من التديُّن الكلاسيكي نحو التديُّن المُعاصر

مقدمة

غالبًا ما يقتصر تعريف التديُّن أنه متلازم مع الديانات والعقائد التاريخية، والتي تنقسم بدورها إلى الأساطير القديمة مثل الميثولوجيات التاريخية، والديانات التوحيدية مثل الإسلام والمسيحية، والديانات الشرقية مثل الهندوسية والشيفية، وما تسمى ديانات اليد اليُسرى مثل كنيسة الشيطان وعبادة الجن ومعبد سيت، وفي المقابل هناك اعتقادات للادينية مثل الإلحاد، والربوبية، واللاأدرية، (1) ولكنَّ التديُّن المُعاصر هو المرحلة المُتقدمة عن مزيج الديانات والاعتقادات القديمة والجزئيّة والاعتقادات النقيضة لها.

يتطرَّق المؤرِّخ يوفال نوح هراري، في كتابه “العاقل؛ موجز تاريخ النوع البشري” في قسم “قانون الدين” إلى توضيح المعايير الأساسية القائمة عليها الأديان، والتي بدورها تشكل اللبنة الأولية التي يتكوّن منها مفهوم التديُّن، فالديانات بجوهرها يجب أن تكون عالميةً وتبشيريةً لتحافظ على وجودها أكثرَ مدَّةٍ مُمكنة، فالاتساع في غسل العقول “حسب تعبيره” هو ما يضمن لأي أيديولوجية البقاء وتكوين تكاتف اجتماعي غير هشّ (2). ولهذا نرى الديانات التبشيرية مثل الإسلام والمسيحية، امتدت في بقاع الأرض وحافظت على وجودها لمدَّة طويلة، كما أنها وضعت الأولويّة الدنيويّة أمام المُقدَّس، وهذا ما حوّلها لحركات سياسية حاكمة للمُجتمع، وهذا ما وصفه المُفكر جورج طرابيشي في كتابه “هرطقات ج1” ببذور العلمانية في الإسلام والمسيحية (4)، ومع الأخذ بعين الاعتبار الحراك اللاديني الحاصل في القرن العشرين والقرن الواحد والعشرين، يردد البعض من اللادينيين مفهوم “انتهاء الدين والتديُّن” ممّا يؤطِّر الدين والتديُّن داخل مفهوم الأديان السماوية والتبشيرية فقط، وهذا ما يفتح الباب لأسئلة أخرى وهي:

“هل يُمكن أن يتكوّن المُجتمع من دون الدين؟ وما هو التديُّن المُعاصر؟”

يقول آينشتاين:

“جميع الديانات والفنون والعلوم، هي فروع لنفس الشجرة. فكل هذه الطموحات موجهة نحو إحياء حياة الإنسان، ورفعها من مجال الوجود المادي وقيادة الفرد نحو الحرية.”(3)

يبدأ الأمر مع الحاجة للاعتقاد وتكوّن وهم مُشترك، الذي هو بجوهره حالة ذهنية طبيعية تعمل على صياغة الأفكار نحو الحياة والوجود والعالم، ومن ثمَّ تُختبر المعتقدات لتُشكِّل الأيديولوجية والفلسفة، ولكلٍّ مِنَّا اعتقاداته الخاصة التي يُشارك بها الآخرين أو يحتفظ بها لنفسه، وهذا ما اعتمدت عليه البشرية، بشكل أساسي، في بناء مفهوم الدين والتديُّن، وهُنا يُعرَّف على أنه خلاصة التنقيح والتعليل للمُعتقدات المشتركة لدى الشعوب، فيعمل على صياغة الأنظمة الاجتماعية لتلك المُعتقدات والأيديولوجيات والفلسفات وتكوين الصورة العامة للمُجتمع (3)، ونستطيع اتخاذ مثال على ذلك؛ حُكم الشريعة الإسلامية واختلاط الخليفة بالوالي والسياسي والحاكم بعد توسُّع الحضارة الإسلامية في السنوات الهجرية الأولى وما بعدها، حتى ازدهار المفاهيم العلمانية في الشرق الأوسط.

“الدين هو مجموعة من النظم الثقافية وأنظمة المعتقدات والنظرات العالمية التي تربط الإنسانية بالروحانية، وفي بعض الأحيان بالقيم الأخلاقية. ويوجد لدى العديد من الديانات روايات ورموز وتقاليد وتاريخ مقدس تهدف إلى إعطاء معنى للحياة أو لشرح أصل الحياة أو الكون، ويميلون إلى استنباط الأخلاق وأسلوب الحياة المفضل من أفكارهم حول الكون والطبيعة البشرية “.(3)

إعلان

بعد هذا التعريف يصحُّ الإسقاط على أحد أمثلة التديُّن المُعاصر، وهو الليبرالية، ولكن يكمن الاختلاف مع النوع القديم من التديُّن في رفض أيّ تدخل خارجي في حريَّة الفرد، سواء كان خارجي من قوّة كونية ما. أو تدخُّل داخلي من سلطة شرعية ما، ومن خلال هذا التديُّن المُعاصر صيغت معاهدة حقوق الإنسان، التي بدورها تحفظ هذه الرؤية عن قيمة حرية الفرد ودعم الوصية الأولى وهي الإنسانية بكافة أشكالها (2)، حيث إن الليبرالية حديثًا تنقسم إلى كل أنواع التنظيم في المجتمع مثلما فعل الدين من قبل، وهذا ما يعتبره يوفال هراري أيضًا بالتديُّن الجديد، وشُرِح عنه بالتفصيل في محاضرته بعنوان “Techno-Religions and Silicon )Prophets”(4” حيث عبَّر أن ديانة العصر، أو الأيديولوجية العامة، هي الليبرالية، ويتجلَّى هذا التنظيم من خلال عدَّة محاور، مثل الليبرالية الأخلاقية (6): أعلى سلطة في تحديد ماهية الأخلاق، ما هو الأخلاقيّ وما هو اللاأخلاقيّ، هي سلطة الفرد ورؤيته للأخلاق، مع التحفظ على أن ما يحدّ من السلطة المطلقة لليبرالية الأخلاقية هي أهمية مشاعر الآخرين.

الليبرالية الاقتصادية: الزبون دائمًا على حق، لا سلطة أعلى من سلطة الفرد، فهو من يحدد المنتج الجيّد والمنتج السيء دون تدخل أيّ سلطة في الأنشطة الاقتصادية، بل ترك السوق يضبط نفسه بنفسه.

الليبرالية الفنية: الناظر هو السلطة الأعلى لتحديد ماهية العمل إن كان فنًا أو لا، أيّ يكمن الجمال للفن في عين الناظر الفرد وله السلطة المطلقة لاعتباره فنًا.

ومن نظرة أكثر توسُّعًا في مفهوم التديُّن، وكون تعريف التديُّن يجب أن يكون مُطلق بطبيعته، فهذا ينطبق بالمثل على الاشتراكية والرأسمالية والأنظمة الاقتصادية، حيث أن الاشتراكية التي تتبع المساواة الاقتصادية كقيمة عُليا يُبنى عليها مُجتمع متساوي الحقوق، وتصيغ من خلال فِكرها الاشتراكي، رؤية تنظيمية كاملة نحو عالم أفضل -حسب رؤيتهم- من عالم لا يُعزي القيمة الأولى إلى المساواة، أو من مجتمع يحكمهُ الرأسماليُّون، ولكن وألم تصبح الرأسمالية أيضًا عقيدة ممتدة الاعتبارات إلى أكثر من الفكر الاقتصادي، بل نحو القِيَم الاجتماعية بالكامل والتحكُّم بها، وبالتالي فإن الاشتراكية تُحاربها بوصفها عقيدة فكرية كاملة تتفجَّر في المجتمع؟

هذا ما يوضِّح روح التديُّن لكلٍّ منهم، فكل رؤية تنظيمية للمجتمع وقيمة الفرد تعمل على صياغة وصية عُليا، هي تديُّن مُعاصر.

حتى النازية، التي يبدو من الصادم أن تعتبر على أنها نوع من التديُّن، ولكن مع تنقيح الوهم المُتعلِّق بالعرق الآري، وبكل ما تحملهُ من عنصرية يرفضها المتدينون القدماء مثل المسيحيون أو المتديّنون بالاشتراكية والإنسانيُّون، قدّ تصحُّ أن تُعرَّف كدين، وهذا تبعًا لكونها نهج عقائدي قائم على مجموعة أفكار تصيغ علاقة الإنسان، من العرق الآري، بالكون وذاته ووجوده وإقامة الوصايا العُليا، وينظرون أيضًا أنَّ بناء المُجتمع -اعتمادًا على الوهم المشترك بينهم- إعلاء العرق الآري على غيره واستلامه الحُكم للدولة، وهذا بهدف منع الأعراق الأُخرى “التي بدونيَّة منهم حسبَ اعتقادهم” من تشويه العالم، والمجتمع، واستخدام النازية هُنا كمثال مُباشر، هو إشارة أن التديُّن ليس جيِّدًا في جوهره بل هو انعكاس لجوهر الأفكار التي يحملها اتجاه قيمة الفرد ورؤية المجتمع، وإن حَملت هذه القِيَم خاصيتيّ التقديس للذات والتشويه للآخر فينتُج عنها أشكال التطرُّف الأولى في المجتمع البشري.

ولكن ماذا عن الإنسانيّين، المرحلة الأرقى في التديُّن من حيث تقبُّل الآخر والصورة المثالية عن العالم، يتَّبِعون نهجًا فكريًا يشرح علاقة الإنسان مع الكون ومع ذاته، ويسعون لتحقيق رؤية مُستقبلية إنسانية بجوهرها للمُجتمع والعالم.

إذًا الدين، وإن لم يكن سماويًّا؛ هو أشكال مُختلفة من التنظيم الاجتماعي والعقائدي المبني على العمومية والاشتراك باعتبارات اجتماعية للتنظيم بغية تحقيق رؤيتهم عن عالمٍ أفضل.

“الدِين أو الدِيانة من دان خضع وذل ودان بكذا فهي ديانة وهو دين، وتديّن به فهو متديّن، إذا أطلق يراد به: ما يتديّن به البشر، ويدين به من اعتقاد وسلوك؛ بمعنى آخر، هو طاعة المرء والتزامه لما يعتنقه من فكر ومبادئ.”

المراجع:
"1" Summary of Religions and Beliefs
"2"العاقل تاريخ مختصر للنوع البشري، للمؤلف يوفال نوح هراري، ترجمة حسين العبري وصالح بن علي الفلاحي، نشر عبر دار منجول عام 2018 
"belief-and-https://www.coe.int/en/web/compass/religion "3
"https://youtu.be/g6BK5Q_Dblo "4
"5"هرطقات؛ عن الديموقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية، جورج طرابيشي، نُشر عبر دار الساقي عام 2006

 

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: مجد حرب

تدقيق لغوي: أبرار وهدان

اترك تعليقا