السينما وعلاقتها بالأخلاق

يعتبر الأدب والفنّ أحد المصادر الأساسية والمهمة للتفكير ومحاولة الإجابة عن سؤال الإنسان والحياة والأخلاق والأديان.
بعد بدء انتشار الأفلام وظهور السينما كشكل جديد من أشكال الحياة في القرن التاسع عشر، أطلق المنَظّر السينمائي الإيطالي “ريتشيوتو كانودو” اسم “الفن السابع” عليها، وقد رأى أنّ السينما تضمّ الفنون الستة التي صنّفها اليونانيون القدماء، وهي: العمارة والموسيقى والرسم والنحت والشعر والرقص.

وقد تباينت الآراء حول علاقة السينما بالتشريعات الدينية والعادات والتقاليد؛ فيرى البعض أنّ مسألة الخروج على تلك التشريعات تبقى مرفوضة مهما كانت المبررات، ولكن هناك آراء أخرى (النخبة) ترفض وجود القيود على الإبداع في السينما، كما ويعتقد البعض أنّ للسينما والأفلام دورًا في الارتقاء الأخلاقي، في حين يرى البعض الآخر أنّ السينما سببٌ في الانهيار الأخلاقي.

يرى الفريق الأول أنّ السينما يقع على عاتقها تقويم الأخلاق، ونحن ندرك بشكل واعٍ أنّ الأفلام لديها القوة المذهلة في تحريك العواطف والمشاعر، وبالتالي قد ينظر الكثير منّا للأفلام على أنها وسيلة للترفيه، أو لإثارة أفكار مثيرة للجدل، أو ربما نعتقد أنّ الهدف منها جني الأموال، وهذا ناتج عن الطريقة التي نصنّف بها الأفلام: وفقًا لقصتها، أو وفقًا للعواطف العامة التي تنتجها، أو وفقًا للجمهور المستهدف منها.

إنّ السينما وما تعرضه من أفلام ليست وسيلة ترفيه وحسب، وليست عاملًا لقضاء الوقت وتضييعه، وإنّما هي وسيلة تنتمي جنبًا إلى جنب مع الدين والفلسفة والفكر في الحياة، وهي وسيلة تجعل الفرد أكثر حكمةً ونضجًا وتساعده على النمو والمعرفة. وقد اقترح أرسطو قديمًا أنّ مشاهدة العروض المسرحية التراجيدية تلعب دورًا هامًا في خلق هزات داخلية عند الفرد، وإرشاده للمعرفة الذاتية؛ فرؤية البطل وهو يخطئ ويعاني نتائج خطئه يمكن لها أن تحفّز الخوف والرثاء عند المشاهدين، وتتركهم مع أسئلةٍ حقيقية عن النفس والضمير، والأخلاق والدين، والمجتمع وغيرها الكثير.

هذا وتساعدنا الأفلام في تشكيل دليل داخلي ومرجع سلس يمكننا اللجوء إليه لفهم أنفسنا، كما تعطينا نماذجَ يُحتذى بها في الأخلاق والاجتماعيات والأديان والإنسانية والجوانب الشخصية البحتة، من خلال طرح الأمثلة التي تنشّط العقل والضمير، وتخلق له مهمة التفكير والبحث عن الإجابات لفهمٍ أشمل وأعمق للذات والنفس والآخرين بل والحياة.

إعلان

لقد تعاملت السينما العربية عبر عقود من الزمن مع الكثير من قضايا المجتمع بشكل مُوفّق كونها راعت بعض الأمور التي تعتبر جزءًا من شخصية الإنسان العربي وتركيبته الثقافية، إلا أنّ ذلك لا يجعلنا نتجاهل بعض التجاوزات عبر الكثير من الأفلام سواء المصرية أو المغربية أو السورية أو غيرها.

ومن أمثلة تلك الأفلام، من المغرب فيلم وشمة للمخرج المبدع حميد بناني، وفيلم عرائس من قصب لمخرجه جيلالي فرحاتي، وفيلم الملائكة لا تُحلّق لمخرجته ياسمين قصاري. ومن مصر نجد فيلم بنات إبليس، وفيلم العار للمبدع علي عبد الخالق؛ والذي حاول في الأول إثارة قضية فلسفية مثيرة، هي قضية الشرف والمجتمع الذي لا يرحم أبدًا، واستطاع بذكاءٍ شديد أنْ يضعنا أمام سؤال خطير، وهو: الشرف والعرض أم المال؟ وأيهما أهمّ؟ الحقيقة التي تهدم أم الفضيلة التي تبني؟ وبذكاء شديد قال لنا: إنّ مشكلتنا العربية الحضارية هي في عدم وجود الربّان الحكيم القادر على توجيه الدفة إلى برّ الأمان. وفي فيلمه الثاني طرح السؤال الفلسفي والأخلاقي الخطير: هل يغفر المجتمع لرجل مستقيم ومتدين أن يتاجر في الممنوعات من أجل الثروة؟ وهل يتحول المال إلى سلاح يقتل الأخ من أجله أخاه؟ وهل نهاية العالم أن تتقاسم المتع الدنيوية، أم تواجهها بإرادة صلبة وقوية؟ ثم لماذا ينتقل العار وراثةً من الآباء إلى الأبناء؟!..

وفي اتجاه مغاير، فقد اعتَبر الأمين العام لملتقى الهوليودية والصهيونية غلام رضا منتظمي، أنّ سينما هوليود تعمل على تدمير القيم والمُثل الأخلاقية، والدعوة إلى التعايش والتعامل حتى مع الشيطان. وأشار إلى أنّ الاتجاهات والطروحات السينمائية في العالم الإسلامي هي من نفس الاتجاه الهوليودي، وأكّد على أنّ السينما الإيرانية تعمل اليوم على إنهاء سيطرة الفكر الهوليودي على السينما العالمية، وتقديم نموذج للعالم يدعو إلى القيم والأخلاق والمُثل.

ومن هنا يكبر دور السينما وتكبر معه أدوار صنّاع هذا الفن، لتصبح عاملًا هامًا فاق في تأثيره كل الوسائل المعروفة من ثقافات وكتابات ولقاءات وحوارات وندوات، لتكون المسئول الأول عن كل المظاهر التي طرأت على سلوكنا وأحاسيسنا، ومن ذلك ظاهرة العنف، والفوضى الجنسية، والفحش اللفظي، وغيرها الكثير..

وقد ذهب مفتي السعودية الشيخ “عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ” إلى أنّ الحفلات الغنائية والسينما مُفسدة للأخلاق، ومدمّرة للقيم، ومدعاة لاختلاط الجنسين، مشيرًا إلى أنّ السينما تعرض أفلامًا ماجنة وخليعة وفاسدة وإلحادية. ولكنه أضاف: إنّ الترفيه بالقنوات التلفزيونية والوسائل الثقافية والعلمية، فلا بأس بها وهو طيب.

وفي الوقت الحاضر، أصبح هناك عزوف كبير عن دور السينما في أكثر دول العالم؛ بل إن كثيرًا منها تمّ إغلاقها، حالها كحال الصحف الورقية، فمع تطوّر التقنيات الحديثة يمكن لأيّ شخص عمل سينما مُصغّرة في منزله بعيدًا عن ضوضاء الصالات وزحمة المقاعد، ومشاهدتها في الوقت المناسب لظروف أيّ شخص.

إنّ السينما أخطر الأدوات تأثيرًا؛ لأنّها فنٌّ سمعي بصري، يمثل حقائق ووقائع كأنّها تحدث بالفعل بشكل جذاب ومثير للإعجاب، يهدف إلى السيطرة على المشاهد. ولذلك فإنّ تأثيرها لا يقتصر على الأفكار النظرية؛ وإنّما ينطبع بصورة أشدّ على سلوكنا ومظاهرنا، ذلك أنّ السينما تحاكي المشاهد عن طريق صورة شبه حقيقية وليس مجرد شيء عابر، ويتفاعل معها المشاهد تفاعلًا مباشرًا. وكان لا بد من فهم أبعادها وآثارها الإيجابية والسلبية، فالسينما القادرة على خلق المعادلة الصعبة بين الفن والأخلاق، والتي تدافع عن قيم الحق والخير والجمال، هي السينما التي يمكن أن تتحول إلى تجمع فكري ثابت يسعى إلى النهوض بالمجتمع، أما الأفلام التي تروّج للفُحش المُضاد للقيم العامة، كعرض الجسد الرخيص، والكلام والحركات الساقطة، فذلك يقود حتمًا إلى الإفلاس الفكري، ويؤدي إلى العجز والشلل الإنساني الذي يعوق المجتمع عن الوعي بحالته البائسة.

وإذا كانت الأفلام هامة بالنسبة لنا كونها توفر لنا تجاربًا ذات مغزى وقصصًا تثري حياتنا، وتزوّدنا بالمعرفة والحكمة، فهذا يقودنا إلى الحديث عن نقد السينما وما تفرزه من أعمال.

ذهب البعض إلى أنّ النقد الحقيقي للعمل الفني يُنقد لقيمته الفنية وفقًا لمعايير بعيدة جدًا عن نطاق الأخلاق والتقاليد.. إلخ؛ فلو قُيّمت الأفلام بمنظور اجتماعي ـ أخلاقي لأصبحت أفلام مثل (برتقالة آلية)، والفيلم البرازيلي (مدينة الله)، ورائعة الأب الروحي مارلون براندو (التانغو الأخير في باريس)، أعمالًا سيئة لاحتوائها على مشاهد ولغة قوية. وبذلك، فقد ذهب أنصار هذا الاتجاه إلى أنّ الفن لا دين له، ولا قيم أو حدود تحدّ من جنونه وقيمته الأدبية والفنية.

ومن جهتنا، نرى، أنّ الفن يجب أن يُقاس بمعيار القيمة الفنية المرتبطة بالأخلاق. وفي التحليل السينمائي يجب أن نستعمل النقد السينمائي بمعناه الوظيفي، الذي يعني رؤية الحقيقة عارية، والسعي الحقيقي لتقييم الفيلم بعيدًا عن أيّة تحيّزات. فالتناسب العكسي بين المنجز الفني والمنجز الأخلاقي وما يتفرّع عنهما، يتسبب -غالبًا- إما في ارتقاء الفن الجمالي والثقافي أو تهميشه. والأخلاق في السينما إنّما تعني، في المقام الأول، احترام القوانين التي تحكم النمو الإنساني الأمثل، وأي فنّ يُقربنا من هذا الهدف هو فنّ عقلاني، وأي سينما لا تُقدّر القيم الإنسانية هي سينما مريضة تتميز بالعقم وبخلوّها من المعنى والهدف. ومسئولية المخرج هي القدرة على خلق التوازن بين الفن والأخلاق، التي تخلق من الفن إبداعًا جميلًا.

كما نرى ضرورة أن يتشبّع المخرج بمعارف علم الاجتماع وعلم النفس والأنثربولوجيا والفلسفة؛ حتى يستطيع نقل إرثه الثقافي إلى المجال السينمائي، وتتحول السينما إلى أداة قادرة على خلق المعادلة الصعبة بين الفن والأخلاق، وتدافع عن قيم الحق والخير والجمال، وتتحول إلى تجمع فكري ثابت يسعى إلى النهوض بالمجتمع.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: محمد عرفات حجازي

اترك تعليقا