري وايروتيكي قوي بحيث يمكن القول أنهن يشرن إلى أن تكون: محل الفرجة”(1)

ويصبح الرجل؛ مصاب بحالة من Scopophilia (Pleasur in Looking) أي النظر إلى شخص أو شيء ما بوصفهما موضوعات جنسية يُستمتَع بالنظر إليها، ويمكن أن تتحوَّل هذه الممارسة إلى هوس وسلوكات منحرفة.

وتخدع السينما المُشاهِد بجعله يصدِّق هذا الوهم الذي يسمح له بالتطفّل والتلصُّص على العالم الخاص والحياة السريَّة للشخصيات داخل أفلامها كما تذكر الكاتبة. فيصبح بذلك البطل، جسده، علاقاته وخصوصياته موضوع مشاهدة للمتفرِّجين. وإنَّ كل هذه اللذَّة البصريَّة تشبع بذلك مكبوتاتهم وتجعلهم يستمتعون بما يرونه.

وتبدو فيها علاقة المتجسِّس مع الشخصيات التي يتجسَّس عليها؛ علاقة منفصلة بسبب وجود جدار أو حاجز بينهما، فالمُشاهِد منفصل عما ومن يشاهده، وليس فاعلًا فيه، كما أنَّ حياته في مأمن وليست متأثِّرة بأيّ مما على الشاشة.

إلا أنَّ حب النظر سواء كان سرًا أم علانية، يشمل كلّ ما يخص الحياة الإنسانيَّة وليس فقط المرأة، كما أنَّ حالة المتعة التي تتوَّلد منه ليست مقيَّدة بالمستوى الجنسيّ فحسب بل نجدها مرتبطة بكل شيء حتى الظواهر العادية التي ليس لها علاقة بالجنس، غير أنَّه في واقعنا الفعلي، نحن لا نتأثَّر فقط بما نراه ونسمعه، بل كذلك باستطاعتنا لو رغبنا؛ التأثير على ما نراه ولو بنتائج طفيفة أو غير مباشرة.

كيف ننظر

في كتاب الناقد الفني “جون بورجر” “Ways of Seeing” الذي اشترك في كتابته مع كُتَّاب آخرين، نجد ما يلي: “الرجل: يفعل، أما المرأة فتظهر. الرجل: ينظر إلى المرأة، أما المرأة فترى نفسها يُنظَر إليها”(2)
إنَّ الرجل الذي يتصرف من تلقاء نفسه ويفعل ما يحلو له هو المشاهِد الذي يختار موضوع تأمُّله، أما المرأة فيمكننا تحويلها إلى الممثل أو الآخر الذي ننظر إليه في العالم الواقعي دون أدنى شعور بالخوف وتأنيب الضمير في معظم الأوقات.
يكتب بورجر “نحن نرى ما ننظر إليه، فأن ننظر هو فعل نختاره”(3)

إنَّنا نختار مسبقًا الشيء أو الشخص الذي نشاهده حتى نُرضِي رغباتنا، ويمكننا اختيار الموضوع الذي نركِّز عليه نظرنا حين يتوافق مع أفكارنا ومُتعَنا الخاصة ومصالحنا الشخصيَّة. يكتب مرة أخرى “الطريقة التي ننظر بها إلى الأشياء متأثِّرة بما نعرفه أو نعتقده”(4)

على سبيل المثال، قد نتفق نسبياً على أنَّ الرجل الذي ينجذب جنسيًا إلى النساء ويتأثَّر بهن بسهولة، يمكنه اختيار تجنّب النظر إليهن لأسباب يراها تناسبه، أو بوسعه وعلى عكس الحالة الأولى النظر إليهن -أكثر من من غيره- وإشباع رغبته النهمة، سواء من يصادفهن في الواقع أم على شاشات التلفاز واللوحات والإعلانات، كما أنَّ طريقة رؤيته تتأثَّر بتصوّراته عن المرأة، فالرجل الذي يعادي النساء، بإمكانه وصف الفتاة التي يختارها للنظر والتحديق بأنَّها مفتقدة للأخلاق، إذا ما بدر منها أي سلوك ترجمه هذا الأخير حسب ما يؤمن أنَّه كذلك. إنَّ أي امرأة ترتدي ثيابا مختلفة عن ما يريده الرجعي هي امرأة عارية بالنسبة له رغم ارتدائها الثياب بالفعل. وأيّ امرأة تعبِّر عن غضبها هي مسترجلة وهكذا.
في هذه الحالة أنتَ لا تنظر إلى غيرك فحسب بل إلى نفسك بسبب إدخال تصوُّراتك الشخصية إلى دائرة الآخر، ما يؤزِّم الوضع ويضاعفه أكثر فيغلق ربما كل باب للتواصل والتفاهم.

في جانب آخر يمكن أيضًا أن نجعل اللذَّة البصريَّة سطحيَّة بحيث تكاد تختفي فيها حتى تصوّراتنا واعتقاداتنا في ما نراه، بل صورٌ وأصوات حسيَّة تخاطب أكثر ملكاتنا سذاجةً أو قسوة، وتقوم بفكِّ وثاق مكبوتاتنا أو للترفيه عنا بعد يوم شاق، كما بالإمكان تمضية الوقت مع أصدقائنا مجرِّبين كلّنا متعة النظر معًا في وقتٍ واحد. يمكننا استحضار فقرة الحوادث المضحكة التي اعتاد الناس منذ وقت ليس ببعيدٍ على قضاء وقتهم معها ومشاهدة مجرَّد أشخاص عاديين يركضون ويسقطون، أو يقومون بأفعالٍ معيَّنة فيتفاجئون بحدوث ما لا يمكن التنبؤ به.
إنَّ أي حادثة مسجَّلة تبث إلينا عبر وسائل الإعلام الترفيهيَّة أو المتوفرة على مواقع التواصل عن هؤلاء الأفراد، تجعلهم يبدون بمنظر الحمقى، أما نحن فنضحك ونستمتع ونأخذ الأمر بشكل ساخر رغم أنَّ ما حصل يمكن أنَّه قد ألحق الأذى بأولئك الأشخاص أو تسبَّب بموتهم، فالضحك على الموتى بات منتشرًا اليوم في مجتمع الصورة.
أحيانًا يحدثُ أن نضحك على المواقف المحرجة التي تواجه الأشخاص في الحياة الواقعيَّة رغم غياب تقنيات الإعلام في جعل المشهد كوميديّ، ولا تعنينا نظريات الضحك وأسبابها بقدر ما تهمنا مسألة النظر ونتائجها التي بإمكاننا التحكّم فيها واختيارنا لها منذ البداية، لامتلاكنا مسؤولية أخلاقيَّة تحرِّم علينا استغلال هذه المتعة، فهل يوجد فرق كبير بين المبتز الذي ينشر صور غيره الخاصة على العلن وبين من يسارع إلى رؤية تلك الصور بل ونشرها كذلك؟ ألن تصبح تلك الصور أو المقاطع التي يسرِّبها لفضح صاحبها مجرد أشياء من دونِ فائدةٍ إذا تجاهلها المجتمع ولم يعلّق عليها؟.

إنَّنا وللأسف نؤثِّر في حياة أولئك الذين نقرّر أن نتجسّس عليهم أو نشاهدهم على العلن مباشرة، ونساهم في توليد معاناتهم بنفس القدر الذي يحقِّق الشخص الذي يسخر منهم ويشتبك معهم.

يقول بورجر أنَّنا نحن الذين نشاهد سنكون أيضًا موضوعات عند آخرين أيضاً.(5) وبذلك فالنتيجة التي ذكرها ما هي إلَّا ثمنٌ ينبغي أن ندفعه، فنكون عند البعض وفق ذلك نماذجّا في خدمتهم حيث يستمتعون بمشاهدتنا نؤدي أمورًا عادية، متميَّزة أو غريبة وحميميَّة أو واقعين في ورطة أو مشاجرة. ولا تعني متعة النظر بالضرورة الشماتة بسيئي الحظ أو التشبُّث بالنزعة السادية التي تفضّل رؤية الآخر يعاني أكثر مما يفرح، بل تلك الرغبة في الاستمرار بمشاهدتهم لإشباع شيء ما في الداخل.

وإذا كان بورجر يتحدَّث عن المبدأ الذي يعرّف المرء أو يقوم بتصنيفه حسب ما يملكه “أنت ما تملكه”، (6) وحيث نعود نحن إلى سقراط الذي تنسب إليه مقولته الشهيرة “تكلَّم حتى أراك”، فهويتنا أيضا في مجتمعاتنا المعاصرة تتلخَّص حول ما نحب رؤيته وما نحن متعوِّدين على النظر إليه، فنحن ببساطة ما نراه.

مشكلات النظر

على العكسِ من الواقع، فالمشاهدة في عالم السينما ليست مثله، لأنَّنا ندرك في النهاية أنَّه مجرَّد تمثيل، ومع عدم قدرتنا على التأثير على مجريات العمل الفنيّ، غير أنَّه من الجهة الأخرى يمكن لذلك التأثير في طرق تفكيرنا ورؤيتنا للعالم سواء كان الأمر إيجابيًا أم سلبيًا، إنَّ الأفلام الإباحيَّة مثالٌ جيد، لا سيما حين يكون المرء مناصرًا للدراسات النظريَّة والميدانيَّة التي تحاول إثبات تأثيراتها وأعراضها السلبيَّة، كما يمكن اسقاط حالتنا على ما نشاهده من قصص تلفزيونيَّة وسينمائيَّة ونتأثَّر بنجومها الذين نراهم يشبهوننا أو نجعلهم قدوتنا.

ويمكن أن تتحوَّل متعة النظر من مراقبة صور النجوم وتحرُّكاتهم داخل أعمالهم كشخصيات أو خارجها؛ إلى التفكير الجنسيّ بشخصيات خيالية موجودة في الكتب والروايات والأفلام أو الرسوم المتحركة، حيث تُعرَف الآن هذه الظاهرة بـ Fictosexuality وفيها يشعر المتابع بمشاعر قويَّة وجامحة أو رغبات جنسيَّة موجَّهة نحوهم.(7)

لقد تجاوزت متعة النظر مستوياتها من مراقبة الآخرين ومواقفهم المحرجة أو اليومية، أو التجسًس على من نشعر اتجاههم بالحب أو البغض إلى اشتهاء ما ننظر إليهم من شخصيات لا وجود لها في الواقع. ومع ذلك لا تعد متعة النظر دائمًا سلوكًا هدامّا رغم أنَّه طبيعيّ، بل يمكن أن يكون فوق ذلك تصرَّفٌ جيد وصحيَّ مثل مشاهدة اللوحات الفنيَّة والمناظر الطبيعيَّة، ومشاهدة الرياضة التي تحتمل أوجهًا مختلفة من القيمة الأخلاقية. إنَّ رياضة كرة القدم تبدو أفضل مثال على وجه نظرنا، فمتابعة اللاعبين وهم يتنافسون على تسديد الكرة إلى شباك المرمى لا يلحق الضرر بأيّ شخص، كما أنَّ هذه الرياضة وغيرها وما تقدِّمه للمتفرِّجين والمشجِّعين يعتبرها البعض تنفيسًا عن النزعات العنيفة.
يتساءل الكاتب التونسي “كمال الرياحي” في يومياته عن حقيقة هذه الرياضة التي أرهقته نفسيًا.

“هل ما زالت الرياضة “البديل عن سفك الدماء” كما يقول بول أوستر وهل ما زالت “أشرف الحروب” كما يقول درويش؟ (…) أضع وردًا على قبر الشاعر الإيطالي مانتاليه الذى صرخ من إبطَيْه: “أحلم بيوم لا يسجِّل فيه أحدٌ هدفًا في العالم كلّه” (8)

رغم ذلك فيمكن لبعض الرياضات أن تكون عند عدد من الأفراد بديلًا عن شيءٍ ما، سيكون الأمر واضحًا بشكلٍ أدّق حين نتذكَّر التصنيف الرياضيّ الذي يقسِّم بعض أنواع الرياضات إلى “الفنون القتاليَّة”.

وبالعودة لكرة القدم فيجب أن ندرك، قابليتها في إنتاج متفرِّجين ومشاهدين يخلقون عالمهم الخاص والمقدّس المتعلّق بها وبرجالها الذين أصبحوا يشبهون أبطالًا ملحميين أو شخصيات سينمائيَّة ودينيَّة، حيث يؤدي أحيانًا إلى التطرُّف والتعصُّب لأجلهم مع الأعمال التخريبيَّة التي تأتي من متابعة فرقهم في كل مباراة.
يضع الفيلسوف الأخلاقيّ بيتر سينغر احتمالًا حول بعض الحماقات التي تُرتَكب في هذه الرياضة من قبل اللاعبين أو جمهورهم في أنَّ “ثقافة التحزُّب المفرطة قد تغلبت على القيم الأخلاقيَّة”(9)

إنَّ كرة القدم رياضة تعرف شهرة واسعة ونشاطًا مكثَّفًا، وهي محلِّية وعالمية، ولديها ارتباط وثيق بالشعوب والوطن كما يمكن أن تكون دليلّا على وطنيتك وحبك لبلدك من خلال تشجيعك لها. وتتابعها جميع فئات الشعب بأثريائها وفقرائها، ناهيك عن عبادة أفضل لاعبيها الذين ينحدرون من أحياء فقيرة أو متوسطة. لكن يبدو أنَّ هناك رياضة أسوأ منها حالًا هي رياضة الملاكمة التي تضعنا في موقف صعبٍ ومعقَّد من أفعالنا الأخلاقيَّة، ذلك لأنَّنا نشترك فيها بطريقة ما عبر مشاهدتها.

وحين تتحدّث الناقدة والنسوية “روزاليندا مايلز” عن النساء اللواتي يقتحمن مضمارها فهي تقول عن الملاكمة بأنّ الكثير “يعدِّها… متوحشة ومهينة، حتى بالنسبة إلى الملاكمين الذكور”(10)

إنَّ مشاهدة شخصين يتشاجران أو يمارسان حركات قتالية؛ يجعلنا نلتذ ونشعر بنفس تلك المتعة التي كان يشعر بها المتفرِّج في المدرجات الرومانيَّة وهو يتابع بطلًا يتشاجر مع الحيوانات الضارية، أو رجالا يتنافسون فيما بينهم على الفوز حتى الموت، فهل مثل تلك الرياضة هي تعويض لنا عن ذلك العنف الذي لم نستطع إخراجه إلى العالم بعد أن قمعنا القانون والسلطة والمجتمع؟ أم هي لعبة تنافسية شيقة تثيرنا وترفع مستويات الأدرينالين لدينا؟

إنَّنا كجنس بشري نستمتع بما نراه في السينما، في مباريات الكرة والأنواع الأخرى من الرياضات، وتأمُّل الطبيعة، ومشاهدة اللوحات الفنيَّة إلى النظر إلى بعضنا البعض. وإنَّ النظر ليس خطيئة بل هو وظيفة بيولوجيَّة في المقام الأول مثله مثل السمع، والشم والتذوق، لكنه في نفس الوقت ثقافة وسلوك وطبع يطوِّره وعينا ليغدو عاملّا أساسًا في علاقاتنا مع الآخر وأنفسنا، وهناك من لديه فرط في الرؤية يجعل من ذلك عادته، وطبيعته فيصاب بإدمانِ بعض أشكال الصور.

لعلّّ الفيلسوف الألماني “فريدريك نيتشه” أحسن تسديد هدفه حين تحدَّث عن مفهوم يدعى “متعة العمى” أو حرفيا كما مكتوب “شهوة العمى” أو “الرغبة في العمى” Lust an der Blindheit (11) وهي متعة بالجهل الفكري أو الوجودي لا الحسي، غير أنَّنا نستطيع ترويضها لنتحدّث عن متعة العمى الفعلي، ونجعل من العميان الموجودين في الإنجيل الذي قال عنهم المسيح “عميان قادة عميان، واذا كان أعمى يقود أعمى يسقطان كلاهما في الحفرة” (12) أفضل من الإنسان سليم العينين. فنحن بإمكاننا أن ننظر إلى ما ومن نريد، لكن ليس كلّ شيء يحتاج أو يستحق ذلك.

المتحف الأسود: Black Museum

تدور القصة الأولى حول طبيبٍ يفشل في إنقاذ العديد من مرضاه، ولأجل ذلك يشارك في تجربة طبيَّة تمكِّنه عن طريق جهاز إرسال وآخر للاستقبال من الشعور بآلام المرضى وأحاسيسهم لمعرفة أعراضهم بدقَّة في سبيل إنقاذهم، ويتطوَّر الأمر عند الطبيب إلى درجة إدمانه الألم وتلذُّذه به، ويتفاقم ذلك حين يرتبط بمريضٍ يتوفى أثناء اتصاله العصبي به. ولا تعود المشكلة مجرَّد إدمان للألم فحسب بل رغبةٌ وتوقٌ إلى الشعور بـ”الخوف” الذين يحس به الإنسان.
إنَّه تطفُّلٌ من نوع آخر يخص الإحساس والجسد، يصل دخول تجربة الموت وهذا ما لا تقبله طبيعتنا الجسديَّة والعقليَّة لينتهي الأمر بالطبيب في حالة من حالات الهوس والجنون والدخول بعدها في غيبوبة.

أما القصة الثانية فتبدو مزعجة ومنفرة من الأولى حيث تصوّر لنا حياة عائلة صغيرة محطَّمة، عن طريق حادث يتسبَّب بدخول الأم في غيبوبة. لكن بعد سنوات تستطيع مجموعة من العلماء نقل وعيها إلى مساحة فارغة في دماغ زوجها بموافقة الاثنين منهما حتى تستطيع العيش معه فتشاركه الحياة وترى ما يقرأه وتشعر بما يشعر به. تصبح الزوجة في دماغ الزوج و وسعها أيضًا الكلام معه داخل رأسه.

مع مرور الأيام تغدو الزوجة بمنزلة الرقيب المزعج والجاسوس الذي يراقب الزوج ويعلِّق على أفعاله كل مرة، لكن من دون التحكَّم أو السيطرة على تصرُّفاته وعاداته الغذائيَّة والصحيَّة وكيف يقوم بتربية ابنهما. ما يجعل الزوج في النهاية وفي خطوة غير أخلاقيَّة من دون استشارتها ينقل وعيها داخل “دمية قرد” يمنحها لابنهما الصغير.
هنا تفقد الزوجة تواصلها مع زوجها وتصبح مجرَّد متفرِّجة صامتة لكن في نفس الوقت هي تعيش هذه الحياة، وتستمر معاناتها داخل هذه الدمية التي احتُجِزت بعد ذلك داخل المتحف الأسود ليراها غيرها ويتلصّصون عليها وهي ليس لديها أيّ شيء تفعله أو تستمتع به غير “رؤيتهم” مجبَرة في عذاب أبدي.

تلك كانت القصة الثانية أما الثالثة والأخيرة فهي عن سجين اتُهِم بارتكاب جريمة قتل من دون دلائل كافية، ولكي يوفِّر لعائلته بعد إعدامه الحياة الجيدة يقرّر في تجربة علمية منح ذاته الرقميَّة أي وعيه بعد موته إلى أحد العلماء وهو نفس العالِم في كلِّ القصص الثلاث.


بعد وفاة هذا الأخير، يجد نفسه فجأةً وقد رجع إلى الحياة بطريقة ما، كما أصبح محتجز داخل المتحف الأسود مثلما كان من قبل بكل إدراكه وذكرياته ووعيه، باستثناء حالته الجسديَّة التي تكون في حالة شبحيَّة.

يراقب هذا الشخص زُوَّار المتحف الذين يأتون لرؤيته ويصبح بذلك بمثابة المشاهِد والمشَاهَد معا. لكن الموضوع لا ينتهي هنا، لأنَّ الغرض من وجوده في هذا المكان هو محاكاة أو تنفيذ حكم الإعدام الكهربائي عليه من قبل أي زائر مع قدرته على الشعور بالألم. هنا يشارك الزوار ليس في الاستمتاع برؤيته فحسب بل في جعله يتألَّم.

الدب الأبيض White Bear

إنَّها حلقة أخرى صادمة تفجِّر معضلة أخلاقيَّة من الموسم الثاني. وتبدأ حكايتها باستيقاظِ امرأةٍ مجهولة في غرفة بأحد المنازل في مكان لا تعرفه وهي فاقدة لذاكرتها.
تقابل هذه المرأة أشخاصا بمجرد خروجها من المنزل حيث يحدّقون بها في الطريق ويراقبونها من نوافذ منازلهم ويقومون بتصويرها، إنَّها في هذا الوضع مجرد صورة متحرِّكة لا تُرَى فحسب بل تُهَاجَم كذلك من قبل أشخاص مقنَّعين.
تركض أحد الفتيات نحو المرأة وتنقذها من حادثة كادت تودي بحياتها، وتستمر مطاردة المرأة، وهروبها مع الفتاة لتكتشف الحقيقة، فكلّ هذه المطاردة وهؤلاء الأشخاص بما في ذلك الفتاة التي تساعدها هم في الواقع مجرد ممثِّلين باستثناء الشخصية الأساسية في الحلقة التي تدعى فيكتوريا. وهنا يقع المشاهد في نفس صدمة هذه الأخيرة فحتى هو قد ضُحِك عليه. وما وقع مجرد تمثيليَّة هي في الحقيقة عقاب لهذه الشخصية بعد أن تم اتهامها بمشاركتها في قتل طفلة صغيرة.

تعود المرأة إلى نفس المكان الذي رأيناها فيه لأوَّلِ مرة مع صرخات وشتائم الناس الذين يلاحقونها بعيونهم الكارهة، ليعاد كل ما حدث من قبل، وضعها في ذلك المكان، افقادها لذاكرتها، ملاحقتها وهروبها. وقد حدث كل ما ذُكِر داخل متنزه الدب الأبيض للعدالة الذي يصبح وجهة الأفراد والعائلات، ليشتركوا في هذه التمثيليَّة المؤلمة، ويحظوا بوقت ممتع واستثنائي وكأنَّهم داخل سيرك قديم يستغِّل الأفراد المشوَّهين والمصابين بأمراض خلقيَّة.
تثير القصة تساؤلات ومشكلات أخلاقيَّة حول إذا ما كان معاقبة الأشخاص بهذه الطريقة حتى لو كانوا مجرمين، يعدّ أمرا أخلاقيًا أو مناسبًا على الأقل أم العكس من ذلك.
ناهيك عن أنَّ هذه المرأة التي وُصِفت بالشريرة والساحرة، قد ادعَّت في محاكمتها أنَّ خطيبها أجبرها على تصوير حادثة قتله للطفلة، غير أنّ ذلك لم يقنع لجنة المحلفين والقضاة الذين صاروا يصفونها بأوصاف لا تختلف عن ما وصفها بها غيرهم.

إنَّه تكرار شيطاني مريع يعود بنا إلى فريدريك نيتشه الذي كتب يومًا: “ماذا لو أنَّ شيطانا تسلَّل ذات يوم أو ذات ليلة إلى عزلتك الأكثر وحدة وقال لك: “هذه الحياة، كما تعيشها اليوم وكما عشتها دوما، سيكون عليك أن تعيشها ثانية وعددا لا يحصى من المرات، ولن يكون هناك من جديد فيها، بل إنَّ كل ألم وكلّ لذة، وكلّ خاطرة وزفرة، وكل صغيرة وكبيرة من حياتك هذه ستعود إليك حتما، والكلّ وفقا لنفس النسق، ولنفس نظام التتابع والتتالي -وهذا العنكبوت أيضا، وضوء القمر المتسلل بين الأشجار، وكذلك هذه اللحظة وأنا أيضا. إنَّ الساعة الرملية للوجود تظلّ تُقلَب ويعاد قلبها بصفة دائمة- وأنت معها، حبّة صغيرة داخل الرمل!” ألن تقع على الأرض مصّرا بأسنانك وأنت تلعن ذلك الشيطان الذي قد خاطبك هكذا؟ أم تُراك عرفت في حياتك لحظة هائلة، كان يمكنك أن تجيبه: “أنت إله، وأنا لم أسمع في حياتي كلها كلاما أكثر قدسية من هذا؟”(13)

إنَّ إعادة أيام القاتلة المدعوّة فيكتوريا هي مجرَّد آلام فقط من دون متعٍ، وربما ستكون إجابتها لشيطان نيتشه واضحةً حين نراها في النهاية تطلب منهم قتلها بدل تعذيبها كلّ يوم، إنَّه نفس الطلب الذي تطلبه كل ليلة كما يقول لها جلادها!.

إنَّ تنفيذ مثل ذلك العقاب سيبدو للبعض ممارسة وحشيَّة وساديَّة لا علاقة لها بالعدالة، كما سيظهر هؤلاء المتجسّسين والممثِّلين بمنظر قاسٍ لا يختلف عن أيّ مجرم؟ وتقوم هذه الحلقة من العمل بإظهار بعض الثغرات في تنفيذ العدالة، كما يشبه موضوعها مسألةَ حكم الإعدام فإلى حدِّ اليوم نكتشف بقاء الجدل حوله.

ومن هنا يصبح عقاب المجرمين وسيلة الفرد للاستمتاع برؤيته في مشهد يذكِّرنا ببعض النساء الفرنسيات اللواتي كنَّ يُطلَق عليهن لقب “الحائكات”، حيث تعوَّدن على الجلوس قرب المقصلة في وقت تنفيذ حكم الإعدام على المتهمين، يتابعن التنفيذ و يحِكْن الثياب أيضا. غير أنَّ من يراقبون فيكتوريا هنا هم أكثر رعبا وبرودا من أولئك النسوة الفرنسيات، لأنّهم أعضاء داخل مسرحيَّة ومنظومة عقابٍ مشكوك في نواياها، وبذلك فهم أقرب إلى المجرمين.

إنَّ الكثير من القوانين في العالم تقوم برسم دائرة شائكة حول الأشخاص الذين يكونون شهودًا أو حضورًا في جريمةٍ أو جنحة ما من دون التبليغ  عنها، وهم بهذا الفعل مشاركين فيها. فأحيانا النظر إلى أشياء ما ومواصلة فعل ذلك من دون الاعتراض، حتى لو اعتبِر عقابا لأحدهم ينفذّه العامة لا السلطات؛ هي تهمة قد تقودك إلى السجن، وهذا ما لم يحدث في هذه الحلقة.

خاتمة

لا ينجح المسلسل فحسب بجعل شخصياته تصاب بحالةٍ من الاستمتاع أو الإدمان على رؤية الآخرين والتجسُّس عليهم فقط، بل في جعل المشاهدين يصابون بالنشوة من قصص كل حلقة وأفعال الشخصيات، مع حياتهم التي تحتوي على أكثر الأشياء حميميّة وإثارة للفضول، كانوا رجالًا أو نساءً، كبارًا وصغارًا ومجتمعًا وحكومة.


إنَّها متعة استطاع فيها هذا العمل ايصالها إلينا مع كثير من التوتُّر والإثارة والرعب، من دون نسيان كيف يقوم بجعلنا نعيد التفكير في مختلف القضايا الاجتماعيَّة والأخلاقيَّة التي تناولها أو نفكّر في مواضيع جديدة لم يسبق لها أن اعترضتنا.

إنَّ قراءة الروايات الخياليَّة أو المرعبة، أو قراءة كتبَ فلسفة الأخلاق العمليَّة، ليس كمشاهدة أفلام تجسِّدها صوتًا وصورةً. الحديث مع غيرنا على الهاتف أو رؤية بعضنا البعض على شاشات التلفاز ليس كرؤيتهم وجهًا لوجه. إنَّ النظر إلى العالم يجعلنا في صدام معه أيضا ويقوم بتشكيله مجددا، ولأجل هذا، علينا أن نعي كيفية استخدامنا لبصرنا وأفكارنا حين ننظر إلى الآخر أو نشاهد ما يُعرَض لنا.

———————————————–

  • هوامش:
  • 1 – Laura Mulvey. Visual Pleasure And Narrative Cinema,1973, First Published in 1975.
  • يمكن قراءة المقال من هنا: https://cutt.ly/MXdMRbD
  • 2 – John Berger, Sven Blomberg, Chris Fox, Michael Dibb and Richard Hollis. Ways of Seeing. British Brodcasting Corporation and Penguin Books, 1972, London p.47.
  • 3 – Ibid p.8.
  • 4 – Loc.cit
  • 5 – Ibid p.9.
  • 6 – Ibid p.139.
  • 7 – https://cutt.ly/8Xd1F6P
  • 8 – كمال الرياحي، واحد صفر للقتيل، المتوسط، الطبعة الأولى 2018، ص203.
  • 9 – بيتر سينغر، أخلاقيات عالمنا الواقعي، ترجمة أحمد رضا، الرافدين، الطبعة الأولى 2020، ص395.
  • 10 – روزاليندا مايلز، تاريخ العالم كما روته النساء، ترجمة د.رشا صادق، المدى، الطبعة الأولى 2021، ص22.
  • 11 – فريدريك نيتشه، العلم المرح، ترجمة علي مصباح، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2017، ص220.
  • يمكن الرجوع إلى العلم المرح باللغة الألمانية أيضا, اللغة الأم للمؤلف: Die fröhliche Wissenschaft, (La gaya Scienza).
  • 12 – إنجيل متى [14:15].
  • 13 – العلم المرح، مصدر سابق، ص 266.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: سارة عمري

تدقيق لغوي: رنا داود

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا