دين بلا معتقدات

يرفُض معظم اليابانين المعتقدات الدينية ، بينما يحتضنون أشكالًا متعدّدة من الممارسات الطقوسية. أهم إذًا متدينون أم دهريون؟

كان الدين موضوعًا جذّابًا منذ فجر الدراسات الانثروبولوچية والاجتماعية والنفسية. وحاول الأعلام المؤسّسون (كسيغموند فرويد) و(إميل دوركهايم) و(ماكس فيبر) تحليله وتصنيفه واستكشاف وظائفه النفسية والاجتماعية. وقبل ظهور العلوم الإنسانية الحديثة بزمن بعيد، بحث في أصله فلاسفةٌ (كإكسينوفان) و(لوكريتيوس)و(ديفيد هيوم) و(لودفيغ فويرباخ.)

لم يتضاءل الاهتمام بالدين منذ تأسيس العلوم الاجتماعية الحديثة أبدًا، إلّا أن ما تضاءل حقًّا كان الثقة بالنظريات الكبرى حوله. فقلّةٌ هم اليوم من سيصادقون على إصرار فرويد أنّ أصول الدين متواشجةٌ مع الرغبات الجنسية الأوديبيّة تجاه الأمّهات. وقد يظلّ ربط فيبر لأخلاق العمل البروتستانتية بأصول الرأسمالية مؤثّرًا، إلّا أن مقارناته الأوسع بين دين وثقافة العالمين الشرقي والغربي يصحّ القول فيها اليوم، أنّها غير دقيقةٍ تاريخيًا وأوروبّية خالصة.

يُنظر اليوم إلى هكذا ادّعاءاتٍ شاملة حول الدين على نحو شكوكيّ، وبدلًا من ذلك نسبية محدّدة أضحت القاعدة. ونَهجٌ تجريبيٌ جديد لدراسة الدين أُطلق عليه (علم الإدراك الديني) عمل في الآونة الأخيرة على إرباك أشباح العظمة النظرية من خلال تقديم تفسيراتٍ للمعتقدات والممارسات الدينية، تستند على نظريات التطوّر، وتتضمّن بالتالي عملياتٍ معرفية يُعتقد شيوعها، إن لم يكن عالميّتها بين أفراد البشر.

يقدّم هذا النهج (علم الإدراك الديني) كأسلافه الفيكتوريين، إمكانية اكتشاف القواسم العالمية المشتركة بين الخصوصيات العديدة للمفاهيم والمعتقدات والممارسات الدينية، المنتشرة على امتداد التاريخ والثقافة. لكن، وعلى خلاف الجهود السابقة، يتحاشى الباحثون الحديثون كثيرًا أيّ محاولةٍ لتقديم تفسيرٍ أحادي وحيد للدين، معتبرين فعل ذلك لا معنى له، تمامًا كالبحث عن تفسيرٍ وحيد للفنّ أو العلم. فهذه الفئات شديدة الثراء والاتّساع على هكذا تحليلات أحادية. ويتوجّب علينا بدلًا من ذلك، كما يقترح عالم الانثروبولوچيا المعرفي في جامعة أكسفورد (هارفي وايتهاوس)، بدأ الدراسة العلمية للدين من “تجزئة” مفهوم الدين، وتفكيك هذه الفئة إلى مظاهرٍ معيّنة، من الممكن استكشافها وتفسيرها فرديًا، كالإيمان بآلهةٍ خيّرة، أو المشاركة في الطقوس الجماعية.

إعلان

ووفقًا لنقّاد علم الإدراك الديني، فهذا النهج يكرّر أخطاء المنظّرين الكبار القدامى، إلّا أنّه يرتدي متأنّقًا حلّةً نظرية عصرية. وتكمن المشكلة في اقتراف الباحثين خطأ إعادة تبنّي عالمية مفهوم الدين، وهو نهجٌ متمركز عرقيًا يفشل في فهم التنوّع الثقافي للحياة الواقعية. وربّما من المفارقات أن الباحثين في مجال الدراسات الدينية، الذين يعربون الآن عن أكثر الصور تشكيكًا في جدوى مصطلح “الدين”، يناقشون ارتباط الدين بالغرب ارتباطًا لا انفصام فيه، وهو بالتالي محمّلٌ بافتراضات ترتبط بالمؤسّسات الدينية الإبراهيمية المهيمنة في الغرب. فعلى سبيل المثال، يناقش الباحث في الدراسات الدينية من جامعة (ألاباما راسل ماكوتشيون) في كتابه “إنتاج الدين” (1997) بأن العلماء الذين يعاملون الدين كمظهر طبيعي عام، أنتجوا تحليلات “لاتاريخية ولاسياسية ومهووسة”.

هناك الكثير من الوجاهة في مثل هذه الانتقادات. ومن الأهمّية بمكان تسليط الضوء على ميل باحثي أمريكا الشمالية والأوروبيين إلى ربط الدين بإقرار المعتقدات ظاهريًا، والمشاركة المنتظمة في الشعائر الدينية، والمؤسّسات الهرمية، والانتماء الحصري. وكل هذه مظاهرٌ من التقاليد الإبراهيمية، وليس منها ما هو ضروريٌ وأساسيٌ للمعتقدات والممارسات الدينية في جميع أنحاء العالم.

لبيان القيود المفروضة على المفاهيم الغربية المهيمنة للدين، يتوجّب علينا دراسة الدين في سياقٍ غير غربي. على سبيل المثال، في اليابان، حيث قضيت السنوات الأربع الماضية بطولها، أُجرى بحثًا حول الطقوس والروابط الجماعية. فالغالبية العظمى من اليابانيين يقولون أن ليس لديهم معتقدات دينية قوية، وقلّة منهم من يقيم الشعائر الدينية بانتظام. ومهما يكن، فالعديد من الناس يشاركون سعداء في الأحداث والمهرجانات التي ينظّمها أتباع التقاليد الدينية المتعدّدة. في الواقع، وبالنسبة للكثير من اليابانيين، فإن قرار الزواج في مراسم شنتوية أو مسيحية لا يكون وفقًا للمعتقدات الدينية، بل وفقًا لرغبة العروس في ارتداء ثوب الكيمونو التقليدي أو ثوب الزفاف الأبيض.

لذا، فهل اليابان مجرّد مجتمعٍ غير ديني، كما تدّعي العديد من الدراسات الاستقصائية وبعض الباحثين؟ أم هل نحن بدلا من ذلك بحاجةٍ إلى توسيع افتراضاتنا حول ما يمثّل دينًا في الواقع؟

مع تساقط الثلوج في بلدة كيكوناي الصغيرة شمال اليابان، تجمّع حشدٌ في فناء مقام الشنتو، وصبّوا تركيزهم على مدخل مبنى المقام، المعشعش على نحوٍ يسلب الألباب قبالة جانب الجبل. وبعد برهة، ظهر أربعة شبّانٍ متحجّري الوجوه، منتصبين وأذرعهم مطوية على صدورهم. وكتحدٍّ للبرد، كانوا عراة إلّا من ملابس ناصعة البياض تلفّ خاصرتهم، وقبّعات قماش رقيقة، مطبقين بأسنانهم على قطعة قماش ملفوفة، كي يمنعوا أسنانهم من الاصطكاك. وبعد توقّف مؤقّت، نزل الرجال الدرجات الحجرية للمقام، وتسلّقوا منصّةً مرتفعةً من القشّ. وفي وجه الحشد، أخذ كل واحد منهم دوره في الركوع، بينما يسكب أرفع أفراد مجموعتهم مكانةً الماء المتجمّد على ظهورهم المكشوفة.

تتكرّر العملية ثلاث مرّات، وفي النوبة الأخيرة، يتدفّق الماء ببطءٍ فيعمّ رؤوسهم. وبعد اكتمال السلسلة، يصعد الرجال بهدوءٍ إلى مبنى المقام، والبخار يتصاعد من ظهورهم الحمراء. لكنّها ليست النهاية بالنسبة لهم، إذ سيعودون خلال ساعتين فقط؛ ليعيدوا المحنة بأكملها مرّةً أخرى، وسيتكرّر هذا النمط كل بضع ساعاتٍ لمدّة يومين. كما يتعهّد كل مؤدٍّ بتكرار أداء اليومين لأربع سنواتٍ متتالية، وهو عهد لم يخرقه أحد في تاريخ هذا الحدث الذي استمرّ لـ150 عامًا.

هذا العمل المُجهد المتطلّب قدرة احتمالٍ عالية، جزءٌ من طقوس تطهير المياه عند الشنتو، معروف باسم “الميسوجي”، وهو فعاليةٌ مركزية من مهرجان محلّي شعبي في كيكوناي. وهذا الحدث بالذات غير عاديٍّ لشدّة قساوة أداء الطقوس المتضمّنة فيه، لكنه في معظم الجوانب الأخرى نموذجي تمامًا، نظرًا لأنواع الاحتفالات المهرجانية (المسمّاة ماتسوري) المقامة في جميع أنحاء اليابان. وبإمكان احتفالات “الماتسوري” الشهيرة في المدن الكبيرة، جذب الملايين من المتفرّجين. وفي القرى النائية فهذه المهرجانات المحلّية من بين الأحداث المجتمعية الأهمّ في كلّ عام.

جانب من طقوس تطهير المياه, المعروف باسم “الميسوجي”.

هل “الماتسوري” مجرّد فعاليات اجتماعية وثقافية، أم هي دينية تحديدًا؟ يستند مثل هذا التفسير على إقامة حاجزٍ وهميٍ بين الثقافة والدين، ويتجاهل كذلك طائفةً من الحقائق المزعجة. إذ تأدّى معظم طقوس “الماتسوري” في المقامات أو المعابد، ويُنّظمها كهنةٌ وأتباعٌ متطوّعون، وتتضمّن رمزيةً دينية وصلاة تعبّدية، وتعتمد على مفاهيم لاهوتية أو ميتافيزيقية كالتطهير. وهناك أيضاً طقوس علمانية صريحة في اليابان، كمهرجانات يوساكوي سوران الراقصة، حيث تتنافس فرق مؤدّيةً رقصات مصممّة، وهذا ما يجعل تديّن مهرجانات ميسوجي “ماتسوري” ومهرجانات مشابهة أبرز. فبأيّ معنى إذًا، تكون اليابان لادينية، إذا كانت هكذا طقوس دينية مكثّفة جزءًا من نسيجها الثقافي؟

التقليدان الدينيان المهيمنان في اليابان، هما الشنتوية؛ وهي ديانةٌ أصلية تركّز على آلهة أو أرواح مسمّاة “كامي”. والبوذية؛ التي وصلت إلى اليابان من كوريا والصين قبل حوالي 1500 سنة. ويرتبط كلا التقليدين بـ”الماتسوري” بما أن معظم المهرجانات مرتبطةٌ بمقاماتٍ أو معابد بعينها، ومؤرّخٌ لها لتتزامن مع عطل الأعياد الدينية، مثل “أوبون” (مهرجان بوذي لتكريم الأسلاف) و “شوكاتسو” (احتفالات رأس السنة). ومع ذلك، فمن الصحيح أيضًا أن البعض من حاضري “الماتسوري” على دراية بالتفاصيل العقائدية، بما في ذلك الآلهة بعينها المكرّس لها الحدث. ومع شعبية المهرجانات الدينية وانتشار المقامات الشنتوية والمعابد البوذية في جميع أنحاء اليابان، فهل من الدقّة اعتبار اليابان دولةً علمانية لا تهتمّ بالدين إلّا قليلًا؟

احتفالات الماتسوري

يبدو أن الدراسات الاستقصائية الواسعة النطاق والشاملة لعدّة ثقافات تدعم هذا الفرض. فعلى سبيل المثال، في موجة مسح القيم العالمية 2010-2014، التي أُُجريت في 61 دولة، ذكر 87.1% من المشاركين اليابانيين أنهم “ليسوا منتسبين” إلى كنيسة أو مؤسّسة دينية، و20.9% وحسب، عرّفوا عن أنفسهم كـ”متديّنين”، بصرف النظر عن مدى حضورهم للشعائر الدينية. ووَضعت تلك النتائج اليابان في المرتبة الثانية بين أقلّ الدول تديّنًا في العالم، بعد الصين وهونغ كونغ.

لم تكن تلك نتيجة فردية. إذ تكرّرت نتائج مماثلة في استطلاعاتٍ أخرى. فاستطلاع WinGallup’s 2014 End of Year على سبيل المثال، وجد أن 13% فقط من المشاركين اليابانيين أشاروا إلى كونهم متديّنين، وفي استطلاع على الانترنت أجري العام الماضي، فمن بين أكثر من 1000 مشارك ياباني، 10% وحسب عرّفوا عن أنفسهم كمتديّنين. وهكذا نتائج توفّر دعمًا شديدًا لادّعاءات أن اليابان بلد غير متديّن. إلّا أن الواقع، على أيّ حال، أكثر تعقيدًا.

وعلى النقيض من الأرقام المذكورة للتوّ، تشير أحدث الإحصائيات الرسمية من تقرير الكتاب السنوي الإحصائي للحكومة اليابانية، إلى أن هناك وفرة في “المؤسّسات الدينية” المسجّلة في اليابان، تتضمّن 81،097 مقام شنتو ومعابد بوذية يبلغ عددها 95،922. وتشير الأرقام أيضا إلى أن حوالي 72% من السكّان اليابانيين ينتمون إلى الشنتوية، في حين أن 68% من أتباع البوذية. وبالرغم أن مجموع هذين الرقمين أكبر من 100%، فهو ليس خطأً حسابيًا. إذ تُظهر الأرقام أن الانتماء الديني ليس شأنًا ينفي غيره من الانتماءات ويبعدها في اليابان. إذ يُعدّ كثير من الناس مرّتين: مرّة كمنتمين للشننوية وأخرى كمنتمين للبوذية. إن الشعب الياباني كثير التوفيق، إذ يدمج ويولّف عناصر مختلفة من كل تقليد معًا.

أمضى عالم الاجتماع والأستاذ الفخري في جامعة مانشستر إيان ريد عقودًا يبحث في المسألة الدينية داخل اليابان. ولاحظ أن التعايش الطويل الأمد بين الشنتو والبوذية أدّى إلى توزيع تكميلي للأعمال بين التقليدين الدينين المهيمنين. حيث تُقام احتفالات الشنتو على نطاق واسع عند الولادة والاحتفالات الموسمية. وتهتمّ البوذية، في المقام الأول، بالموت وطقوس الأسلاف. بينما ترتبط المسيحية، التي يلتزم بها 1-2% فقط من السكّان، بحفلات الزفاف. ونتيجة لذلك، من العادي جدًّا لشخص ياباني أن يُأخذ إلى مقام شنتو ليتلقّى البركة وهو طفل صغير، ويتزوّج في مراسم مسيحية، وفي نهاية المطاف يشيّع في جنازة بوذية. إن التعددية الدينية ليست مقبولة وحسب في اليابان بل هي سمة أساسية للبيئة الدينية اليابانية.

كيف بإمكاننا إذًا التوفيق بين الحالتين المتناقضتين ظاهريًا، أي الحالة الصريحة لليابان كمجتمع غير متديّن، وفي الوقت نفسه دعمها الظاهر للمؤسّسات الدينية الوفيرة، إذ يحتفل الآلاف بالماتسوري كلّ عام؟ وكيف يمكننا فهم الأشخاص الذين يعرّفون عن أنفسهم كغير متديّنين وفي الآن نفسه يُحتسبون كأتباعٍ للبوذية والشينتوية؟

أولا، الإحصائيات أقلّ تناقضّا مما يظهر. فالبيانات الرسمية تعتمد على تقديرات الانتماء التي توفّرها مختلف المقامات والمعابد، وبالتالي لا ترتبط بالمعتقدات الشخصية أو تقييمات الهوية الذاتية الفردية (من المرجّح تضخيمها). ضف إلى ذلك، بما أن التقاليد الدينية السائدة في اليابان لا تتطلّب حضورًا منتظمًا للشعائر، فالانتماء يميل إلى الارتباط بأنظمة التسجيل الإلزامية القديمة أو خدمات الجنائز. وبالنسبة للكثير من اليابانيين أيضًا، ففكرة إقرار الانتماء الشخصي للدين، ذات دلالات سلبية ترتبط بالتبشير المزعج والطوائف المتعصّبة، حيث لا زال صدى هجوم أعضاء من طائفة أوم شنريكيو بغاز السارين في نهاية الألفية الثانية عام 1995 على مترو أنفاق طوكيو يتردّد إلى اليوم في المخيال العام لليابانيين.

لذا لا ينبغي علينا تولية الكثير من الاهتمام للعضوية الدينية كمؤشّرٍ على وجود الدين. فعلى سبيل المثال، وبالرغم من أن المسح العالمي للقيم وجد أن 11.8% وحسب من المشاركين اليابانيين عرّفوا عن أنفسهم كمنتمين لدين، فإن 40.8% من نفس المشاركين ذكروا أنهم يؤمنون بالله (أو الآلهة). وبالمثل، في دراسة أجريتها العام الماضي، فبالرغم من أن 10٪ وحسب عرّفوا عن أنفسهم كمتدينين، وافق 43.5٪ منهم على وجود “عالم روحي يتجاوز العالم المادي”، ووافق 30.2٪ على أن “الكائنات الروحية (كالملائكة والشياطين) موجودة” وأيّد 36.5% أن “هناك نوع من الحياة بعد الموت”. تشير هذه النتائج إلى أن الانتماء الديني في اليابان قضية منفصلة عن امتلاك معتقدات ما وراء طبيعية متنوّعة، وأن المعتقدات الشخصية لا تؤخذ بعين الاعتبار في الإحصائيات الرسمية حول الانتماء الديني.

وسيظلّ من الخطأ، تفسير هذه النتائج، لإظهار أن المعتقدات الدينية الشخصية القوية، أساسيةٌ للممارسات الدينية في اليابان. فعلى النقيض من الولايات المتحدة، حيث أفاد 48.8% أن الله مهمّ جدًّا لحياتهم، فإن 6.1% وحسب اختاروا هذا الخيار في اليابان. أرى أن المعتقدات القوية ليست سمةً أساسية للدين في اليابان. ومن الأفضل فهمها بدلًا من ذلك على أنها سمة من سمات الديانات التوحيدية بالذات، التي يصدف أن تكون هي المهيمنة في الغرب. وفي العديد من المجتمعات، لا يُنظر إلى المعتقدات الما وراء طبيعة على أنها تتطلب إقرارًا، بل تُعامل بدلًا من ذلك كحقائق بدهية، أو كما هو الحال في اليابان، إذ تحظى باهتمام أقل بكثير مقارنةً بالممارسة. إن إقرار المعتقدات القوية ليس جزءًا ضروريًا للدين.

التقيت أنا وفريقي البحثي بعد مهرجان “ميسوجي” في كيكوناي بالشبّان الأربعة في العشاء الاحتفالي بعد المهرجان. وسألناهم عمّا يفكرون فيه بشأن تجربتهم. فلم يؤطّروا مشاركتهم بمفاهيم الاعتقاد أو الولاء الديني، بل تحدّثوا عن احترامهم للتقاليد والصلات الاجتماعية والالتزامات والفوائد المحتملة للمجتمع. وبالمثل، عندما سألتهم عن الدور المفترض للطقوس، كطقس العبور المحلّي (يجب أن يكون المؤدّين غير متزوجين)، لم يعتبر أي منهم الأمر ذا أهمية شديدة. وقال أحدهم مازحًا أن مشاركته ليس من المرجح أن تجذب النساء في طوكيو، حيث انتقل للعمل هناك.

وظهر التفاوت بين الممارسات الدينية اليابانية الشائعة والآراء التي تركز على المعتقدات الدينية مرّةً أخرى، عندما لاحظ أستاذ بارز في علم النفس من الولايات المتحدة، كان يزور مختبري في اليابان مؤقتًا، التعايش المحلّي وتقارب مذابح البوذية والشنتو. فمعظم المنازل العائلية التقليدية في اليابان، تضم كلًّا من المذبح البوذي لتكريم الأقارب المتوفّين (butsudan) ومذبح الشنتو، الذي يُدعى جرف الآلهة (kami-dana)، لجلب البركات. هذه الممارسة التعددية تمضي، غالبًا، دون تعليق عند اليابانيين، لكنها قد تكون مدهشة لأولئك المنتمين إلى خلفيات دينية أشدّ حصرية. وعندما علم البروفيسور الأمريكي بهذه الممارسة، التفت إلى زميل ياباني وسأله عما إذا كان لديه مذبحان في منزله. نعم في منزل عائلتي، أجاب. وسأل البروفيسور في دهشة أي النظامين، إذا كان يؤمن بأي منهما، هو الذي يؤمن به حقّا. كان زميلي الياباني في حيرة. “لا أحد منهما، أجاب، ثم أردف:”…أو ربّما كلاهما!” وأوضح أنّه لم يكن يفكّر أبدًا بجدية في ما إذا كان يؤمن بأي النظامين من قبل.

مقام شينتو صغير

للممارسة في البيئة الدينية اليابانية الغلبة على حساب الاعتقاد. ويتّفق هذا مع الرؤى بشأن اليابانيين، التي أعرب عنها إيان ريدر في كتابه “الديني ممارسًا” (1998)، (وجورج تانابي) الباحث البارز الآخر في الدين الياباني. والفكرة الأساسية للمؤلّفين هي أن الدين الياباني لا يرتبط في المقام الأول بإقرار معتقدات أو تقاليد بعينها، بُغية نيل الخلاص في الحياة الأخرى، لكن بدلاً من ذلك، يُوجَّه لأجل تحقيق فوائد عملية في الحياة الحالية(genze riyaku) من خلال تأدية مختلف الأنشطة، كزيارة المقامات والمعابد، وشراء التمائم والتعاويذ، وتلاوة الصلوات.

والممارسات التي يُدّعى أنها تهب الشفاء، وتمنح الحظ أو منافع أخرى، شائعةٌ في النظم الدينية كلّها تقريبًا، إلّا أن ريدر وتانابي يقولون أن هذه، في اليابان، ليست مجرّد بعض الجوانب الهامشية للدين، بل “تكمن في صميم الدين الياباني” وتمثّل “الدين المشترك” لليابان. كما أن هذه الشعائر الدنيوية مصادق عليها عقائديًا ومؤسساتيًا، إذ تَعمد المعابد والمقامات، إلى تسويق نفسها استنادًا إلى الفوائد الممكن توفيرها. فهناك مقامات ومعابد تلبي تقريبًا، أي رغبة يمكن تصوّرها، بما في ذلك زيادة فرص النجاح في المساعي الرومانسية، والأداء في الامتحانات، والأهداف الأكثر واقعية كعلاج البواسير أو المحافظة على صحة الأسنان جيّدة.

قد يولّد هذا توتّرًا أحيانًا، عندما تبدو الممارسات الدنيوية الشعبية متناقضةٌ مع رسائل التخلّي والزهد العقائدية الرسمية، لكن هذا الالتباس يحظى بقدر كبير من التسامح. فكّر، على سبيل المثال، في انتشار الزواج حاليًا بين كهنة الشنتو والبوذيين في اليابان. وهو ما يتناقض مع الصورة الغربية الشعبية للديانة اليابانية المُحمّلة بصور رهبان زاهدين يتأمّلون الجبال، بل حتى أن قاعات التأمّل كثيرًا ما تكون مفقودة من معظم المعابد والمقامات. وبدلاً من ذلك، ينشغل الكهنة بتقديم الخدمات الدينية المختلفة مقابل رسوم. وفي الواقع، ساهمت الطبيعة المربحة للجنازات البوذية في تكوين هالة عامة من الشكوك في أن الكثيرين من الكهنة البوذيين يركّزون كثيرًا على تراكم الثروة الشخصية.

بلا شك أن مزيج الاهتمامات الدنيوية مع الدين ليس حالة فريدة من نوعها في اليابان. ومع ذلك، فالمناقشة أعلاه تسلّط الضوء على العديد من التناقضات الواضحة بين الدين في اليابان والجمعيات النموذجية المستمدّة رؤاها من التقاليد التوحيدية الغربية. فهل تصف كلمة “الدين” ما نجده في اليابان؟ نعم، هي كذلك، ولكن مع أحد التعديلات المهمّة: فلكي يظلّ مفهوم الدين فئةً ذات معنى وفائدة، بين الثقافات المختلفة، فلا بدّ أن يجرّد من الافتراضات الإبراهيمية ويُفهم بإشارته إلى مجموعة من المفاهيم والتقاليد، التي لا تدور حول معتقدات ما فوق طبيعة وحسب، بل وممارسات أيضًا، كالطقوس والمهرجانات.

يختلف البعض مع وجهة النظر هذه، كالباحث في الدراسات الدينية جاسون أناندا جوزيفسون في كلية ويليامز في ماساتشوستس، الذي شرح لي عبر البريد الإلكتروني أن كلمة “دين” مصطلح متمركز أوروبيًا، يوظّف على الدوام، بغض النظر عن مدى التستّر، لوصف التشابهات المُلاحظة مع المسيحية الأوروبية. وشرح (جوزيفسون)، من هذا المنظور، في كتابه “اختراع الدين في اليابان” (2012)، الذي يتناول بالتفصيل مختلف المفاوضات والنضالات السياسية المشاركة في تقرير ما يشكل الدين في البلاد، خلال عهد ميجي(الحكومة المستنيرة). ويسلّط الضوء على أن الترجمة الحالية للدين في اللغة اليابانية-شينشوكيو- هي “مُستحدث ميجيّ” الذي”غيّر الأشياء المصنفة تحته والأشياء المستبعدة”، ويشرح أيضًا أن لديه مشكلة كبيرة مع مصطلح “الدين” إذ هو “متعدّد المعاني غير المتوافقة”.

عندما أثرت هذه النقاط في نقاش مع إيان ريدر، قال، بالرغم من إعجابه بعمل جوزيفسون، إلّا أنه لا يوافق كثيرًا على رؤيته بوجوب “التخلي عن مصطلحٍ في القرن الواحد والعشرين، طَوَّر مجموعة من المعاني في هذا السياق، بسبب اشتقاقه المُحتمل خلال منتصف القرن التاسع عشر”. كما أوضح أن في اليابان “هناك تقليد فكري وسياسي يوازن ثقل مفهوم “الدين” كفئة.. وهذا يشير بوضوح إلى أنه ليس بنيةً غربية مفروضة تعسّفيًا.. على الطراز الاستعماري للقوى الكبرى. وقال ريدر أيضًا، في حين أن المصطلح قد يكون غامضًا، إلّا أنه لا يزال يعتقد أن المفهوم بمثابة “إطار للباحثين صالح عمليًا للمناقشة والتفسير، يمكّنهم من الانخراط والتعامل.. مع باحثين يدرسون قضايا مماثلة في أماكن أخرى”. وهو ما يتّفق مع تجربتي الشخصية كأنثروبولوجي معرفي، يعمل على مشاريع كبيرة، متعددة التخصّصات ومشتركة بين الثقافات، لم تكن ممكنة إلّا بفضل استخدامنا مصطلحات مشتركة تتضمّن تعريفًا دقيقًا للدين.

ليس الدين ضربًا من النشاط البشري، الممكن تمييزه بوضوح عن غيره من مجالات الحياة الإنسانية في كل زمان ومكان، ومن الصحيح أيضًا، أن ما يشار إليه بمصطلح “الدين” يختلف باختلاف الأزمنة والأماكن. ومع ذلك، فهذا لا يجعل المصطلح غير مترابط دلاليًا، كما لا يجب أن يتمسّك الاستعمال الحديث للمصطلح باستعمالات الماضي.

فشلت النظريات الكبرى القديمة، لأنها تصوّر الدين كظاهرة موحّدة تطوّرت خطيًا بمرور الزمن. والمناهج الحديثة ليست بحاجة إلى تأييد هكذا افتراضات. وبدلاً من ذلك، كما هو الحال مع تعريفات الدين المفضّلة حاليًا في مجال العلوم المعرفية الدينية، فمن الممكن إدراك أن الدين لا يشير إلى أي شيء منفردًا، بل إلى عائلة من المفاهيم المترابطة، التي تعمل على تحديد مجال بحثي مؤطّر وذي معنى. وليس لدينا أسباب أهمّ للتخلي عن المصطلح “دين” لما يحويه من غرائب، أكثر مما نحتاجه للتخلّي عن المصطلحات العامّة الأخرى، كالسياسة أو القرابة! في النهاية، يتوجّب علينا التراجع عن هذه التفاصيل الأكاديمية والعودة إلى استكشاف ما نجده في الحياة العملية، من خلال استخدام أدواتنا التحليلية غير الكاملة دائمًا.

إعلان

مصدر aeon مصدر الترجمة
اترك تعليقا