كيف تجعل منّا الحكايات بشرًا؟
نقاش كتاب الحيوان الحكاء لجوناثان جوتشل
ثَمة أرض مُمتدة بين تلافِيف الكتلة الهلامية بداخل جماجمنا، ننثُر عليها الكلمات والمعلومات الحسّية كل لحظة، ثم نجني الثمار على شكل حكايا كاملةِ المشاهد، نحكيها لأنفسنا أو للآخرين، أو قد تحكيها لنا عقولنا بطريقة مختلفة، نتبناها بكل ما أوتينا من قوّة كأنها الحقيقة المُطلقة غير القابلة للنقد.
كما أن أجسادنا البيولوجية تتكون من الخلايا الحيّة، فإن أنفسنا تتكوّن من القصص الحيّة أيضًا، تُجدِد القصص نفسها في كل يوم بالغذاء الذي تزوّده لها حواسنا، إذ تبقى عبارة (كان يا مكان في أحد الأزمان) مرافقة دائمة لنا مهما كبرنا في السن، نعيش بها، ننتمي لأنفسنا ونصنع ذواتنا من خلالها، نُشكّل هويتنا وانتماءاتنا، ونصنع حدودنا ونحدد ردود أفعالنا باستخدامها.
في هذا المقال، سأناقش السؤال الرئيسي الذي طرحه الكاتب جوناثان غوتشل في كتابه (الحيوان الحكاء)، وهو “كيف تجعل منّا الحكايات بشرًا؟”
-
حكاية الحكاية
يُحكى أن هناك قِصّة وحيدة تتمشّى في غابة بعيدة، مرّ بجانبها شابٌّ كسول يُضيّع يومه في المشي بين الأشجار، وعندما لمحها أصابه الفضول لمعرفة ما هي، فتبِعها حتّى تقرّب منها وحكت له كم هي بحاجة لتنتشر بين الناس، لتعود لطفولتها التي ستكون أبدية وتتقافز وتتوالد، جذبته كثيرًا وقرّر اصطحابها إلى قبيلة الكُسالى، وما إن انتشرت هناك حتّى أصبحوا يُعرفون بقبيلة الحكايا.
كان هناك على الجانب الآخر قبيلة العمل الذين يتميزون بكدحهم الجادّ في الصيّد والحراسة والتكاثر، وحينما بدأت الموارد بالاضمحلال، زاد عملهم حتّى يحافظوا على بقائهم، بينما كانت قبيلة الحكايا تجتمع يوميًا لتختلق الأكاذيب حول شخصيّات مزيّفة وأحداث لم تقع، ورغم كسلهم وتفاهتهم إلّا أنّهم استطاعوا التغلّب على قبيلة العمل، والبقاء لفترة أطول وأطول، واستمرّت القصّة للآن، ومن المستحيل اجتثاثها مرّة أخرى من عقول وقلوب البشر.
كما يُقال؛ اسأل عشرة مؤرخين عن التاريخ، وستحصل على إحدى عشر إجابة مختلفة، وسأضيف أنك إذا ستسائِل الناس الآخرين فستحصل على إجابات بعددهم زائد واحد، _الواحد هذا هو أنت_ وستكون إجابات مبدعة منسوجة من الخيال، إذ يَصنع كلٌّ منّا أسطورته الخاصّة حول قصة النُشوء وقصص التاريخ الكبير منذ بداية الكون وحتى نهايته.
عادة ما يتم قصّ حكاية كل شيء باستخدام شيء معيّن تتركّز عليه الحكاية، كأن نرى الكون من منظور الفيزياء فقط، أو أن نقرأ التاريخ بتتبع سِير العلماء ونظريّاتهم. وقد عمِد الكاتب سرد حكاية الحكاية، كيف تناوَلتها أيادي الباحثين من أكثر من زاوية، وكيف تكشّفت بعض أسرارها التي زادت الأسئلة المطلوب الإجابة عنها تعقيدًا.
في القصّة التي اختلقتُها بداية الفقرة، والتي تتشابه مع التجربة الفكرية التي قرر الكاتب إيرادها؛ ليُثبِت لنا أن الحكاية هي ما تميّزنا نحن (البشر الحاليين) عن غيرنا من الحيوانات، حتّى وإن كان هناك _كما في التجربة الفكرية أعلاه_ من يختلفون عنّا فقط بهذه الجزئية.
وهذا الأسلوب عمومًا يتمّ اتّباعة ببعض الكتب من خلال التركيز على جزئية معيّنة، كاكتشاف النار مثلًا _كما في كتاب (في قدحة النار)_؛ على أنها نقطة التحوّل التي جعلت من هذا الحيوان العادي سيّدًا للكوكب. فهل بالفعل للحكايات تأثيرٌعلى تطوّرنا وسيادتنا للكوكب؟.
-
صانع الحكايات المجنون
في كل يوم، تسرد دولوريوس لِنفسها قصتها بشكل مبرمج؛ فهي فتاة ريفية تحب الطبيعة والحيوانات، تذهب إلى البحر وتحمل لوحتها التي ترسمها للمشهد.
ولكن دولوريوس ليست إنسانة، بل هي روبوت قريب من البشر (مضيفة كما يطلقون عليها) موجود بمكان ترفيهي، مكان يتردد إليه البشر ليمارسوا جنونهم وغرائزهم في صنع المغامرات وممارسة الجنس والعنف كيفما شاؤوا، فهي تكرر نفس اليوم كل يوم دون أن تدري أنها تفعل ذلك، وما يبقيها تعيش في وهم الحقيقة مصدّقة بأنها إنسانة لها هدف تسعى له بإرادتها؛ هو أنها تملك تفسيرًا مقنعًا، تملك حكاية هي بطلتها تستعرضها كل لحظة. الهدف من برمجة هذه الروبوتات على هذا الشكل هو أن تكون قريبة للبشر وحقيقية قدر الإمكان، بحيث يستمتع الزوّار بتجربة أكثر إثارة وكأنها حقيقية تمامًا.
لكن ماذا إذا كان هذا هو ما نفعله نحن على وجه التحديد، هذا ما تمليه علينا أدمغتنا كل لحظة ونصدّقها بذلك دون مساءلة! في هذا الجزء من المقال، سأستعرض أبرز النقاط حول الدماغ الحَكَّاء، في ما يخص التجربة الفردية لكلٍّ منا، بحيث سأخصص الجزء الذي يليه للتجربة الجمعية للحكاية.
الخلل الوظيفي، ودوره في إبراز أهمية الحكاية
قد تكشف لنا الحالات المرضِيّة بشكل جليّ، حقيقة الحقيقة _أو حقيقة الوهم المُختَلق_ عن أنفسنا، خاصة في الحالات التي يعاني فيها الناس من فقدان الذاكرة بأشكالها المختلفة، حيث أنه من خلال حكاية الذكريات والتاريخ الشخصي تُصنع الهويّة والأنا.
“لم يكن يتذكر أيّ شيء لأكثر من بضع ثوانٍ. وكان تائهًا باستمرار. كانت هُوّات عميقة من النسيان تُفتَح باستمرار أسفل منه، ولكنّه كان يُجسِّرها بخفّة وسرعة بأحاديث وتخيّلات سلِسَة من جميع الأنواع، والتي لم تكن بالنسبة له تخيّلات على الإطلاق، وإنما طريقته التي كان يرى أو يفسِّر بها العالَم فجأة… كان عليه فعلِيًّا أن يُؤلّف نفسه وعالمه كل لحظة”
كانت هذه هي الكلمات التي وصف بها الدكتور أوليفر ساكس شخصًا مصابًا ب”ذهان كورساكوف”، وهي حالة تحدث نتيجة نقص في مادة الثيامين، والذي يؤدي بذلك إلى خلل في المهاد، وفي بعض الخلايا في تحت المهاد. مما يجعل المصاب يفقد ذاكرته تمامًا، ويفقد القدرة على تخزين الذكريات.
ولكن رغم ذلك، يقوم دماغه بتأليف نفسه وعالمه كل لحظة حرفيًا، يقصّ الحكايا باستخدام التفاصيل التي يراها، يتذكّر مواقف لم تحدث، وشخصيات خاطئة تمامًا، بل ويغيّر من هويته بناء على الموقف، ثم ينسى كل شيء ويعاود التأليف والترقيع من جديد.
تُعرَف الأمور بأضدادها، فما زاد معرفتنا بآليات الدماغ هي تلك الحالات المرضيّة التي أكّدت أن أدمغتنا مصنعًا للأكاذيب الشخصية، ومكانًا لسرد وترقيع الحكايات لصنع هُوياتنا على الدوام، حتّى يساعدنا هذا على اتخاذ القرار فيما سنفعله بناء على الأهداف التي من الواجب تبنّيها، والجماعات التي ننتمي لها، وأشياء أخرى كثيرة مخزّنة في ذاكرتنا على شكل (أفضل تخمين). بعبارة أخرى، كلّنا نعيش حالة مشابهة للحالات الدماغية التي تحوي خلل وظيفي، ولكن بدرجات مختلفة، فقدان للذاكرة بشكل معقول يجعلنا نؤلف حكاياتنا وإن جانبها الصواب فتبقى حقيقية بالنسبة لنا نحن فقط .
دراما النائم
أتذكر العديد من الليالي التي أخطط فيها للهرب، حيث أنا محبوسة في مكان مجهول تمامًا ومرعب، وغالبًا يحيط به حرّاس غريبو الأطوار، وتلاحقني بعض الكيانات المجهولة لتعيق حركتي. صنع خطط الهروب والمحاولات الحثيثة للتغلّب على خصومي هي إحدى الأحلام المتكررة على مدار سنوات، إن عقلي اللاواعي لا يملّ من اختلاق أزمات صعبة ويتفنن في تفاصيلها. وبتعبير الكاتب:
“إن الأحلام، في الحقيقة، هي حكايا ليلِية، تركّز على البطل _الحالِم_ الذي يصارع لتحقيق رغباته”
عالم الأحلام، من أكبر الألغاز التي يواجهها العِلم الحالي، حاول الدكتور آلان هوبسون، وهو عالم نفس وخبير في الأحلام؛ حاول دراسة الأحلام على المستوى العصبي، وقد قام بتلخيص لخصائص أساسية للأحلام بعد عقود من دراستها (كما ذكر في كتاب مستقبل العقل لميشيو كاكو).
وهي أن العواطف تكون هيّاجة في الحلم مثل الخوف الشديد، وأن محتواها غير منطقي، كما أنها تعطينا أحاسيس زائفة تتولد داخليًّا، ونقبلها بدون نقد ومن ثم من الصعب تذكّرها.
ولكن، ما هي الفائدة من اختلاق كل هذا “القلق الدرامي في مسارح أذهاننا” كل ليلة؟ هل هي مجرّد عملية عشوائية ليُرتِِّب الدماغ ملفاته؟
الحديث عن الأحلام ربما بحاجة لمقال آخر لوحده، لذا سأحاول التركيز على جزئية الحلم كنوع من الحكايا التي يسردها الدماغ. بالرجوع للسؤال الأصلي لنسأل “كيف تجعل منّا الأحلام بشرًا؟”، تحدّث الكاتب غوتشل عن (نظرية الاصطناع العشوائي) التي تفسّر الأحلام على أنها مجرّد محاولة لترجمة الحالات الدماغية المختلفة للنائم، وبينما يرى آخرون أن الأحلام مجرّد ضجيج، فضلات للدماغ. ويرى آخرون أن لها فائدة تطورية مثلها مثل الأطراف والأجهزة الداخلية، وإلا لكان التطوّر نحّاها جانبًا، فهي بمثابة تدرّب على تكوين ردّات فعل في الحياة الحقيقية.
” هل يتغير الحُلم حتى يتكيَّف مع التغييرات التي تطرأ في حياة الحالِم؟ لماذا يتجشّم صانع الحلم الصغير القابع في عقولنا عناء التمويه؟”
هذا الاقتباس من رواية (عندما بكى نيتشة)، وهو تساؤل مهم جدًا في حال كانت الأحلام مفيدة، فلماذا هي ذات طابع رمزي غير مفهوم؟ وقد كان هناك رأي ملفت لعالم النفس هنري هنت، الذي اعتقد أن سمة الغرابة هي ما تجعلنا نتذكّر الأحلام الغريبة تحديدًا، أو الكوابيس المثيرة للقلق، بينما تمتلئ ليالي النائمين بالأحلام القريبة من الواقع.
إذن قد أميل أنا أيضًا للرأي القائل بأن الأحلام ما هي إلا مزيج من محاولات للتدرب على الحياة الحقيقية، ومن استعادة ذكريات وترجمة مخاوف، وكلّها بشكل متزامن مع الحالة الجسدية للنائم. يعني ببساطة الدماغ يصنع أفضل حكاية توفّق كل شيء في شيء واحد. ورغم أنني أشعر بنقص شديد في الحديث عن الأحلام ولكن سأكتفي به للانتقال لأحلام اليقظة والخيال.
دراما وفانتازيا اليقِظ
ما زلت أتحدّث عن (صانع الحكايات المجنون)، وهو الدماغ الذي يتفنن بجنونه لسرد الحكايات الكثيرة في كل مراحل اليوم، تحدّثت عن الذكريات كسمة مميّزة لهوية الإنسان، فإن لم توجد يختلقها كل لحظة، وتحدثت عن الأحلام، والآن سأتحدّث عن الحكايا الدائمة المختلقة تمامًا والتي نُحدّث بها أنفسنا خلال اليوم.
“ما لم يكن العقل مشغولًا بمهمّة تستحوذ على الذهن مثل كتابة فقرة، فسيضجر ويهرب إلى عالم الحلم”
إن الوضعية الطبيعية للعقل في حالة عدم انشغاله، هو سرده للحكايات المرقّعة بشكل طَوعي لأحداث حصلت بالماضي، وأخرى لم تحدث أبدًا، ومحاولات لإصلاح العديد من الأمور في الواقع، وهذا شيء لا يمكن إيقافه بسهولة، إذ يعلم أي شخص حاول التأمل مثلًا بأنه من الصعوبة إسكات المُسجِّل دائم الثرثرة في داخل عقولنا. تُعتَبر أحلام اليقظة الحالة الافتراضية للدماغ، بحيث يجب بذل مجهود من أجل إسكاتها، وهذا يحدث بشكل مستمر حتّى نستطيع التنبؤ بمستقبل ما قد نُقدِم على فعله، أو قد تكون محاولة لإخماد مشاعر سيئة قوية أو إشعال مشاعر جيّدة تُهدّئ من احتياجات الجسد التي لم يتم تحقيقها من خلال الواقع.
نكتسب مهارة نسج الحكايا الخيالية من الطفولة، وهذه الميّزة يُولد بها الإنسان دون الحاجة لتعليمه ذلك، خيال جَامح يجعل الطفل مستعدًّا للتصرّف على أنه حيوان يمرّ في أزمة أو وحش خفيّ يظهر ويختفي فجأة، وقد حدد الكاتب السّمة الأهم في خيال الأطفال:
“إنّ الأطفال يُصوِّرون في قصصهم عالمًا من التقلّب والفوضى والكوارث”.
إذن الإنسان من بداية مراحل طفولته الأولى يبدأ بسرد الحكايات، ويستمر حتّى يُدفَن، يستمرّ هنا حَرفيّة، فهو يستمرّ بكل ثانية من حياته سواء كان يقظًا أو نائمًا، دماغه سليم كليًا أم يعاني من حالة ذُهانية.
كل الأمور التي ذكرتها للآن، لا إرادية، شيء يفرضه عقلنا علينا. ولكن، ماذا عن الحكايات المنظّمة المقصودة أو الحكايات الجمعية؟
-
اختلاق القصص من أجل حياة أفضل
العديد من قطع لعبة التركيب puzzel، متراكمة على مكتبك، في محاولاتك لوضعها في مكانها يعمل دماغك تلقائيًا على إكمال القطع الناقصة، وإذا ما قمنا بتبديل القطع الموجودة أو إنقاصها أو زيادتها، فلن تجزع ولن تستسلم، وسيبقى دماغك في حالة من الجاهزية لإعادة رسم القطع الناقصة.
رسم قصة كاملة جمعية
كل مجتمع بشريّ على مرّ التاريخ، قام بتأليف أسطورة للنشوء وملحمة لنهاية الكون، “البشر يستحضرون الآلهة والجنّ لملء الفراغ التفسيري”. دائمًا ما كان الإنسان بحاجة للشعور المريح حول معرفته لكل شيء، لسدّ رُقَع الخَواء التفسيري والشعور بالسيطرة والإلمام، إنّ هذه الصفة جمعت أعداداً ضخمة من البشر تحت شعار واحد، وعادة ما يتم إضفاء القداسة على القصص الكبيرة بدون تشكيك فيها كي تحافظ على توازن الجماعة. وهذا يشمل التاريخ لأمّة معيّنة، بل يتوّجب من خلالها تقديس البشر كالذين كانوا قادة معارك فَيصَلية مثلًا.
ما أعنيه هنا أن أحد أهم أوجه الحكاية هي أنها تُحافظ على الجماعة البشريّة متلاحمة ومتآزرة، وهذا ما يحافظ على بقائها، ويعزز شعور انتماء الفرد للجماعة من خلال سرد حكاية واحدة مشتركة تحكي قصص دينية حول الخلق ونهاية الإنسان، وقصص تاريخية حول التحرير والاستقلال والانتصار على الأعداء.
“من المستحيل الحصول على وُجهة نظر شاملة عن الكون في شكله الراهن …. الإطار الزمني لحكايات التاريخ الكبير يتركّز بالضرورة علينا، حكايتنا عن تطوّر الكون تتركّز على الحاضر”
فريد سباير
التاريخ الكبير، هو مسار أكاديمي حديثٌ نسبيًا، يحاول كتابةَ تاريخ الكون منذ نشأته بالانفجار العظيم، وثم المرور بتاريخ الأرض الجيولوجي وثم تطوّر الكائنات الحيّة، وصولًا إلى تاريخ الجنس البشري. ظهر الاهتمام بهذا المجال بعدما بدأت الفيزياء الفلكية تتقدّم في وضع النظريات حول نشأة الكون ونهايته، ونقطة أخرى جديرة بالذكر هي تَراجُع المعتقد الديني كمرجع للحقائق العلمية.
ولكن رغم صرامة العلوم، إلا أن كل حكاياه ينطبق عليها ما ينطبق على غيرها، وهو “الترقِيع المُنظَّم“، فما نملكه ليس إلا أجزاءً مترامية الأطراف نقوم بوصلها بخطوط من صنع خيالنا لجعلها حكاية منطقيّة قويّة قدر الإمكان. وهذه النقطة تُحيلني إلى التساؤل حول مستقبل الجَماعات البشريّة، هل ستتراجع فكرة صراع الأمم والحضارات؟ هل ستسود الأرض حكاية واحدة معتمِدة على أدلة العلم التي يختبرها الجميع، وستُستبدَل كل حكايات الأديان والشعوب؟ وهل ما يحدُث من عَلمنة للدول سيتم قبوله على المستوى الواسع وتضمحلّ الهويات والقوميات وتنصهر في الإنسانية؟ أم أنه سيحدث ردة فعل عكسيّة! هذه الأسئلة بحاجة لمقال آخر لنقاشها، لأن الإجابات ستكون تكهنية.
كل العالم متآمرٌ علينا
بعدما ضرب “المُتنَوِّرون” ضربات متعددة على مرّ الأزمان، لتضليل النّاس وحكم العالم، سيقومون بصنع صور مُجسّمة لآلهة كل ديانة يُبرزونها في سماء البلاد، ويأمرون الناس بلسان إلههم أن يتّبعوا المُتنوِرين، وسيقومون برشّ مواد تجعل من الناس أغبياء ومغشيًّا عليهم إلّا قليلًا، كي يتم السيطرة عليهم بسهولة.
كانت هذه الملحمة النهائية في حكايات نظرية المُؤامرة، التي كنت أتابع مُنظّريها بشغف كبير، فتلك الحرب التي تخوضها “الماسونية” ضد المسلمين والعرب تحديدًا في كل أرجاء العالم، للتحّكم بهم وسحب نفوذهم ونشر الجهل والفقر بينهم. نعم، إنّها الطريقة المُثلى للتهرّب من مسؤولية مواجهة الأخطاء الشخصية، عن طريق صنع عدوّ متآمر يشتغل ليلًا نهارًا على أدقّ التفاصيل، بإمكانه حتّى “دسّ” الرسائل الخفيّة في داخل ألعاب الفيديو ورسوم الكرتون وعلب الجبنة.
انتشرت بشكل كبير بين القرّاء رواية (أنتيخريستوس) للكاتب أحمد خالد مصطفى، وهي مثال قويّ جدًّا للعقل صانع الحكايات من شذرات وتفاصيل قليلة، وإنشاء قصور ومدن من الحكايا المَحبُوكة جيّدًا والمقنعة أيضًا، إنّ قصص المؤامرات كما قال عنها غوتشل في الكتاب:
“انعكاس لحاجة العقل الحَكَّاء القهريّة إلى تجربة ذات مغزى. فنظريات المؤامرة تُقدّم إجابات مطلقة للغز عظيم عن الحالة الإنسانية، إنها تقدّم حلًا لمشكلة الشر بشكل أساسي. إنها مُواسِية دائمًا ببساطتها، إذ لا تحدث الأمور السيئة بسبب دوّامة معقّدة للغاية من الأحداث التاريخية والاجتماعية المجرّدة، بل تحدث لأن رجالًا أشرارًا يعيشون لمطاردة سعادتنا”
قصص المؤامرات لا يختلقها الأغبياء والسذّج، بل هي من نسج أناس جِدّيِّين حيال قراءة الواقع واستنتاج الصورة الكاملة (المفتعلة) حول الأحداث، وهي كما هو واضح من الاقتباس أعلاه، مريحة جدًا وتستحق عناء تركيبها وتداولها.
-
بديل تصحيح الواقع
الحديث عن الحكايات لا ينتهي، فكما نُردِدها بداخلنا دائمًا، وطالما تجلّت هذه القُدرة قديمًا في الأساطير والأديان وتناقل أخبار التاريخ، وعرفت وظيفة الحَكَوَاتِي وتطورت أنواع من السّرد، فنحن نقوم باختلاق الحكايات في الأدب المكتوب والسينما والمسلسلات والمسرحيات وحتى السيرة الذاتية، والتي عبّر عنها غوتشل ب:
“قصّة الحياة هي أسطورة شخصية تتعلق بمن نَكُون في أعماقنا، ومن أين نأتي وكيف وصلنا إلى هنا، وماذا يعني ذلك كله. وقصص حياتنا هي نحن، إنها هويّاتنا؛ وليس أدب السيرة، على أية حال، تقريرًا موضوعيًا، بل هو سرد مصُوغ بعناية زاخرة بالتغافل المنظّم والمعاني المحبوكة بمهارة”
إن اعتبار قصّ الحكايات كشيء ترفيهي لهو نظرة قاصرة للأمر، فالأدب بكل أنواعه يُعتبر “وسيلةً رخيصة للتدرّب على الحياة الواقِعية”، حيث يساعدنا التعاطف في داخلنا لاختبار مشاعر الحزن والكره والخوف، دون وجود خطر حقيقي، ويساعدنا على فهم الحياة من منظور أعمق وأشمل مما قد تتيحه لنا التجربة الشخصية، ورغم التطوّر الحاصل إلا أننا لا يمكن أن نعتقد أن الحكايات قد تنتهي ذات يوم، بل ستبقى وتتجلّى بأشكال جديدة.
في حلقة المسلسل الشهير Black Mirror التي حملت اسم باندرسناش، عِشنا تجربة مختلفة عن السينما التي نَتلقَّاها جاهزة، إذ شارك المُشاهِد في كتابة الحكاية عن طريق اختيار قرارات عن البطل، وكعادة الحكايات المتداولة فهي تحوي على عقدة بالضرورة وهذا هو الجانب الذي يجعلها مثيرة وتستحق الوقت لمشاهدتها. إلى جانب العقدة هنا، توفّر لنا فرصة الاضطلاع على مكنوناتنا الذاتية، فهل سيكون التركيز على إنجاح المشروع _وهو صنع لعبة تفاعلية لها خطوط كثيرة من الاحتمالات_، أم سيكون على عدم ارتكاب جُرم أخلاقي، هل سيتم البحث عن أسلوب للتواصل مع بطل القصّة أم سيتمَتع المشاهِد المتفاعِل بإبقاء البطل جاهلًا بما يحدث معه حين يُقدِم على اتخاذ قرار ما.
تم إدخال الحكايات إلى عالم الألعاب الافتراضية والواقع المُعزَّز والواقع الافتراضي، وأصبح الفرد يعيش بكل حواسه حكايات ينتحل بها شخصيات ليست هو، ولا يترتب عليها متاعب، فقد يكون البطل المغوار أو الشرير المنتقِم، قد يكون أي شيءٍ يريده.
“يوفّر لنا الواقع المُدعّم فرصة لتجديد العالم بالطريقة التي نراه بها في خيالنا. ومع انتقال البشر في المغاور والكهوف إلى ناطحات السحاب، تخلّصنا من العديد من الخرافات وأحلام اليقظة التي كانت مريحة رغم أنها خاطئة. لكن مع التكنولوجيا الصحيحة، يُمكننا التجوّل في عوالِم خيالية واستكشاف أوجه شخصيّاتنا”
وصنع حكايتنا بأنفسنا أيضًا، هذا الاقتباس من كتاب (في المستقبل القريب)، والذي يحوي تفاصيل بدائل الواقع. ورغم المخاطر التي تنتظرنا في المستقبل القريب حين يحدث تطوّر أكبر في تقنيّات الألعاب التفاعلية وغيرها، إلّا أن الجدير بالتوقّف عنده هو ديمومة حاجة الانسان لاختلاق الحكايات.
في الفيلم الآسيوي Maritime City تم طرح فكرة الألعاب التفاعلية بطريقة ذكيّة، يحوي الفيلم نقاشًا هامّا حول إنسانيتنا في إطار بديل الواقع. لعبة الواقع الافتراضي التي صممها كير، والتي تدور أحداثها بداخل نفس المدينة، بحيث يعيش اللاعب واقعًا بديلًا بمعنى الكلمة، تحمِل في طيّاتها كل مُسبّبات الإدمان الجنوني الذي أدّى لظهور سلوكيات غير متوقّعة من اللاعبين، وحين اكتشف المصمم عيوب اللعبة قرّر سحبها من السوق، لكن ما اكتشفه بالنهاية أن من كان يُحاربه في داخل اللعبة (بحيث نكتشف أن معظم الأحداث كانت بداخل الواقع الافتراضي) هو نفسه، نفسه التي أدمنت دور الشخص المُسيطِر على كلّ الناس في المدينة.
نحن سنحمِل كل متاعبنا وغرائزنا، خيرنا وشرّنا، سنحمله إلى حيث ذهبنا ولن نتمكّن من استلام شهادة التعامل مع الواقع، بل سيبقى البشر في حالة دينامية من التعلّم والتفاعل مع الحكايات، وسيتم دائمًا اختلاق الحكايات الجمعية.
“إن كنت شكّاكًا، فحاول أن تكون أكثر تساهلًا مع الأساطير، الوطنية والدينية، التي تساعد في ربط المجتمع معًا، أو على الأقل حاول أن تكون أقلّ احتفاءً بفنائها”
أوصي بقراءة الكتاب الذي وإن كانت معلوماته مُتداولة، إلاّ أن أسلوب الكاتب الأدبي، والحكايات التي رواها بنفسه، جديرة بأن تجعله تجربة مثيرة.
لم يكن هذا المقال تلخيصًا للكتاب بل هو لنقاش الأفكار البارزة، وهو ما جال بخاطري من “ترقيع مُنظَّم” لحكاية الحكاية التي رويتها أنا. لو لم تكن الحكاية مهمّة لبقاء الجنس البشري لنحّاها التطور جانبًا كطفرة غير مفيدة، حاول أن تُوقِف سيل الحكايات التي تفرض نفسها عليك وراقب إن كان بإمكانك ذلك.