فلسفة «سيمون فايل» الروحانيَّة: بإمكان نظرةٍ مُنصِفةٍ وعطوفة إنقاذُ العالم

«سيمون فايل» الناشطة الماركسيَّة والمنظِّرة السياسيّة والفيلسوفة المتصوِّفة التي حثّتنا بأخلاقيّاتها ومناقبها إلى النّظرِ أبعد من الإنسان الماثلِ أمامَنا لتشملَ نظرتنا الكون الأعظم.

البدايات؛ الشهيدة المتوَّجة

كانت حياة «سيمون فايل- Simone Weil» الموجَزة المبتورة عبارةً عن تضحيةٍ قاسية ونكرانٍ للذّات من مهدها وحتّى لحدها. فمن طفلةٍ مدلّلة من عائلةٍ يهوديّةٍ مثقّفة، إلى طالبةٍ جامعية في قسم الفلسفة، إلى أستاذة أورثت تلامذتها حبّ الفلسفة بكلّ سخاء، إلى ناشطةٍ ماركسيّة وعاملةٍ مناضلة خلف الآلة، لينتهي بها الأمر متصوّفةً زاهدة وقد شارفت حياتها على الانتهاء، حياتها التي قدمتها أضحيةً على مذبح أخيها الإنسان، وماتت شهيدةً متوّجة.

وصفها الفيلسوف والروائي الفرنسي «ألبير كامو» بالرّوح الأعظم. شكرانًا منه لوعودها والتزاماتها الأخلاقية العنيدة والصلبة: «إن كان ثمّة من روحٍ عظيمةٍ في عصرنا، فهذه الروح هي سيمون فيل».

في مديح كامو لفايل ما يعلو بشخصها عن التسميات التي كانت تُكنّى بها أثناء دراستها الجامعية، من قبيل «العذراء الشيوعيّة»، «الحاكمة القسرية ذات التنورة»، «الفتاة من الفضاء الخارجي». وبالفعل، فقد صرّحت فيل أنّ هذه الألقاب ما زادتها إلّا قوّةً وصقلتها عنفوانًا.

التقت فايل بالفيلسوفة الفرنسية «سيمون دي بوفوار» التي ارتادت جامعة السوربون في الفترة نفسها عندما كانت كلتاهما ما تزال طالبةً جامعيّة. ووصفت بوفوار محادثةً جرت بينهما قدحت شرارتها حادثة المجاعات الصينية، قائلةً: «لقد صرّحت بنبرةٍ جازمةٍ أنّ الأمر الوحيد الذي يستأهل الاهتمام في هذا العالم هو الثورة؛ ثورةٌ لإطعام كلّ الفقراء والجياع في هذا العالم. وجاوبتُ على ادّعائها في نبرةٍ لا تقلُّ إقناعًا: أنّ الإشكاليّة لا تكمنُ في إعطاء الإنسان السّعادة، وإنّما تكمن الإشكالية في إيجاد سببٍ لوجود الإنسان بكليّته. حينها رمقتني بنظرةٍ تقيميّةٍ ساخرة قائلةً: من السهل إذن استنتاج أنّكِ لم تعرفي ما هو الجوع في حياتكِ!». وعلى الرغم من نقاشهما أعلاه، فقد كانت بوفوار تُكنّ الكثير من الاحترام والإجلال لفيل، واصفةً إيّاها ب: «قلبٍ كبيرٍ حنون بإمكانه أن يستوعب العالم أجمع».

إعلان

ترَّفعت فايل طيلة حياتها عن خوض المناقشات أو محاولة الفوز بأيّة مناظرة، علمًا أن «ليون تروتسكي» عمل على حتِّ نقدها للحركة الماركسية -التي انتمت لها قلبًا- ونحته، لكن فيل خصّصت شقة والديها لتكون تحت خدمة الثوّار الماركسيين، واستضافت بين جنباته تجمّعاتٍ سياسية غير مشروعة. وحتّى ذلك لم يجنّبها نقاشاتٍ سياسية وفلسفية محتدمة. ومع ذلك فقد خاضت نقاشاتها وشرحت معتقداتها بسلاسة ونعومة وكانت الدولفين اللطيف في محيطٍ من حيتان الفلسفة في فرنسا القرن العشرين. إذ نَحَت صاحبةُ «القلب الذي بمقدوره استيعاب العالم أجمع» بنفسها خارج صيحات الفلسفة المعاصرة، وبالتحديد خارج دوائر النّخبة الأكاديمية المُثقّفة ونقاشاتهم الفلسفية. فالتزامات فيل الفلسفية، على الرغم من إخلاصها وأمانتها، كانت رثّةً وباهتة بالمقارنة مع حياتها الدرامية التي قضتها بين صفوف المضطهدين دفاعًا عن حقّهم في حياةٍ نبيلة.

بدأ ذلك مع تصريحها بتأييدها للثورة البلشفية عندما كانت لا تزال بعمر العاشرة، واستمرّ حتى سنواتها الجامعية وانخراطها بصفوف الحركة الماركسية والنقابات الاتحادية. وذلك لم يحُل دون تأييدها للجمهوريين ضد حكم «فرانشيسكو فرانكو» الفاشي إبّان اندلاع الحرب الأهلية في إسبانيا.
وخلال كلّ ذلك السعي السياسي والجهاد الفكري، بقيت الأقانيم التي تميّز شخصيتها على حالها دون مساس؛ نكران ذاتها في سبيل أخيها الإنسان وقوة إرادتها. وما يجعل وجهة نظر سيمون فيل الأخلاقيّة على قدرٍ كبير من السحرِ والفتنة هو لأنها ترمي إلى اعتناق النقيض من حياتها الشخصية، أي أن تضع نفسها بين صفوف الفقراء والمضطهدين، وتيمِّم في مطالبها إغفال كلِّ خصوصيات ذاتها في سبيلِ أمرٍ كونيٍّ وعالميّ متنصِّلٍ عن الذات الشخصية، ومتنصّل عن كلّ أنانية. وتضحية فيل هذه نابعةٌ من رغبةٍ أصيلة في التّخلّي عن كلّ شيئ بما فيه الحياة بكلّ ما تعنيه. كان هذا أحد الجوانب الإشكالية لحياة فايل، فمن خلال الانتباه الذي حازه شخصها بسلوكيّاتها على الصعيد العالمي، وتضحيتها الراديكالية بنفسها، أمَّنت بذلك لفكرها الفلسفي منصّةً مُرِّحبة تُطرَح على خشبتها أفكارُها حول الإنسان الكوني والحاجة إلى تبنّي موقفٍ خالٍ من الأنانية تُطمَس فيه الأنا في سبيل الآخر.

فلسفة «سيمون فايل» والحاجة إلى الجذور في عالمٍ سائل

بالإمكان تشكيل نظرة حول أدبيات سيمون فايل وفلسفتها بالرجوع إلى ثلاثٍ من أطروحاتها الفلسفية وهي: بيانها المعنوَن «أطروحة حول فرائض الإنسان/ Draft for a statement of Human Obligation»، وكتابها «الحاجة إلى الجذور/ The need for roots»، ومقالتها «الإنسان والقداسة/ La personne et la Sacré»، التي كتبتها خلال فترة عملها في لندن لصالح قوات التحرر الفرنسية. تتمخَّض هذه النصوص عن العديد من المفاهيم الأساسية في فكر فيل الأخلاقي، الذي يعتقد بأن الفعل الأخلاقي مبنيٌّ على واجبنا تجاه فكرةٍ ما بمعزلٍ عن مآربنا الشخصيّة، وهذا الواجب أو الفريضة تكشف ماهيّتها أفضل الكشف في موقفنا الحريص على الإصغاء إلى الآخر/ أخينا الإنسان ورؤية مكمن ألمه وخزيّه. هذه الفريضة لا يفرضها علينا عالمنا العقيم الذي نعيشه، وإنّما هي فريضةٌ مقدَّسة يستوجبها منّا عالمٌ أرحب يتجاوز عالمنا هذا.

تستجلبُ فايل أسس فلسفتها آنفةِ الذّكر من محبّتها الصادقة وإيمانها بفلسفة «أفلاطون»، ومن قناعاتها الدينيّة التي تتحدّر من جذور صوفيّة وممارسات زاهدة ربّتها على معتقدات مسيحيّة كلاسيكية بشقّها الكاثوليكي. لكنها، في نفس الوقت، تركتها عند باب الكنيسة دون أن تدعوها إلى الدخول. وأظهرت قناعات فيل الدينية والإيمانية وجهها في مقالتها «La Personne et la Sacré» والتي تُرجِمت «الهديّة الإنسانية أو ما هو جوهر القداسة في كلّ إنسان».

تهدف فيل في مقالتها تلك توطيدَ وجهة نظرها الأخلاقيّة، والطّعن في فكرتنا المُقولَبة الجّاهزة حول كيفيّة تعامُلنا مع «الآخر» وسببيّته. إذ تستهلُّها بالتركيز على ما يبدو أنّه المقاربة المنطقية لسؤال: «كيف ينبغي علينا بناء علاقتنا مع الآخر؟». وتطرح فكرتها مجيبةً، بأنّنا يتحتّم علينا أن نتطلّع إلى الآخر بوصفه نفسًا جوهريّة تملك هويّةً خاصّةً بها. هوية نتجاوب معها ونتعلّق بأهدابها، وهذا ضربٌ من ضروب «الشخصنة/ Personalism». إذ ترى الشخصنة أنّ الهوية ما هي إلّا جوهرٌ ميتافيزيقي.

وتستطرد فايل في شرح الفكرة وتسألنا تخيُّل لقاءٍ ما برجلٍ مجهول في الشارع. سنلاحظ في بداية اللقاء عدّة جوانب من شخص هذا الرجل. على سبيل المثال: ذراعاهُ الطويلتان، عيناهُ الزرقاوان، عقله المزدحم بالأفكار التي لا تتمحور حول شيئٍ بالتحديد. وبعدها تطرح عريضتها بصورةٍ مباشرة: «ما الذي يحولُ دون أن نفقأ عينيه؟!» فبالنتيجة، إن كنّا ندين بالفعل الأخلاقي تجاه ما يُدعَى (بالهوية= الجوهر الميتافيزيقي للإنسان) فهويته ليست في عينيه:

«إن كانت الهوية الإنسانيّة هي الأقنوم المقدّس بالنسبة لي، عندها لفقأت عينيه بكل يُسرٍ وسهولة. فحتّى إن كان أعمى ودونما عينين، ستبقى هويته على حالها».

تشدِّد هذه الفكرة الصارخة على الجدال الجذريّ لفلسفة فيل مع مفهوم الشّخصنة. فالشّخصنة تضربُ بعرض الحائط تأثيرَ البلاء النّاحت لهوية الإنسان وشخصه. وعليه، إن كان أساسُ تعاملنا مع الآخر مبنيًّا على الاعتقاد باستحالة دمار روح الإنسان وتهتُّكها جرّاء المعاناة، بل وحتّى بدلًا عن انهياره سيتغلَّب على ظروفه بالرغم من كلِّ العقبات. إذن، لا يمكن أن يكون ما يحول دون أن نفقأ عيني أخينا الإنسان هو إيماننا بأنّ هويته وأناه ستبقيان دون أن يمسّهما ضرر، لكن ما يُصلّب عضلات يدينا ويحول دون إقدامنا على فعلتنا هو: «معرفتنا أنّ إقدامنا على فقأ عينيه، سيحكُم على روحه بالتمزّق جرّاء كمِّ الشّرِّ الذي أُنزِلَ به».

وبالمثل، ترفض فايل الفكرة القائلة إنّ ما يمنعنا من إلحاق الأذى بالآخرين هو حقّهم في البقاء آمنين. فمدلول «الحقوق» بحدّ ذاته لا يعني شيئًا إن بُتِر عن فكرة أن البشر إخوة وينتمون إلى عالمٍ واحد. مجاهرتنا بالحقوق المُستَلَبة لن يقفَ عائقًا في وجه اجتراح الشّر. فمصطلح «الحقوق» يُستخدَم لملء صفحاتٍ من مرافعات قضائيّة أو صفقات تجارية. وعند استخدامنا للفظة «حقوق» تغدو علاقتنا بالآخر علاقةً ماديّة وتشييئيّة وتفتقر للإنسانيّة، لأنّها تمسخ دمعةً استجرَّها الألم إلى مصطلح قانونيٍّ أبكم. وحينها نتوقّف عن رؤيته بوصفه «آخر» مدينون نحن له بفريضة جوهريّة وأصيلة ومتنصّلة من الأنانية، وإنّما بوصفه وعاءً لقيم ظاهرية لا معنى لها. وتطرح فيل مثال الفلّاح الذي يضعُ سعرًا محدَّدًا للبيض الذي أنتجته دجاجاته، ولديه كلّ الحق في رفض ثمنٍ بخس قدّمه أحد الشارين. هنا تغدو لفظة «حق» مُستحَقَّة بناءً على علاقة الفلّاح بالبيض بوصفه مالكًا له، وبناءً على طبيعة الصفقة التي هي صفقةٌ تجارية. لكن عندما تُجبَر سيّدةٌ شابّة على ممارسة البِغاء، تغدو لفظة «حقوق» مثيرةً للسخرية. فما يُنتَهك هنا أمرٌ مختلفٌ تمامًا عن حالة الفلّاح. نحن هنا أمام «ثورةٍ شاملة لكينونة الإنسان الكليّة؛ ثورةٌ عاتيةٌ ومستميتة. وفي نفس الوقت، هي صرخة استجداءٍ لأملٍ لا يجيء. صرخةٌ من صميم القلب». هذه الأذيّة لا يعوّضها المال أو الصفقات والمساومات.

تبني فايل محاججتها على وجوب الفعل الأخلاقي بوصفه فريضة. فريضةٌ ليست تجاهَ ما نعرفه من ماهية الشخص الآخر أو ما نتخيّل أننا نعرفه، وإنّما فريضة تجاه صرخة الألم التي يطلقها من صميم معاناته. هذه الصرخة مستقّلة عن ماهية الشخص وكينونته وتخصُّنا أجمعين. أي، صرخةُ إنسان هي صرخة البشرية جمعاء. ولا يقتصر واجبنا على الحيلولة دون المعاناة الكونية وإنما أيضًا في التأكيد على أن المعاناة ظالمة وليس فيها شيئٌ من الإنصاف. وعلى الرغم مما تظهره سيرة فيل الذاتية من دلائل جليّة على إدراكها لماهية الألم والمعاناة ومدى شموليّتهما، تحاجج بفكرة أن على البشرية أن تتحلى بالأمل وتتوقع الخير بدلًا من الشر. وفي تأكيدها على شمولية الألم، تضرب فيل جذور الهوية الإنسانية بعرض الحائط مؤكّدة أن حرقة دموع إنسانٍ يرزح تحت نير البؤس هي دموعٌ لا تخصّه وحده بل هي دموعنا كلّنا. وما تشير إليه هذه الدموع، ليس مدى جاذبية المعاناة، بل جدارتنا أمام البؤس وقداستنا عند الصمود، إذ تقول :

«ما يعلو بإنسانٍ إلى مرتبة القداسة هو بؤسه الذي يتجاوز كينونته وأناه ليشمل العالم أجمع. فكلّ ما يتنصّل من ذاتيته ويستقلّ عنها يغدو مستوحِدًا ومقدَّسًا».

أو لنقل ذلك بطريقةٍ أخرى، ثمّة بالتأكيد هالةٌ من القداسة تحيط كلّ إنسان؛ قداسةٌ لا علاقة لها بظروف حياته وحيثيّاتها واحتماليات هويته. فإذن، ما يحول دون اجتراح الشرّ هو هذا الوعي بالجانب المقدَّس للكائنات البشريّة، وليس المعرفة المُسبقة بحقهم في البقاء آمنين من الأذية!

واستتبعت فايل قولها بأنّ لا-فردانية الإنسان أو كونه مجهولًا بالنسبة لنا هي ما يجعله مقدَّسًا؛ فكلّ مجهولٍ مقدّس. وواجبنا الأخلاقي تجاه إنسانٍ آخر يستند جذريًّا على إدراكنا لقداسته رغم جهلنا لخصاله ولهويته.

في نصّها: «تمهيدٌ لأطروحة حول فرائض الإنسان»، تقرّ فيل أنه على الرغم من الشمولية الموروثة لمفهوم المعاناة وتساوينا أمام الألم، فنحن لا نعيش ضمن ظروف وحيثيات تمكِّننا من إدراك هذا التكافؤ وذلك لأننا: «في كلّ حيثيّاتنا الاجتماعية وظروفنا، لسنا متكافئين أمام مكوّنات هذا العالم». ولذلك تشدّد على مكامن التماهي والقداسة عند كل إنسان، وتقول: «إلَّم تُبنى أرضيّتنا النفسية على هذا الأساس فمن المستحيل أن نشعر بالدرجة نفسها من الاحترام تجاه أمورٍ هي في الحقيقة غير متكافئة ما لم تَحُز على الدرجة نفسها من الاحترام!».

ينبغي على فريضتنا تجاه الآخر أن تكون مطلقة دونما شروط أو قيود، وأن نؤدّي واجبنا تجاهه بصورةٍ لها منفعةٌ ومدلول. وترجع لا-شرطيّة هذه الفريضة في أن مَعينها ومنبعها يكمن في حيّزٍ خارج هذا العالم. هذا الحيّز الذي يقع خارج العالم وخارج مدارك الإنسان ومساعيه هو الخير المطلق الذي وجِد في شخص الإله؛ الإله بوصفه مفهومًا يشتمل على كل ما هو بهيجٌ ووضّاح وعادل وطيب في هذا العالم:
«في صميم قلب الإنسان، يكمن توقٌ إلى خيرٍ مطلق. توقٌ لطالما اعتملَ هناك ولمّا يلطّفه أو يخفّفه أيّ غرضٍ أو بغية أخرى». الإله هو النسخة الأفلاطونية للواقع التي تسوّغ واجباتنا وفرائضنا، لأن: «إدراك شتّى الفرائض ينبع على الدوام من الحنين إلى الخير. وهو حنينٌ يتيمٌ وثابتٌ ومتشابه عند كلّ البشر من مهدهم إلى لحدهم».

وبالعودة إلى مفهوم الحقوق، ترى سيمون فايل أن الحديث بموجب الحقوق يُعمينا عن مفهوم القداسة الإنسانية ومكمنها، ويحوّل واجبنا ويدفعه في اتجاهٍ آخر:
«إلى الكينونة الإنسانية، نحن مدينون بكلّ شيئ. وذلك لسببٍ وحيدٍ أوحد، وهو لإنّه كائنٌ إنسانيّ دونما الحاجة إلى توفّر شروطٍ أخرى. وحتّى دون إقرار الشخص ومطالبته بتأديتنا لواجبنا تجاهه».

وكما يُظهر مثالها عن الرجل في الشارع، لا ندرك هذا الواجب على الفور. ولا يرجع ذلك إلى ظهور جوانب من هوية الرجل تدفعنا للاكتراث تجاهه دون غيره لأنه يعلو عنهم مرتبةً فحسب، بل أيضًا لأننا نعايشُ ظروفًا تعلو ببعض الأشخاص فوق غيرهم من البشر. وذلك لميلنا في اعتبار الآخرين وسائلًا لا غايات، ونادرًا ما نرى أبعد من الصورة الماثلة أمامنا بحثًا عن شيئٍ ما مجهول.

وهنا، نلاحظ ارتقاء مواقف أخلاقية بعينها لتعلو عن مجرد فرائض أدبية أو معنوية. فالمجتمع الذي يرقى لصفة «المجتمع العادل» هو المجتمع الذي تتوفَّر فيه حاجاتُ الجسد البشريّ الفطريّة من طعامٍ ودفء ونوم وصحّة وراحة وهواء طلق بالتوازي مع الحاجات الروحيّة.

التصوُّف بحثًا عن المعنى


تدور فلسفة سيمون فايل حول فكرةٍ واحدة وهي: الحبّ. إذ يستوجب عالمنا وقفة «حبٍّ واكتراث» نغدقه على محيطنا ونتلقّاه بالمقابل من هذا العالم البرّاني. فليس بمقدورنا، إن نحن أخذنا الأمر على عاتقنا، جلبَ الخير إلى هذا العالم لأنّ مفهوم الخير يتجاوز الحيّز المكاني الكوني ويتجاوز مَلكات الإنسان وإمكاناته البسيطة. لكن ما بحوزتنا هو القدرة على تحويل محور اهتمامنا ليشمل عمل الخير وإغداق الحبّ بكرمٍ وسخاء، وعليه فإن:
«تلك الأرواح التي أغدقت حبّها وحنانها على واقعها اليقينيّ هي الوعاء الوسيط الذي من خلاله يمكن للخير والطيبة أن تنحدر نازلةً من السّماء لتعمَّ بني البشر».

الحدب على الآخرين بشتّى السبل هو ملَكةٌ بحوزتنا، ملكةٌ ننمّيها مع الأيام، وليست موهبةً نكتسبها بالفطرة. وتقترح فيل في مقالتها «تأمُّلاتٌ في الاستغلال القويم للتعليم المدرسي لينمّي محبّة الإله» أن إدراكنا كيفية محبّة الآخر والاهتمام لأمره هو أمرٌ مماثلٌ للمثابرة على إنجاز الفروض المدرسية:

«إن نحن كثّفنا انتباهنا على حلّ معضلةٍ رياضية وبعد مرور ساعة من الوقت لم نقترب قيد أنملة من حلّها. ففي هذه الساعة، حتّى إن كنا لم نُحرز تقدُّمًا يُذكَر على المستوى الظاهري، فقد أحرزنا تقدُّمًا في بعدٍ آخر باطني. ومن دون أن نعي ذلك، فقد جلَبت هذه النزاهة في إتمام العمل والإخلاص في حلّ المعضلة، جلبت نورًا إلى غرفة الروح المُعتمة».

ليس الاكتراث مهمةً خفيفةً كما تبدو للوهلة الأولى. فكما تتصوره فايل، الاهتمام ليس نشاطًا فاعلًا كحلّ معضلةٍ رياضية، بل هو حالةٌ منفعلةٌ جمودية ساكنة ينصبُّ فيها انتباهنا على ماهية الظروف التي ساندتنا في رحلتنا لإتمام حلِّ المعضلة. إذ تكتب:
«ينبع الاهتمام من تعطيل الفكر وبَتره وإفراغه، مما يؤهِّبه ويجهِّزه لاستقبال البُغية أو الغاية التي هي موضوع اهتمامنا. فلننحّي إذن المعرفة التي اكتسبناها جانبًا، فاسحين المجال لهذه الغاية أن تسِمنا برموزها ودلالاتها».

هذا الاهتمام مسيّر نحو هدف أسمى هو الآخر/ الأخ الإنسان والإله بوصفه الأب الأكبر للإنسان.
وهنا تظهر فلسفة سيمون فايل الروحانيّة الزّاهدة بأفضل تجليّاتها. فبعد وقوعها أسيرةً لأمراض لا-متناهية وآلام عاتية، فتحت المعاناة الجسدية والكرب النفسي آبارها الصوفيّة، وكتبت في نصّها «الخبرة مع الله؛ حبُّ الإله والبلاء»:

«يُخفي البلاء الإله خلال أوقات معيّنة. إذ يمسي الإله غائبًا غيبة كائنٍ ميت، غيبة الضوء عن زنزانةٍ يلفّها الظلام. يغدو غيابه نوعًا من الرعب يغمر كلّ النفس. وخلال هذا الغياب، ليس ثمّة من شيئٍ نحبُّه. والمرعب في الأمر، هو أنه إذا توقفت النفس عن الحبّ في هذه الظُلمات فإن غياب الله يصبح قطعيًّا مُبرَمًا. ينبغي أن تستمرّ النفس في الحب دون غاية. عندئذٍ يُظهِرُ الإله وجهه يومًا ويكشف لها جمال الوجود كما أظهره لنبيّه أيّوب. لكن، إذا ما توقّفت النفس عن الحبّ فإنّها تسقط، حتى وهي في الحياة الدنيا، في ما يعادل الجحيم تقريبًا».

وأحد أشكال هذا الحبّ والاكتراث هو عبر الإصغاء والرؤية. إذ ترى فايل أن محبّة الآخر، وبالتحديد ذلك الآخر البائس، تكمنُ في أن ننظر إليه نظرةً مُنصِفةً وعطوفةً وحانية:

«تفرغ روح النّاظر ذاتها من كلّ متاعها لتحتوي بين جنباتها روح المنظور إليه بكل كينونته المشوّهة وأصالته المشوبة. والقدرة على رؤية ألم الآخرين لا تُكتَسَب بالتناضح، وإنما تحتاج إلى تمرين. الاكتراث بمصائر الآخرين هو ثقافةٌ مبنيّةٌ على الممارسة».

نظرةٌ عادلةٌ وحانية تكفي لإنقاذ العالم

هذا ما احترمته «آيريس مردوخ»، من بين كُثُر، في فكر سيمون فايل. فمفهوم فيل حول ثقافة الاكتراث بمصائر الآخرين لا تفترض أن الأخلاق مسألةٌ حسابية محضة، أو أن نتائجها على الصعيد الإنساني في غاية الأهمية. وبدلًا عن ذلك، وفي توصيف مردوخ لمفهوم فيل، يشتمل الاكتراث على القدرة على النظر إلى الآخر نظرةً عادلةً وحنونة. نظرةً تغضُّ النظر عن خياراته وأفعاله وتترفَّع عن المرافعات الأخلاقية. حينها، وحينها فقط، تصبح الأخلاق هي الموقف الشموليّ المُتبنَّى حيال الآخر وحيال العالم بشكل عام. فعنما ننظر إلى الإنسان نظرةَ إنصافٍ وحنوّ، عندئذ نتمكّن من رؤية حقيقته الكاملة؛ كائنٌ خائفٌ وطفل مشرَّد.

هذا المطلب ليس بالأمر الهيّن. فبالرغم من تماهيه مع المطلب «الكانطي» في النظر إلى الآخر على أنه غاية وليس وسيلة، لا يحدّد أو يفصّل في كيفية تعاملنا مع الآخر، بل يُسهب في شرح آلية تصحيح رؤيتنا للآخر. وربما سيكون ردّنا على الكلام آنف الذكر هو أننا عليمون أبلغ العلم بأولئك البائسين والمضطهدين، وبصيرون أبلغ البصيرة بكيفية تسكين ألمهم وتلطيفه.
ومن هذا المنطلق، انصبَّ إشفاق فايل، ليس على الآخر الذي يعاني بصورته المجردة فحسب، بل أيضًا على الطريقة التي نخدع فيها أنفسنا ونسوّغ أفعالنا.

فكما كتبت في مقالتها «تمهيدٌ لأطروحة حول فرائض الإنسان»:
«نعيش في عالمٍ يمرّ فيه البائسون والفقراء والمساكين دون أن نراهم أو نلاحظهم. ويسترعي أفراد معيّنون انتباهنا بمحض الصدفة أو بضربة حظ، بينما يمرُّ الآخرون غير مرئيين دون حتى أن ننظر إليهم. إن بقي اهتمامنا محصورًا بهذا العالم، فلن نلحظ أولئك الآخرين. لأنه من غير الممكن إكرام كلّ البشر بصورةٍ عادلة ما لم نستبصِر أبعد من الخاصيات المتشابهة لدى الكل. ينبغي علينا التعمّق خلف الهويات والحكايات».
لقد كان هذا حجر الأساس لروح سيمون فيل وبصيرتها. إذ أدركت أننا يجب أن ننسحب من تحزّبنا لصالح الفرد وأن ننتسب لحزب الكل.

«ولادةُ الإله» من رحم البلاء

تتماهى سيمون فايل في روحانيّتها مع كبار المتصوّفين، وذلك بعد تجارب عصيبة وأهوال جمّة واجهتها في حياتها. في رسالتها إلى الشاعر الفرنسي «جو بوسكيه- Joë Bousquet»، كتبت:

«الفرحُ هو المحبّة، والمحبّة هي الله ذاته. يسكن الإله في عمقِ كلّ إنسان كبذرة غير مرئيّة».

فقد دفعها ألمها الجسدي ومرضها إلى تقبُّل البلاء والألم برحابة صدرٍ وأنَفة، إذ تقول:
«أصل الشّر، عند الجميع ربّما، وعند من يعانون بالتحديد، وخصوصًا ممن يعانون بلاءً بيولوجيًّا، إنما هو حلمُ يقظة. الشرّ بالنسبة لروحٍ مريضة هو العزاء الوحيد، العون الوحيد لحمل الثّقل الرهيب للزّمن، عونٌ بريء لا غِنى عنه على أيّة حال. وعزوفُ المرء عن اجتراح الشر يعني تخلّيه عن ملكاته وتضحيته بها في سبيل الحبّ. وساعتها حقًّا سيحمل المرء صليبه؛ الزمن هو الصليب».

كما كتبت تأمّلاتٍ صوفيّة حول ولادة الإله: «استيلاد الإله في الإنسان» بوصفها حالة مخاضٍ دائم ودائرةً مُفرغة قوامها البلاءُ، والاصطبار على المحن والتواضع أمامها:

«الإله في حالة انتظارٍ دائمٍ أن نتعرّف عليه. إنه حاضرٌ حضور البذرة التي قد تنتظر عُمُرًا رطوبة الأرض التي تحرّضها على الإنتاش. الله لا ينام، ولا البذرة! بيد أن الله والبذرة يلوذان بالصمت. لكن عندما تقبَل الأرض في رحمها البذرة، تُنتِش. فليَصِر الإنسانُ أرضًا، ينبُت الله فيه! إنها الولاةُ الجديدة؛ عودٌ على الذات؛ دائرة. التواضع يهبُ الإنسان ما تمنحه الأرض من دفءٍ ورطوبة. أي الرضى ضروري، وهو الشرط اللازم والكافي لولادة الإله في النفس. الإله هو قبولٌ غير مشروطٍ للحبّ والخير الخالص. ولا يتبيّن المرء أنه حظي به إلا بعد حين!»

تستحثّنا أخلاقيات سيمون فايل أن نقف وقفة احترامٍ لمسيرتها الإنسانية وفكرها، فقد عاشت حياةً استثنائيّة وفريدة وعلى جانبٍ كبيرٍ من البطولة والروحانيّة. حياةً من التصدّي لعقائدنا الأخلاقية ومحاولة تغييرها. إذ تلخّص الأديبة الأمريكية «سوزان سونتاغ» حياةَ سيمون فايل بعبارةٍ تحمل الكثير من الدلالات: «وتلك الحياةُ التي ننظر إليها عن مسافة بمزيجٍ من الشفقة والإجلال، ذلك هو الفرق بين البطل والقدّيس. لو أمكن استعمال كلمة قدّيس باعتبارها الجمالي وليس الديني».

لكن، إن كان لنا فعلًا أن نأخذ فرائض أدبيّاتها على محمل الجد، أي إن كان من المُتاح تطبيقها، فعلينا أن نتحوّل بأبصارنا عن حياتها وفلسفتها ونوجّهها نحو كلّ ما هو لا-فرداني، وكونيّ وشمولي في الإنسانية. هذه هي العقيدة التي دونها نحن تائهون لا محالة، والتي تستأهل دون شك تقديم الذات أُضحيةً على مذبح الإنسانية. ونختم مع مقولة لفيل تختصر بين حناياها فلسفتها كاملة:
«إنّ المعرفة ليست شقاءً للعارف، بل ألوهيّةً أمسكت بيده وشدّت عليها بقليلٍ من القوّة».

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: سِوار قوجه

تدقيق لغوي: بيسان صلاح

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا