في مديحِ فلسفةِ الملل

«بمقدوريَ الصّفحُ عن كلّ الخطايا عدا الملل!»

كانت تلك طرفةَ الممثلةِ الهوليووديّة الشّهيرة «هايدي لامار- Hedy Lamarr». فمن الخليقِ بالسّيدة التي شاركت في اختراع تكنولوجيا أصبحت حاليًّا أساسًا لثورة الاتصالات أن تضع الاقتباس الأنسب لعصرنا الحديث؛ عصرُ السّعي المحموم لضحد الملل والتنصّل منه. فاليوم، وسط عقيدةِ الخصوبة الإنتاجيّة، عقيدةٌ دينيّة إن جاز التعبير، أصبحنا نرى السّأم خطيئةً لا تُغتفَر إطلاقًا. السّأم في عصرنا هو المعادلُ العلمانيّ للخطيئة المُهلِكة.
نلوذ فرارًا من الملل، وكأنّ الجلوس في محضره في حالةٍ من البلادة العقيمة هو خيبةٌ ذاتيّةٌ بليغة. إذ لم يعُد في مقدورنا أن نمارس أيما نشاطٍ على عاتقنا مستوحدين مع أنفسنا بمعزلٍ عن العالم.

ومع ذلك، فالملل ليس عاطفةً متبلّدةً فحسب، بل شعورٌ حياتيٌّ جوهريّ في ارتباط أواصره مع مَلكات التأمّل والتبصّر والحكمة والثّبات الوجدانيّ. أي، فالملل حاجةٌ نوعيّةٌ لازمة لحياتيّة الفكر والروح، ولسيرورة الفنّ والعلوم على حدٍّ سواء.

إنّ القدرة على الشعور بالضّجر أقنومٌ أساسيٌ وضروريّ لاجتراح الفن بشتّى أفانينه. إذ لولا الملل لما وجِدَت أحلام اليقظة، ولما وجَدنا متّسعًا للتأمّلات أو الاستبصارات. وبدون «أحلامِ اليقظة البنّاءة» لما كان ثمّة إبداع، ولولا البصيرة لما امتلكنا القدرة على التّجاوب الروحيّ مع الآخرين، ولكُنّا مجرد كائناتٍ تستجيب بصورةٍ آليّةٍ فحسب.

فالاستسلام لشعور الضجر يعني أنّنا غير خائفين من اكتشاف أغوارنا الباطنيّة، هو أفنونٌ من جسارةٍ مناقبيّة تهجعُ في بئر إنسانيّتنا.
وفي ما يلي قطفٌ غفيرٌ من الرؤى الفلسفيّة ذات البصيرة الرّاسخة حول فضيلةِ الملل ونِعَمه الإشكاليّة:

سورين كيركيغارد: «فضيلةُ الكسل»

كان الفيلسوفُ الدانماركي «سورين كيركيغارد-Søren Kierkegaard» رجلًا ذا حكمةٍ سرمديّة، وفطنةٍ قلَّ نظيرها مكّنته -قبل قرنين من الزمن- من تأويل قضايا تخصُّ حاضرنا المعاصر؛ من قبيل: سيكولوجية التنمّر على مواقع التواصل الاجتماعي.، والبواعث الكامنةُ وراء فعل الطّاعة، وما هو المنبع الأعظم لشقائنا وتعاستنا.

إعلان

وقد أجال طَرفه البصير في معضلة الملل في فصلٍ من فصول تحفته الرائعة «إمّا/أو: نُبذَة من حياة».
إذ أطّر كيركيغارد الملل بوصفه قَفرًا وجوديًّا، ما يميّزه ليس غياب الحافز أو التّشويق، بل غياب المعنى. وهو الأمر الذي يفسِّر بكلّ حصافةٍ سبب شعورنا بالسّأم في العصر الحالي، أكثر من أيّ وقتٍ مضى في التاريخ، على الرغم من نشاطنا وتخفُّزنا طيلة الوقت.
يتحسّر كيركيغارد الشاب، ابن الثالثة والثلاثين ربيعًا، على حياته «التّافهة الفارغة كليًّا»، كاتبًا:

«كم هو السأم مريعٌ لا يُحتَمَل؛ لكم هو من السماجةِ بمكان أنّي لا أعرف تعبيرًا أبلغَ من لفظة «مريع/ Dreadful» ولا أكثر صدقًا منها. لأن المتشابهات لا تُعرَف إلا بأشباهها. أخرُّ ساجدًا مُطفَأً: قفرٌ كلُّ ما أراه، فراغٌ كلُّ ما أقتات عليه، خلاءٌ كلُّ ما أسبح فيه. حتى إنّي لا أتألم. لقد فقَدتِ البُرحاء نفسها أثرها التخفيفيّ في الترويح عن بؤسي. ولَإن وهِبتُ كلَّ أمجاد الحياة وكلَّ عذاباتها لما أشجاني أيٌّ منهما أكثر من الآخر، ولما انكفأتُ على وجهي الآخر سواءً أكان ذلك للظّفر بأيٍّ منهما أو للتملّص منه. أنا الهلاك المُحتَضر الزائل، فما الذي يسلّي عنّي؟

حسنًا، فقط لو قُدِّر لي أن أُبصِرَ صلاحًا يناهض كلّ محنةٍ أو مكروه، أوشغفًا صابرًا على كلّ البلايا، أو إيمانًا قادرًا على تحريك الجبال. إن كان لي أن أحيطَ علمًا بفرضيّةٍ احتوت بين حناياها على محدودية ولا-محدودية الإنسان في آنٍ معًا!».

يوقِد كيركيغارد مصباح بصيرته ليضيء لنا غياهب ثقافتنا القائمة على عقيدة الاستهلاك/ الإنتاج، وانشغالنا القهريّ الذي يضيّق الخناق علينا، ويكتب:
«الملل أصلُ الشرور. من الغريب بمكان أن يكون للملل، وهو حالةٌ ذات طبيعةٍ رائقةٍ ورصينة، هذه القدرة على استهلال سيرورةٍ حركيّة. مُفاد الضجر هو مُفاد غامضٌ وساحر، وسحره لا يُغري بل ينفّر».

يفسِّر هذا الإدراك، على سبيل المثال، فشل العديد من التسالي التي تتقيَّؤها المؤسّسات الرأسماليّة الاستهلاكيّة بكلّ سلعيّتها، وتعلن خيبتها في تضميد جِراح الروح، فشفاء الروح هي مهمّةٌ تعود في الأصل إلى الفلسفة، وذلك في مواجهة ضجرٍ مرعبٍ راجعٍ إلى غياب المعنى أو الهدف.
وما يصفُ به الفيلسوف صاحب الفكر الحصيف «آلان واتس- Allan Watts» هذه الاستراتيجيّات العقيمة في الإلهاء بـ «رعشة جماعٍ لمّا يُطلَق لها العنان». فهذا «الإلهاء المضلَّل» بحدّ ذاته منبعٌ للسّأم الوجودي، إذ يتابع كيركيغارد:
«يبدو أنّه من المريب لبلسم الملل أن يحرّض المزيد من الملل. ويتحرّض الملل بحالِ ما لم يُستغَل العلاج بصورةٍ قويمة. ففي جوهر الإلهاء الواهم الشّاذ يجثمُ الملل منتظرًا ساعته. ويزحف الضّجر متلمّسًا طريقه في الظهور فورًا».

ومع ذلك، يحاجج كيركيغارد أن الضجر هو فطرتنا الأصيلة، قائلًا:
«كل البشر مملّون. فكلمة «ملل» تنطوي على شكلٍ من أشكال التصنيف الطبقي. إذ تشير لفظة «مُضجِر» إلى كلٍّ من الفرد الذي يبعث على الضّجر في قلوب الآخرين، وكذلك الشخص الذي يصنع سأمه الخاص.

فالذين يبعثون على الملل هم السوقيون، القطيع، الطابور اللا-نهائي من البشرية جمعاء. أما الذين يستجلبون مللهم الخاص، أو بالأحرى يختلقونه، هم المُختارون، الأشراف، النبلاء. ومن اللافت للنظر، أنّ الذين يستمتعون بصحبة أنفسهم يثيرون ملل الآخرين، بينما الذين يسأمون صحبة أنفسهم يبثّون البهجة في قلوب غيرهم».

في ادّعائه آنف الذكر يرنُّ صدى عِظته وتحذيره لنا من مثالب الانشغال الذي ما هو إلّا إلهاءٌ وحاجزٌ أمام استغلال حياتنا أتمّ استغلال، إذ يضيف:
«بوجه العموم، الأشخاص الذين لا يكابِدون الملل في صحبة أنفسهم ثمّة ما يشغلهم بصورةٍ أو بأخرى. ولهذا السبب بالتحديد، هم، دون غيرهم من الناس، الأكثر إثارةً للسّأم والأغلظ على الإطلاق. أما الطبقة الأخرى من البشر فتضمُّ أولئك الذين يصنعون سأمهم الشخصي، فهم عادةً ما يبثّون في قلوب غيرهم المتعة والبهجة، وعلى قدرِ عمق شعورهم بالسّأم والبؤس، كان إمتاعهم الآخرين مُفحِمًا وقديرًا. وعندما يحازي الضجر حدوده القصوى، إمّا يموت هؤلاء بجرعةٍ مفرطةٍ من السّأم والحزن (وهم الفئة الخاملة المنفعلة)، أو ينتحرون بدافع الفضول (وهم الفئة الناهضة الفاعلة)».
إذن، ما هي العباءة التي بمقدور ارتدائها تجنيبنا شرور السأم؟

في طباقٍ فلسفي، يشير كيركيغارد إلى فضيلة «الكسل/ Idleness». وهو مفهومٌ وظّفه بنفس الطريقة التي نوظّف فيها اليوم مفهوم «السكون/ Stillness». فالكسل هو شكلٌ أنطولوجيٌّ ضروري من أجل حضورٍ حريصٍ وواعٍ في حيواتنا. إذ يكتب:
«ليس الكسل أصل الشرور بأيٍّ شكل من الأشكال. فعلى العكس، إنّه حياةٌ قدسيّةٌ حقًّا، إن لم يملّه المرء!
وعندئذٍ، يغدو الكسل خيرًا مطلقًا، وليس أرومةً للشرِّ على الإطلاق. الملل هو أصل الشرور. وهو شرٌّ ينبغي كبحه. وعليه، فالكسل ليس شرًّا مستطيرًا، على الرغم مما قيل فيه: إن من لا يتّقي شرَّ الكسل لن يرتقي إلى مرتبة الإنسان»

آرثر شوبنهاور: «الروتين المُتعِب التلذذيّ»

قبل سنونَ عديدة من طرح علماء النفس المعاصرين لمصطلح «الروتين المتعِب التلذذيّ» ليختصروا به ثقافتنا القهريّة في الاستهلاك، والسرعة التي يتلاشى بها بريقُ الممتلكات التي لطالما سعينا جاهدين في امتلاكها، اجتلى الفيلسوف الألمانيّ العظيم «آرثر شوبنهاور- Arthur Schopenhauer» الدور الذي يلعبه الملل في ذلك، والذي وصفه بقوله: «شعورٌ بخلوّ الحياة من أيما مغزى» في رقصتنا النّهمَة الأبديّة مع مفهوم الرضى والقناعة. إذ يكتب في كتابه «مقالات»:

«في عصرنا الحالي، عصر العنانة الفكريّة الثقافيّة وتبجيل الرداءة والتّفاهة بأيِّ شكلٍ من الأشكال، يجرؤ الوحد-وجوديون/ Pantheists على المجاهرة بأن ما الحياة سوى غايةٌ بحدّ ذاتها. فإن كان وجودنا في هذا العالم غايةً بحدّ ذاته، لكانت أسخف الغايات الحتميّة وأكثرها عبثيّةً، ولربّما كانت أسخف مما قد يتخيله أيّ إنسانٍ آخر».

«تطرح الحياة جوهرها على صورة تكليفٍ وفريضة، فريضة «تحصيل لقمة العيش». إن أُدّيَت تلك الفريضة يغدو حينئذٍ كلّ ما جمعناه مملًّا وحِملًا ثقيلًا، وهذا ما يصل بنا إلى الفريضة الثانية، وهي التخلّص من مقدّراتنا لتحاشي الشعور بالسأم. الضّجر أشبه بطائرٍ مفترسٍ جاهزٍ للانقضاض على كلّ حياةٍ خاليةٍ من الحاجة. أي، إن واجبنا الأول هو محاولة الفوز بأيّ مكتَسَبٍ كان، ومن ثمّ نسيان ما فزنا به، وإلّا فإنّه سيتحوّل إلى عبءٍ جسيم».
وبصبغته التشاؤميّة السوداويّة، يحاجج شوبنهاور أن إرضاء حاجاتنا وإشباعها سيقودنا باطّراد إلى الشعور بالملل، والذي سيتلوه بزوغ حاجاتٍ طازجةٍ تدفعنا إلى شعورٍ عميقٍ بالخواء لدرجة ينضح فيها الضجر من مسامنا:

«الإنسان هو مركّبٌ قوامه الحاجة، حاجةٌ ليس بالمقدور إشباعها. فإن أُشبِعَت رغباته، سيضمن حينها خلوّ قلبه من الآلام ولن يجد أمامه إلّا الضجر لينام في أحضانه. وبما أن الملل هو النتيجة الحتميّة لافتقار الحياة لأيّ معنى، فذلك بيّنةٌ مُحكَمةٌ على أن الوجود هو حالةٌ لا معقولية فيها ولا قيمة. فعلى سبيل المثال، لو أن الحياة -وهي توقٌ يصوغ وجودنا ويشكّله- انطوت على أيما قيمةٍ حقيقيّة وصادقة، فلا مبرر عندها للشعور بالسّأم والفراغ، فالوجود بحدّ ذاته سيسدّ كل نقائصنا ويمنحنا بعضًا من الرضى. لكنّ وجودنا لن يكون بهيجًا ما لم نسعى في أعقاب أشياء أخرى ليست في متناولنا، أو في قطع مسافاتٍ والتغلّب على عقبات، ومن ثم تتبدّى لنا الرغبة بوصفها نقصًا سيمنحنا إشباعه قليلًا من الرضى والسكينة. وهو وهمٌ سرعان ما يتلاشى عند قضاء رغباتنا. حتّى اللّذة الجسديّة ليست إلا سعيًا مطّردًا لإرضاء الحاجات على جناح السرعة. وحالما نتنصّل من دائرتنا الأبديّة في اجتراح النقص وسدّه، واتّجهنا، عوضًا عن ذلك، للتأمّل في الوجود نفسه، سنؤمن عندئذٍ بمدى فراغه وتفاهته، وهذا ما ندعوه بالسأم».

كان شوبنهاور، بطبيعة الحال، حِرفيًّا بارعًا وصنعته هي التشاؤم. وليس على المرء أن يبارِك هذا الجنوح الكئيب ليلقى نفسه في قلبِ الجوهر اللامع للحكمة الشاحبة لفكر شوبنهاور. إذ كتبت «آني ديلارد- Annie Dillard» في تبصّراتها الوضّاحة حول تقديم الأفضليّة للوجود على الإنتاجيّة، أنّ الإشباع الجسديّ والرضى الروحيّ أمران في غاية الاختلاف. فالرضى الروحي في متناولنا وبالإمكان نواله، وعليه هو مرصودٌ للوقوع في بوتقة الملل. وفي سعينا لتحقيق الرضى الروحي، يغدو الملل رفيقًا وليس عدوًّا، فركيزته الجموديّة الحتمية تردّنا عن سعينا القهريّ المحموم لتأدية المهام، وتُحيلنا إلى حالةٍ آنيّةٍ من الوجود الصّرف.

فالتر بنيامين: «السّأم هو أوجُ السلام الفكري»

في كتابه الذي لا غِنى عنه «إضاءات: مقالاتٌ وتأمّلات»، يبحث الفيلسوف الألمانيّ والمنظِّر الثقافيّ «فالتر بنيامين- Walter Benjamin» في الدور الذي يلعبه الملل في سياق تأمّله الفلسفيّ لوظيفة الرواية في الفصل بين الحصافة والثّقافة.
يناقش بنيامين أنّ قيامة عصر المعلومات قد عجَّلت من أفول نجم الرواية القصصيّة. ويدعو مَقتنا لشعور الملل ب «آفةٍّ محفوفةٍ بالمخاطر» من آفات العصر.
وقبل نصف قرنٍ من تفشّي جرثومة عصر المعلومات، حذّر بنيامين من مثالب هذا السَقَم الروحيّ، قائلًا:

«لا من أمرٍ يستدعي حكايةً ما إلى نافذةِ الذاكرة أكثر من اكتنازها بالعفّة والبراءة، ما يقف عائقًا أمام محاولات التحليل النفسي. وعندما يكفّ القاصّ/ راوي الحكاية عن تغطيتها بعباءاتٍ وحِلَل فلسفيّة وسايكولوجيّة، تعظُم ذريعةُ الحكاية في المطالبة بمُقامٍ لها في ذاكرة المستمع. وحينئذٍ، ستكون أقرب إلى تجربة المستمِع الحياتيّة وأكثر التصاقًا بها، ومعها ستتعاظم رغبته في تلاوةِ القصّة على مسامعِ شخصٍ آخر يومًا ما، عاجلًا أم آجلًا.

هذا الأسلوب في الإدغام والتشبيه، الذي يجري على صعيدٍ معمَّقٍ في قرارة النفس، يتطلّب شيئًا من التلطيف والتخفيف. فإن كان النوم هو أوجَ السّلام البدني، فالسّأم هو أوجُ السّلام الفكري. الملل طائرٌ رائع الجمال يضع بيضةً تدعى «الحِنكة»؛ طائرٌ قد يدفعه صوت هسهسة الأوراق إلى الرحيل. الملل طائرٌ يبني أعشاشه في زوايا انقرضت من المدن وفي طريقها إلى الاندحار من الريف أيضًا. ومعهم قد ضاعت نعمةُ الإصغاء، وتلاشى مجتمع المُنصِتين. تلاوةُ القصص هي فنُّ ترديد الحكايات، وهو فنٌّ مهدور ما لم تُستَبقَ هذه الحكايات في الذاكرة. هي فنٌّ مهدور؛ وذلك لانقراض متعة نسج الأحداث وغزلها أثناء الإنصات إلى الحكاية، وكلّما تنصّل المُنصِت من ذاتيّته وأناه ونسيهما، دُمغَت الحكاية في ذاكرته وحُفرَت في وجدانه إلى الأبد. وعندما يُؤخَذ المستمع بجماليّة الوزن الشعريّ، فإنّه يصغي إلى الأقصوصة بطريقةٍ تغدو معها تجربة روايتها وتشارُكها مع الآخرين، تغدو هديةً ونِعمة.

إذن، هذه هي جَبلة النسيج الذي تنامُ في حِضنه نِعمة تلاوة القصص. وهكذا نشهَد، في عصرنا الحالي، انحلال أواصِرها بعد أن كانت مجدولةً بإحكامٍ لقرونَ خلَت، في جوٍّ من أعرق أشكال الإبداع».

برتراند راسل: «الرتابةُ الخلّاقة»

في كلاسيكيّته «الفوز بالسّعادة»، انكبَّ الفيلسوف البريطاني «برتراند راسل- Bertrand Russell»، برؤيته الفَطِنة التي اشتهر بها، على دراسةِ إشكاليّة الملل، والسببِ الكامن وراء رهبتنا في حَضرته، ومقتِنا إيّاه الذي تحوَّل إلى جرحٍ نُلحقه بذواتنا، ولمَ في سعينا لاستبعاده من حياتنا نسلُبها بعض المَلَكات الجوهريّة.

في فصلٍ بعنوان «الضّجر والإثارة»، كتب راسل:
«نحن أقلُّ ميلًا إلى الشعور بالضّجر من أجدادنا، لكننا نفوقهم تخوّفًا منه. فقد توارَد إلى أذهاننا، أو بالأحرى إلى دخيلتنا الإيمانيّة، أن ليس المللُ من نصيب البشر بالفطرة، وبالإمكان تفاديه بسعيٍ محمومٍ إلى نوال الإثارة».
يطرح راسل ملحوظةً في مكانها الملائم حيالَ الروتين الاستهلاكيّ القائم على فلسفة اللّذة، الذي أضحى خصلةً متأصِّلةً في نفوسنا، وآليةً مكرورةً عقيمةً في محاولةٍ للفرار من حضرة السّأم، إذ يكتب:

«مع ارتقائنا في مرتبات السُّلّم الاجتماعيّ، تصبح محاولاتنا في السعي لنوال الإثارة أكثر عنفًا وكثافةً. والذين يقدرون على مُجاراتها، يتنقّلون من مكانٍ إلى آخر في عودٍ أبديّ، حاملين معهم في رحلتهم الفرح والمرح والصّخب والرقص، ويتوقّعون، لسببٍ ما، أنهم سيستمتعون بتكرار الممارسات نفسها مع اختلاف المكان. بالنسبة للذين يتحتّم عليهم العمل لكسب قوت يومهم، فينالون حصّتهم اليوميّة من الضجر، بالضرورة، أثناء ساعات العمل. أمّا من يمتلكون ما يكفي من المال ليشتروا حريّتهم ويتخلّصوا من حاجتهم إلى العمل، فإنّهم يَحظون، وفقًا لتصوّرهم، بحياةٍ خلوًّا من السأم. إنّه تصوّرٌ نبيلٌ لا شك، وأنا أبعد ما يكون عن استنكاره أو إدانته، بيد أنّي وجِلٌ، أنّ هذا التصوّر، ككلِّ المثاليّات، صعب التحقيق أكثر مما يظنّه المثاليون.

بالنتيجة، ستكون بعض الصباحات مملّةً كما كانت الأمسيات التي سبقتها مسليّةً وممتعة. وسينحدر العمر بالإنسان إلى غياهب الكهولة. فيظنّ الشاب في عمر العشرين أنّ عجلة الحياة ستتوقّف إبّان عمر الثلاثين. وليس من الحكمة بمكان، أن ينفق المرء سنين عمره كما ينفق رأس ماله. ولربّما كان بعض السأم مقوِّمًا جوهريًّا من مقوّمات الحياة. وأمنيتنا في الابتعاد عن الملل قدر الإمكان أمنيةٌ مبرَّرةٌ وطبيعيّة، فكلّ الأعراق الإنسانية قد أبدتها عندما سنحت لها الفرصة. كلّ الحروب والاضطهاد والمنهجيّات كانت شكلًا من أشكال الفرار هربًا من الملل. وحتّى المناوشات مع الجيران أفضل، وفقًا لمنظورنا، من الجلوس دونما حراك. وعليه، فالملل معضلةٌ جسيمةٌ وجوهريّة بالنسبة للفيلسوف الأخلاقيّ/ Moralist، بما أنّ معظم خطايا الجنس البشري قد اجتُرِحَت جرّاء الخوف من الملل».

بيدَ أن راسل يعترف بالوَجاهة الجوهريّة لهذه الحالة الموغلة في الشناعة، موجزًا صنفين من أصناف الملل:
«لا ينبغي النظر إلى الملل بوصفه بلاءً بأسره. فثمّة نوعان من الملل؛ أحدهما خصيبٌ والآخر سفيه. ينبثق أولهما من غياب الكساد، وينبثق الثاني من غياب الحيويّة».
يحذِّر راسل من أن فرارنا المسعور من مواجهةِ الضّجر سيؤدي إلى علاقةٍ إشكاليّة بمفهوم الإثارة. فمن جهة، قد أصبحنا مدمنين على الإثارة، وبنفس الوقت، نحن غير منيعين أمام آثارها الجانبية:

«ما ينطبق على المسكّنات، ينطبق أيضًا، إلى حدٍّ ما، على الإثارة والتشويق. فحياةٌ تصخب بالإثارة هي حياةٌ مُتعِبة ومرهقة، نحتاج فيها على الدوام إلى جرعةٍ أعلى من الإثارة والتّحفيز تمنح نوعًا من الحماسة التي يُعتقَد أنّها جزءٌ أصيلٌ من مفهوم الحياة البهيجة. فشخصٌ معتادٌ على جرعاتٍ عاليةٍ من الإثارة هو أشبه بشخصٍ يعاني اشتهاءً مرضيًّا للفلفل، ليصل به الأمر إلى تعاطي كميّةٍ منه تكفي ليختنق بها أي شخصٍ سواه. قد يترافق الملل مع تجنُّبنا الإغراق في الانغماس بالإثارة. فالانغماس في الإثارة يقوّض العافية، ويبلِّد الذائقة لأيّ ضربٍ من ضروب البهجة، مستعيضًا بدغدغةٍ بسيطة عن إشباعٍ أساسيٍّ بيلغ، وبشطارةٍ رثّة عن ألمعيّةٍ حصيفة، وبمفاجآت ملتوية عن الرونق والفتنة. فمُقاساة السّأم، إلى درجةٍ معيّنة، ضرورةٌ من ضرورات تشييد حياةٍ سعيدة. الملل هو أحد المناقب التي ينبغي تعليمها للشباب الصّغار».

تحصِّن تنمية هذه البراعة الجوهريّة في قلب الطفل مناعته النفسيّة عند البلوغ. وقبل عصر «الآيباد»، الذي يُمرَّر اليوم من يدٍ إلى أخرى في مجتمعٍ من اليُفَّع الضّجرين حدَّ السُّخط، كتب راسل:

«القدرة على الصّبر في حياةٍ روتينية أحادية الوتيرة، هي مَلَكةٌ ينبغي اكتسابها في سني الطفولة المبكّرة. ويقع اللوم على الآباء في زمننا المعاصر؛ فهم لا يدركون، في إتاحتهم لأولادهم العديد من وسائل اللهو السكونيّ، مدى أهميّة أن يحظى الطفل بحياةٍ روتينيّةٍ رتيبةٍ متشابهة الأيام».

ويحثُّ راسل الآباء على إتاحة المجال الفسيح لبنونهم ليذوقوا طعم «الرتابة الخلّاقة»، التي تستجلب الإبداع والخفّة الابتكاريّة. وفي قولٍ آخر، تكمن البهجة الطفوليّة العظمى وأبلغ إنجازات الطفولة في «الترفّع عن أيّ فعلٍ مع أيٍّ كان، والجلوس في وحدةٍ وخلوةٍ مع الذات». إذ يتابع راسل:
«تكمن طلاوة سنيّ الطفولة وطربها، بالأساس، في السبل التي يقطِّر فيها الطفل إبداعه. فالبهجة، على الرغم مما تحمله من متعةٍ وخفّة، تفتقر إلى الإرهاق البدنيّ كارتياد المسرح مثلًا. وعليه، لا يجب للبهجة أن تحدث إلا لمامًا. فالإثارة مخدِّرٌ تسكينيّ، سنطلب منه المزيد والمزيد. وسكونيّتنا الجسديّة أثناء تعرُّضنا لمصدر المتعة هو نقيض الفطرة السليمة. يترعرع الطفل وينمو بأفضل الصور حينما يُترَك، كنبتة، مزروعًا في تربته الأصل هادئًا ورائقًا. فالإكثار من الأسفار والتنويعات ليس بالأمر الذي تُحمَد عُقباه، وستدفع الطفل، عندما يكبر، إلى الهرب خوفًا من مواجهة الروتين والرتابة التي قد تكون أصل الإبداع. لا أعني أنّ للرتابة فضائلُ جمّة، لكن ما عنيته، أنّ بعض الأمور أو الممارسات لن تجلب الخير ما لم تتّسم ببعض الرتابة.

والجيل الذي يفرُّ خوفًا من الملل هو جيلٌ من صغار النفوس، رجالٌ منبوذون على نحوٍ غير ملائم من جنّة البطاءة، رجالٌ تذبل في قلوبهم أيّة نزوةٍ أو نزعة كورودٍ مبتورةٍ ومرصوفةٍ في مزهرية!»

آندريه تاركوفسكي: «الملل فضيلةً»

يُعَدّ المخرجُ والكاتب الروسي «آندريه تاركوفسكي– Andrei Tarkovsky» أحد أبرز القامات الثقافيّة وأكثرها تأثيرًا في تاريخ السينما. فقد كان تاركوفسكي بالنسبة للمخرج السويديّ، العظيم بدوره، «إنغمار بيرغمان- Ingmar Bergman» المخرج الأعظم، إذ يقول في مديحه:
«لقد ابتكر تاركوفسكي لغةً شعريّةً سينمائيّة تخصّه وحده».

تناقش أفلام تاركوفسكي حيثيّات الحياة الأكثر تواضعًا وبساطةً، وفي نفس الوقت أكثرها إبهامًا وبلاغةً.
وفي هذا المقتطف من فيلمٍ وثائقي، يستعرض تاركوفسكي فضائل الوحدة، والملل بوصفه اقتضاءً حتميًّا:
«ما الذي تودّ لو تخبره للناس؟

لا أدري، أعتقد أنّي أودّ إخبارهم عن أهمية إدراك فضائل الوحدة، وقضاء أكبر وقتٍ ممكن مُختلين بذواتهم. أرى أن إحدى إشكاليّات عصرنا هي محاولة الشباب اجتراح تجمّعاتٍ صاخبةٍ ووحشيّةٍ في بعض الأحيان. فهذه الرغبة في رفقة الحشود لدرء شعور الوحشة هي أمَارةٌ مؤسِفة، من وجهة نظري. إذ على كلّ إنسانٍ أن يتعلّم، منذ نعومة أظفاره، كيف يستمتع بصحبة ذاته. وهذا لا يعني بالضرورة أنّه سيكون مهجورًا ومتوحّدًا، بل يعني أنّه يجب ألّا يملَّ صحبة نفسه. لأنّ من يملّون صحبة أنفسهم هم أناسٌ في مهلكةٍ موبِقةٍ على صعيد احترامهم لذواتهم!»

آدم فيليبس: «نِعمة الملل»

للأطفال طرائقهم في طرحِ أبسط الأسئلة وأعمقها على الصّعيد الوجوديّ. ويناقش المحلّل النفسيّ البريطاني المشهور «آدم فيليبس- Adam Phillips» السؤال الحتمي: «ما الذي يتحتّم علينا فعله الآن؟».

ففي كتابه المُعنوَن «مقالاتٌ تحليليّة حول حياةٍ غير مرئيّة»، يخصّص، للإجابة عن السؤال أعلاه، فصلًا بعنوان «نِعمة الملل»، ويكتب:
«يستحضر كلّ راشدٍ أحاسيس بَرَمه العميق في أيّام طفولته. فحياة كلّ طفلٍ مرقومةٌ بتمائم وفتراتٍ من الضّجر. فالّضجر حالةٌ من تشوّقٍ لا-نهائيّ تُستَهلُّ فيه الأحداث لكنّها لا تحدث حقًّا. حالةٌ من الجزع المنتشر الذي ينطوي في سريرته على أكثر الأماني عبثيّةً: الحنين إلى بُغيةٍ ما».

نُشِرَت أعمال فيليبس قبل أكثر من عقدين على بزوغ ثورة الإتصالات التي تمخّضت عن الشبكة الاجتماعيّة الموجودة في كلّ مكانٍ اليوم. ما يمنح حجّة فيليبس بعدًا مثيرًا، إذ تُعدّ القدرة على الاصطبار على محنة الملل -ليس عند الأطفال فحسب، بل عند الراشدين أيضًا- وسط زمننا المعاصر القائم على التوازن بين الملل والإثارة، تعدّ واجبًا جوهريّا. من الجدير بنا الوقوف عند هذه الفكرة والتفكّر فيها، وذلك مع الأخذ بعين الاعتبار الواجب التنمويّ لشعور السّأم في نحت طينتنا النفسيّة. إذ يكتب فيليبس:

«في حقيقة الأمر، الملل أسلوبٌ متداعٍ يبقى فيه الطفل منتظرًا لحدثٍ ما وباحثًا عنه. حالةٌ عقيمةٌ يغدو فيها الأمل موضع نقاش. يبحث الطفل، في التباسٍ أعمى وانفعاليّ، عن نوعٍ من الفراغ المتتابع يقدر من خلاله بلورة رغباته. فالقدرة على الاصطبار على محنة الملل هي إنجازٌ إنمائيٌّ في حياة الطفل».

ومع ذلك، يبعث الضّجر المتراكم في مرحلة الطفولة نوعًا من التّبكيت وخيبة الأمل في مرحلة الرشد؛ تهمةً بالفشل ووصمة عارٍ تُلصَق بشعور الضجر. وما يخفّف هذه التّهمة في عصرنا، بعد مرور عقدين على كلام فيليبس، هو إعطاء الطفل هاتفًا ذكيًّا وبرامج ترفيهيّة طيلة اليوم!
نتعامل مع الملل كما نتعامل مع الطفولة بحدّ ذاتها. أي بوصفه مرحلةً نكبر لنتخطّاها، عوضًا عن رؤيته بوصفه شكلًا من أشكال الوجود؛ شكلًا جوهريًّا بطبيعة الأمر. إذ يكتب فيليبس:

«كثيرًا ما يُقابَل إحساس الطفل بالسأم باستنكارٍ مُربِك، إذ ينحو الأهل إلى صرفه عن ملله وكأنّهم قد اتّخذوا قرارًا ضمنيًّا في أن تكون حياة طفلهم ممتعةً وشيّقةً على الدوام. إنّها أكثر مطالب الأهل طغيانًا واستبدادًا؛ في أن يشعر الطفل بالإثارة على الدوام عوضًا عن البحث عمّا يثيره على عاتقه. فالملل هو حالةٌ تكامليّةٌ مع حياةٍ تأخذ فيها كلّ الأمور وقتها في الحدوث».

سوزان سونتاغ: «الملل مسألة ترفٍ ورفاهيّة»

استخدمَتِ الكاتبة والمصوّرة الأمريكيّة «سوزان سونتاغ- Susan Sontag» مذكّراتها طريقةً في توثيق قراءاتها الأدبية، التي كانت جامعةً ومستفيضةً ونهِمة. فقد قرأت يوميًّا ما يقارب العشر ساعات. لقد جمعت بمعرفتها الجبّارة وذكائها الحصيف، قطفًا من أفكار صادفتها أثناء القراءة، ومنها أفكارُ كلٍّ من كيركيغارد وشوبنهاور وبنيامين. أشارت لأفكارهم في مذكّراتها وعجنت أفكارهم بأفكارها الذاتيّة لتخرج بحصيلةٍ ثقافيّةٍ وفكريّة على جانبٍ بليغٍ من الأهميّة، وهذه هي مهمّة الفكر الخلّاق.

في تدوينةٍ لسونتاغ من كتابها «حول تحويل الرّوح إلى جسد: كرّاساتٌ ويوميّات»، دفينتها التي جادت علينا بقبسٍ من رؤية سونتاغ للحبّ والفن والكتابة والأقوال المأثورة، تستعرض سونتاغ في تدوينتها تلك نظرتها في السريرة الإبداعيّة للملل بوصفه شكلًا من أشكال المبالاة وإعارة الانتباه:
«فحوى رسالة الملل باطلٌ وصالحٌ في نفس الوقت. يضعه «آرثر شوبنهاور»، أوّل الكتّاب الذين شرّحوا أفهوم الملل، يضعه في مصافي الألم بوصفه الوجه المؤذي الشرير الآخر للحياة -يقصد الألم والسأم-: «ألمٌ للفقراء، وسأمٌ للموسورين، إنّها مسألة ترفٍ ورفاهيّة».
يقول الناس: «هذا العمل الفنيّ يبعث على الملل»، وكأنه حكمٌ قاطعٌ مبرَم. فمن غير المقبول أن يبعث عملٌ فنيٌّ الملل في نفوسنا. بيد أن معظم أشكال الفن المهمّة في عصرنا مملة؛ قراءة أعمال «صمويل بيكيت» مملة!

وربما ينبغي على الفن أن يتّسم بالرتابة وأن يكون مملًّا. لكنّ ذلك لا يعني أنّ كلّ فنٍّ مملٍّ هو فنٌّ جيّد بالضرورة. لا ينبغي أن نطالب الفن، عل الأقل الفنّ الرفيع الراقي، بإمتاعنا والتّسرية عنّا.
الملل هو شكلٌ من أشكال الاهتمام والاكتراث. نكتسب حاليًّا طرقًا جديدةً في إعارة الانتباه، فمثلًا نولي اليوم للإصغاء اهتمامًا أكبر من الرؤية، بالإضافة إلى دمجها مع الصورة القديمة لإعارة الانتباه، أي أنّنا نبحث في قلب العمل الفني عن الرسالة التي يتوخّى إيصالها: عند الإصغاء، نبحث عن الفحوى والمدلول وليس الصوت.
فإن اعترانا السّأم بعد تكرار جملةٍ بعينها أو تشكيلاتٍ بصريّةٍ معينة في نصٍّ أدبيّ أو فيلمٍ سينمائي، ينبغي عندئذٍ أن نسأل هل نحن نولي العمل ما يكفي من الاهتمام، أو الشكل الأنسب من الاهتمام؟ أو ربما كان ينبغي علينا مقاربة العمل الفني على صعيديّ المدلول والمحتوى في نفس الوقت».

ريناتا آدلر: «كلُّ مَلولٍ ديكتاتور»

بما أن الملل لازمةٌ أساسيّة للحياة الإنسانيّة، فلا ينبغي لاستجلائه أن ينحصر في قوقعة الواقعيّة والمحاضرات الإبستيمولوجيّة فحسب، بل ينبغي أن يُدرَس على صعيدٍ روائيٍّ حياتيّ وعلى جانبٍ عامرٍ بالحيوية. وفي روايتها «القارب السريع»، تستخلص الروائية والناقدة «ريناتا آدلر- Renata Adler» مبادلةً تفارقيّةً بين السّأم ونقيضه: الاكتراث. إذ تقول:

«ليست من الجلي بمكان ماهيّة الملل. إذ تنطوي ماهيته على نوعٍ من الديمومة، فمن غير المنطقي أن أقول: لقد شعرت بالضجر لثلاث دقائقٍ من الزمن!

ينطوي الملل على نفورٍ ولا-مبالاة، ويتطلّب في نفس الوقت بعضًا من الاكتراث. فلا يسعُنا الشعور بالملل أمام شيءٍ لم نُعِره ما يكفي من اهتمامنا، أو كنّا في حالةٍ من السبات أو النوم. لكن، ما أعرفه تمام المعرفة، أو ما أظنّ أنّي أعرفه على أيّة حال، أن وحدهم الكسولون من الناس والفارغون من يشعرون بالملل. ومن يشعر بالملل إنسانٌ عديم الرحمة. وليس من الصدفة بمكان أن يكون الملل والقسوة هما الظاهرتان الأكثر انتشارًا في عصرنا الحالي. فمنبعهما الفكريّ واحد؛ بؤرةٌ من فراغ الروح تصدِّر السّأم والقسوة!»

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: سلمى عصام الدين

اترك تعليقا