Black Mirror: Bandersnatch اخلق مغامرتك الخاصة

شاهدت قبل قليل فيلم “Black Mirror: Bandersnatch” الّذي صدر اليوم، وهو أوّل فيلمٍ تفاعلي من إنتاج نيتفلكس؛ والمقصود ب”تفاعلي” هنا، أن المشاهد مشاركٌ في صنع حبكة الفيلم، والمميّز في Bandersnatch عن أي ما يمكن أن يكونه أيّ فيلمٍ تفاعلي آخر، أن ثيمته الأساسية تدور حول التحكّم والسيطرة والإرادة، أي ستجد نفسك أنت المشاهد/المحرّك جزءً أساسيًا من حبكة الفيلم أكثر من مما يجب أن تكونه كمحرّك للأحداث في مثل هكذا أفلام.

يفضّل مشاهدة الفيلم قبل القراءة.

تدور أحداث الفيلم في ثمانينات لندن حول ستيفان، وهو مبرمج ألعابٍ شابّ يطمح إلى تصميم لعبة فيديو تقوم على مبدأ “اختيار المغامرة الخاصة بك”، تدعى “Bandersnatch”، مستمدًّا فكرتها من رواية قرأها في طفولته.

تتراح الخيارات/القرارات الّتي يمكنك اختيارها في تأثيرها على مجرى الأحداث/حياة البطل، من بسيطة لا تحتاج الكثير من التفكير، كاختيارك نوع الأفطار والموسيقى الّتي تودّ سماعها، إلى محورية مغيّرة لمجريات حياته تصل إلى القفز/عدم القفز عن مبنى، أو قتل/عدم قتل الأب، هذه “القرارات” على طول مسار حياتك تؤثر في “الصورة الشاملة”.

تدور ثيمة فيلم Bandersnatch الأساسية حول مسألة/وهم الإرادة الحرّة. في إحدى لقطات الفيلم، تقول المعالجة النفسية لستيفان “أنت مجرّد دمية ولا تملك زمام الأمور”، “يظن المرء أنّه يملك إرادة حرّة، لكنه عالق في متاهة، في نظام، وكلّ ما بوسعه فعله هو الاستهلاك، وتلاحقه عفاريت موجودة في مخيلته على الأرجح. وحتى لو تمكن من الهرب عبر الخروج من أحد جوانب المتاهة، ماذا يحصل؟ يعود إليها من الجهة الأخرى. يحسبها الناس لعبة مرحة، ليست كذلك، بل هي عالم كابوسي لعين، والأسوأ أنه حقيقي ونحن نعيش فيه. كل هذا برمجة، وإن أصغيت فستسمع الأرقام، ثمّة خارطة انسيابية كونية تملي عليك أين تذهب أو لا تذهب” هكذا يقول كولن.

ما يقرّره فيلم Bandersnatch أنّ الإرادة الحرة وهم. الإرادة موجودة، ولكنّها ليست حرّة؛ فاختياراتنا- كما يقول يوفال هيراري- مرتبطة بشروط بيولوجية واجتماعية وشخصية وثقافية، لا يسعنا تقريرها بأنفسنا. تلعب أنت/المشاهد دور تلك الشروط في محاولة عكسٍ للأدوار بإملائك على ستيفان قراراته، مع الأخذ بالحسبان أنّك نفسك خاضع لشروط أخرى في إملاءاتك! وهو ما يحاول الفيلم الذهاب إليه، فليس ستيفان هو الواقع تحت السيطرة وحسب، بل أنت أيضًا؛ ففي مراحل معيّنة من الفيلم- ولا أستطيع هنا ذكر الزمن، لأنه لا مكان للزمن داخل الفيلم، فالزمن مركب كما يقول كولن- تقودك الأحداث، من خلال منحك خياراتٍ تقود دومًا إلى الحدث نفسه، بإشارةٍ إلى أنّ بعض الأحداث لا يمكن تجاوزها أو التراجع عنها، ففي بعض المراحل تجد نفسك مجبرًا على اختيار مسارٍ معيّن. ففي حين يغريك الفيلم أو نتفلكس أنّ لديك القدرة على الاختيار كانوا يسيطرون على السرد طوال الوقت.

لا يتوقّف الأمر على مجرّد خضوعك لشروط أعلى منك تملي عليك ما يجب فعله، بل إلى دفعك إلى محاولة تبرير تلك الأفعال، ففي لقطة من الفيلم، يقول ستيفان في حديثه مع المعالجة النفسية، وشكه في عدم امتلاكه حرية القرار: “أنا مجبرٌ على التبرير دومًا.” فنحن دومًا نحاول عقلنة وتبرير تلك الأفكار التي زرعت سلفًا في رؤوسنا ولم نشارك- ولو ظاهريًا- في تشكيلها والوصول إليها، تلك الأفكار التي فرضتها علينا الثقافة والتربية… إلخ.

ويذهب الفيلم أيضًا إلى مدى أثر اتخاذ القرار عندما يتعلّق الأمر بالآخر وعلاقتنا به، ففي البداية تتّخذ القرارات بسرعة- ولا أتكلم هنا عن الأحداث البسيطة الّتي ذكرتها سابقًا، بل المحورية منها-، لكن لاحقًا، وعندما تبدأ إدراك مدى ارتباطك بستيفان، والّذي يصل أحيانًا إلى رؤية نفسك فيه، والوصول إلى درجة عالية ممّا يسمّيه إمبرتو إيكّو في “6 نزهات في غابة السر” اسم “الميثاق التخيلي مع المؤلف”، فنبدأ بالتعامل بجدّية مع العمل كما يقول جادامير. تبدأ تشعر بعمق المسؤولية وأهمّية اختياراتك وضرورة التروّي، حتّى يصل الأمر أحيانًا إلى انقضاء الوقت المقرّر للاختيار دون اتّخاذك قرارًا.

مسألة أخرى يظهرها فيلم Bandersnatch، ألا وهي روعة الحرّية أو وهم الحرّية. لا أخفيكم أنّي قد شعرت بالنشوة عندما بدأ ستيفان يرفض أوامري، في محاولة منه للتمرد رافضًا الامتثال لأوامري، حيث رأيته هنا وقد بدأ بإثبات وجوده الخاص متحرّرًا- ولو فرضيًا-من كل القيود التي كبّلته. فالإنسان وكما يرى كامو في “الإنسان المترّد” لا يكون موجودًا ولا يكون لحياته معنىً إلّا إذا كان متمرّدًا، فيقول “أنا أتمرّد، إذًا نحن موجودون”.

يخوض الفيلم كذلك في التبعية المنطقية لاعتبار حرية الإرادة وهمًا، ففي نقطة من الفيلم تقول أحد الشخصيات “إن تبعنا هذا التفكير إلى استنتاجه المنطقي فسنُعفى من أي شعورٍ بالذنب ناتج عن تصرفاتنا، فهي ليست تصرّفاتنا، فقدرنا مكتوبٌ مسبقًا وهو خارج عن سيطرتنا، لذا لم لا نرتكب جريمة قتل؟” وفي إحدى مسارات القصّة، يصل ستيفان أن لا مانع لارتكاب جريمة قتل، فبكامل الرضى والهدوء يقتل والده وصديقه كولن، باستسلام تامّ لما تمليه عليه من قرارت، فيتابع سؤالك “ماذا تريد أن أفعل؟”، وهنا شعرت بالأسى عليه، على عكس شعوري وقتما تمرّد على قراراتي، في مسارٍ آخر للفيلم، والغريب ستجد نفسك مستسلمًا في اتّخاذ بعض القرارات بعد إدراكك عدم تأثيرها على النهاية!

القضايا التي يثيرها ويناقشها الفيلم لا تنتهي، لذا سأختم بهذه القضية؛ بعدما يكتشف ستيفان أنّه مجرّد شخصية تلفزيونية- يذكّرنا هذا بفيلم جيم كاري العظيم “ترومان شوو”-للترفيه داخل فيلم يعرض على شاشة نيتفلكس، ويخبر المعالجة النفسية بذلك، فتخبره محاولةً تبديد تلك الأفكار: “إذا كان كلّ ما يحدث لك للترفيه عن أحدهم، ف‏لماذا لستَ في سيناريو أكثر ترفيهية؟ ‏أنت في غرفة صغيرة في مدينة عادية تتحدّث مع امرأة عادية؛ لو كان هذا ترفيهًا لي، لجعلته اكثر ترفيهًا”، يقودنا هذا إلى ما تقرّه العديد من الأديان من وجودٍ لكيانٍ متحكّم بزمام الأمور ومطلق الخيرية، مع وجود كل هذه الشرور في العالم، فإن كان خيّرًا ألا يجعله هذا يخلق عالمًا وسناريو أفضل من هذا؟ فأنت وخلال اختيارك للأحداث ووصولك إلى لحظات عبثية داخل الفيلم، ستكون واعيًا رغم ذلك أن تلك ليست طريق الصواب، لكنك تفعل ذلك بدافع الفضول والتسلية، وهو ما يقودنا إلى ما يمكن للفضول والبحث عن المتعة أن يجرّانا إليه.

الفضول والبحث عن المتعة، وتران حسّاسان تلعب عليهما نيتفلكس للسيطرة على مشاهديها، ستجد نفسك مجبرًا مرّة تلو المرّة إلى إعادة الاختيار؛ بحثًا عن نهاية أخرى ومسار آخر للفيلم. ففي نقطة من الفيلم يُسأل ستيفان عن عدد النهايات التي جرّبها في اللعبة، فيجيب أنّها كل النهايات، وهو نفس ما ستقوم به، لتجد أن، وفي قيامك بالسيطرة على ستيفان، سيطرت نيتفلكس عليك بدورها، وهي لا تخفي ذلك، بل تخبرك أكثر من مرّة عن ذلك بصورة غير واضحة مستعملةً المجاز، فكما يقول كولن لستيفتن متحدّثًا عن لعب “pac man”: “كل شيء مجاز”.

فيلم رائع وعظيم كمحاولة أولى من الشركة، وذكاء في اختيار القرارت ونوعيتها ودلالاتها، وتماسك للقصة مع انتقال المشاهدين لمسارات مختلفة، مع وصول القصة إلى مراحل معقدة ومثيرة ومربكة.

قد يبدو الكلام مبهمًا ومبعثرًا وناقصًا، وهذا عائدٌ لطبيعة الفيلم أصلًا.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: أحمد جناجرة

تدقيق لغوي: تسنيم محمد

الصورة: IMDB

اترك تعليقا