الغزالي وتشويه سمعة الفلسفة
إنّ الصراع الحقيقي بين الوحي والعقل (الدين والفلسفة) كان دائرًا بين تيارين فلسفيين، تيار تبنّى الفكر الفلسفي اليوناني وانبهر به أيّما انبهار، كالكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد؛ وتيار آخر تبنّى النظام المعرفي الإسلامي، واعتبر الوحي مصدر المعرفة الدينية، وما العقل إلا خادم له، وتزعّم هذا التيار الغزالي، ومن ورائه الفقهاء والمُحدثون.
ذكر الغزالي (1058ـ 1111م) في مقدمة كتابه “تهافت الفلاسفة” الأسباب التي دفعته إلى الرد على الفلاسفة، ومن أبرزها: شعوره بالخطر المُحدق الذي يتهدّد الدين الإسلامي، ومصدر هذا الخطر إنّما هو الفلسفة اليونانية الإلهية، التي تُمثّل التمرّد على الدين. وبمعنى آخر، فقد انتقد الغزالي فلاسفة اليونان ومن سار على نهجهم من فلاسفة المسلمين كونهم جعلوا من العقل المُجرّد وسيلة لإدراك العلم الإلهي، إلى جانب مذهبهم في العلم الإلهي.
إنّ القضايا الفلسفية التي نقدها الغزالي، وأبطل بموجبها الفلسفة ـ عديدة، أبرزها: نظرية قِدم العالم؛ والقول بأن الله يعلم الكليّات وحدها دون الجزئيات؛ وإنكار بعث الأجساد (وهذه المسائل هي التي كفّر بها الغزالي الفلاسفة)؛ واعتمادهم على العقل كمصدر وحيد للمعرفة؛ ونفي السببية.
ويرمي الغزالي من وراء كتابه “تهافت الفلاسفة” إلى هدم الفلسفة الإلهية باعتبارها مضمونًا عقديًّا وثنيًّا، وزعزعة ثقة الناس في تلك الفلسفة، إلى جانب التشكيك في قدرة العقل واستحالة الوثوق به في المسائل الإلهية.
لقد قام الغزالي بعمليتَي هدم وبناء من خلال كتابيه “تهافت الفلاسفة” و”إحياء علوم الدين”. وحاول تحديد “العلم اليقيني” والوقوف على حقيقته؛ ليحكم من خلاله على المعارف التي يحصل عليها: هل هي صحيحة أم خاطئة؟ ووجد أنّ ذلك متوقّف على أدوات الإدراك المعرفي (الحواس والعقل)، وعندئذ قرّر اختبارها ليتأكد من صلاحيتها لكسب العلم اليقيني.
واتّبع الغزالي في ذلك منهج التشكيك في الحواس، وأظهر إمكانية خطئها، وضرب على ذلك عدة أمثلة، أفضت به إلى بطلان الثقة في المحسوسات. كما شكّك في قدرة العقل على المعرفة، وتأكد له استحالة الوثوق به في المسائل الإلهية. ثم عاد ليعترف بدور العقل كمصدر من مصادر تحصيل العلم، واعتباره ضرورة من ضرورات الدين، ولكنه ليس مُستقلًّا عنه.. ونتيجة لهذا الشك الذي أسّسه الغزالي، خلص إلى أنّ أساس المعرفة هو الإلهام، واعتمد عليه بدلًا من الحواس والعقل.
وبرغم محاولة ابن رشد (1126ـ 1198م) الهادفة لردّ الاعتبار إلى الفلسفة ـ وذلك من خلال ردّه على الغزالي بكتابه “تهافت التهافت”، إلا أنّ محاولته باءت بالفشل؛ لأنّ التيار المناهض للفلسفة وقتذاك، والمتمثّل في الفقهاء والمتصوّفة ورجال السياسة، كان أكثر قوة، فقد أصدر ابن الصلاح (ت 1245م) فتوى في تحريم الاشتغال بالفلسفة، ثم كانت حملة ابن تيمية (ت1327م) على الفلاسفة والمتكلّمين من خلال كتابَيه “موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول” و”نقد المنطق”.
لقد تمخّضت معاداة الغزالي للفلسفة عن العديد من النتائج السلبية، من بينها: إهمال العلوم، وصرف الناس عن الاشتغال بها (إذ حذّر الغزالي من الاشتغال بالرياضيات؛ لأنّها فخّ يوقع الناس في حبّ الفلسفة والاشتغال بها). أيضًا جمود الفكر الإسلامي وتحجّره، من خلال تغليب النقل على العقل، على الصعيدين المعرفي والسياسي، ما أدى إلى انحسار العقل وتهميشه. كذلك، فشل محاولات التوفيق بين الدين والفلسفة عبر العقود المتلاحقة؛ بسبب مهاجمة كثير من الفقهاء لكلّ بحث عقليّ لا يتقيّد في نتائجه بالعقيدة المُقرّرة مُسبقًا. ويتبع هذا، اضطهاد السلطة والعامة لكلّ مفكّر حرّ. أضف إلى ما سبق، أنّ مُحاربة الغزالي للفلسفة، قد فتحت الباب على مصراعيه للمتصوفة، الأمر الذي أدى إلى دخول العقلية العربية في سبات طويل. ناهيك عن امتداد أثر الغزالي، وابن خلدون وغيرهما على العديد من الدول العربية اليوم ـ كالمملكة السعودية؛ والتي منعت تدريس الفلسفة في مؤسساتها التعليمية حتى شهور قليلة ماضية.