تجاربنا الدينية في عالم لاديني… قراءة في نظريات العلمنة

إن الإرث النظري للعلوم الاجتماعية الذي تراكم حول الدِّين جد خصبٍ ومتنوعٍ، حيث لا نجد مؤرخ، أو عالم نفس، أو أنثروبولوجي، أو عالم اجتماع معتبر إلا وله إسهام في هذا الباب، لذلك ليس عبثًا قول الفرنسي بيير بورديو :”لقد كان الدين هو الموضوع الأول لعلم الاجتماع”(1)، وذلك لما له من قدرة توليدية للسلوك ومن تأثير هائل على ضمائر الأفراد (2). بالتالي فضخامة هذا الإنتاج تعجزنا عن كتابة مختصر تركيبي له، لذلك فإننا نفضل عرض إسهامات رواد هذه العلوم في أهم نظرية في سوسيولوجيا الدين وهي “نظرية العلمنة” La théorie de la sécularisation التي لها  قدرة على توحيد شتات تراث العلوم الإنسانية حول الدين، إذ معظم إسهامات العلماء والباحثين تعود بشكل أو بآخر لتجد جذورها في هذه النظرية، من جهة أخرى اعتبارًا لأهمية هذه النظرية في تفسير الديناميات الدينية التي تعرفها مختلف المجتمعات خصوصًا الغربية. ثم لما لظاهرة العلمنة من نشاط كذلك في المجتمعات المعاصرة بما في ذلك مجتمعات شمال إفريقيا والشرق الأوسط حيث يوجد المجتمع المغربي. فما هي العلمنة كنظرية سوسيو-تاريخية وكظاهرة اجتماعية؟ وكيف لها أن تساعدنا في فهم بعض التغيرات الدينية في المجتمعات المعاصرة أنَّا وجدت؟.

العلمنة. في ضبط المفهوم

من منطلق اهتمام شخصي بـ ظاهرة، ونظرية، ومفهوم العلمنة والعلمانية، أستطيع أن أقول بأن المغاربة -وغيرهم من أهل المنطقة- لم يسيئوا فهم مصطلح قدر إساءتهم فهم مصطلح العلمانية، بل يميل بي الاعتقاد إلى أن سوء فهم العلمانية في منطقتنا هو في حد ذاته ظاهرة تستحق الدراسة. تجنبًا لهذا المأزق ارتأينا أنه من الضروري تقديم تحديدات منهجية أولية لتوضيح ما المقصود بالعلمنة والعلمانية بالضبط.

إن أول شيء يجب ملاحظته هو أن العلمانية مصطلح متعدد الدلالات، ولتمييز هذه الدلالات والتفريق بينها نجد في اللغات الأوربية غنى معجمي في الكلمات التي تصف شيئين مختلفين لهما علاقة بهذا الشأن، هما: “La Laïcité” و “La Sécularisation”، لذلك يفهم الأوربيون أن المصطلح الأول لا يتطابق في دلالته مع المصطلح الثاني. إلا أننا بالعودة إلى اللغة العربية لا نجد سوى كلمة “علمانية”، حيث تُستعمل للإشارة إلى كلمة “Laïcité” وفي نفس الوقت تستعمل كمقابل لـ”Sécularisation” (3أ)، وهذا فيه خبط وتخليط يضفي إبهامًا و تغبيشًا للرؤية و تعويصًا في فهم كلا المصطلحين بالنسبة للناطق بالعربية حصرًا. ذلك يعود إلى أن هذه اللغة حتى الآن لا تتوفر على كلمة تقابل لفظة “Sécularisation” في الفرنسية، أو “Secularisation” في الإنجليزية، أو “Entzauberung” في الألمانية.

لهذا نجد إدماج و خلط عجيب لكلا المصطلحين في استعمال و فهم الإنسان العربي المسلم لهما. فكما سيأتي بيانه يمكن أن يوجد مجتمع معلمن (Sécularisée) لكن لا توجد فيه لائكية (Pas Laïcisée)، مثل المجتمع المغربي. كما يمكن أن يشهد المجتمع اللائكية دون أن يتعلمن (النموذج التركي في بداياته الأتاتوركية). إذ أن هذا التمييز يشق فهمه على الكثير من الناس، وهو مصدر كل المشتبهات التي ترد على مفهوم وظاهرة العلمنة والعلمانية كواقع معاش.

كي أتقدم في الحديث أجدني مضطر إلى ترجمة كل من “Laïcité” و”Sécularisation”، حتى لا تتشوش الرؤية على من يقرأ هذه السطور. يمكن أن نُعرِّب (لا أن نترجم) كلمة La laïcité بـ”اللائكية”، من جهة أخرى يمكن نستعمل كلمة “عَلمنة” كمقابل لـ”Sécularisation”. فما المقصود بهذين اللفظين أو المصطلحين؟.
لعل أهم باحث يمكن أن يساعنا لتحديد دلالة هذه المصطلحات هو طلال أسد حيث يعد الرجل من أهم المتخصصين في أنثروبولوجيا العلمنة في العقود الأخيرة. إذ يميز البروفسور أسد بين ثلاثة مصطلحات هما:

إعلان

“Le séculier” أي العلماني، وهو بالنسبة إليه فئة أو مقولة إبستيمولوجية «Epistcmic category» تتضمن فهمًا للعالم والإنسان والتاريخ مختلفًا عن فهم المقولات اللاهوتية لهذه الموضوعات (4).

ثانيا: “Le sécularisme” أي اللائكية، وهي مبدأ قانوني سياسي يقتضي فصل الدولة عن المؤسسة الدينية، وليس عن الدين في حد ذاته (5).

ثم أخيرًا «La sécularisation» أي “العَلمنة”، وهي سيرورة تاريخية عرفتها المجتمعات الغربية في سياقها تحول الدين من حقل يهيكل كل الحقول الاجتماعية الأخرى ويتحكم فيها، إلى حقل مستقل كغيره من الحقول الأخرى لا يتحكم و لا يضبط أي حقل غيره، أي لا يبقى الدين حَاكمًا و مهيكلًا للمجتمعات في إطار هذه السيرورة التاريخية(6). في شأن تفسير هذه الأخيرة، سوف تنبثق نظرية في سوسيولوجيا الدين تسمى”نظرية العلمنة “La théorie de la sécularisation (7أ).

لقد مرت هذه النظرية بعدة تحولات يمكن وصفها بالجذرية، إلى درجة أنها أصبحت تشير إلى نقيض ما كانت تتنبأ به قبل حوالي قرن. لذلك فإن جهازها النظري وفق تقديرنا قد تأثر بجيلين من المنظرين، كل منهما له منظوره الخاص وتحليلاته المميزة للديناميات الدينية. فمن هما هذين الجيلين؟ وكيف أثرت مقارباتهم في تحليلات نظرية العلمنة؟.

الجيل الأول: الدين في طريقه إلى الإنقراض

إن الجيل الأول من منظري نظرية العلمنة قد كانوا مُنخرطين في تحليلات ماكرو-سوسيولوجيا مرتبطة أكثر بباراديغم شمولي، ما عدى ماكس فيبر إلى حد ما كما سيأتي بيانه. من جهة أخرى كان هؤلاء المنظرون امتدادًا لـ«ثقافة عصر الأنوار»، الذي اعتبِره الكثير من فلاسفته ومؤرخيه ومثقفيه بشكل عام أن الدين أُنتج في مرحلة تاريخية خاصة، وسيختفي مع تقدم البشرية، أي مع تقدم التاريخ. ولعل موقف هيغل هو الأبرز في هذا الصدد، حيث اعتبر الرجل الدين (وبالتخصيص المسيحية): “قائمًا على السيطرة، ويعامل الإنسان كطفل ليفرضَ عليه من الخارج ما ليس متضمّنًا في مبادئ عقله” (8أ). بالتالي فإن وعي الأنوار ينفك عن اعتبار “أن الحاجة الملحّة للإنسان هي أن يكون حرًا، أي ألا يتلقى من أحد سواه قاعدة فعله” (9). إذا علمنا أنّ من جملة الأشياء -حسب هيغل- التي تقيد حرية البشر وتفرض عليهم قاعدة السلوك من خارج ذواتهم: هي الدين، أدركنا أنّ نقده يهدف إلى تجاوز جملة من الأشياء، من ضمنها الدّين. هكذا اعتبر الرجل أن: “المسيحية الثيولوجية الطقوسية قد أصبحت تمارس استلابًا على المؤمنين بها، وأنّ التحرر منها هو السبيل نحو أوربا جديدة” (10). بالتالي حسب فيلسوفنا فإن التاريخ يتقدم بشكل حتمي، إذا كان الدين يعارض شرط هذا التقدم وهو الحرية، فإن حتمية التقدم تتحول إلى حتمية تجاوز الدين، وهكذا فإن مستقبل هذا الأخير عنوانه التراجع أو الأفول (Le crépuscule).

غني عن البيان بأن أول سوسيولوجي خلَّص موضوع علم الاجتماع من مثاليته ودفعه نحو العلمية، وهو كارل ماركس قد كان “هيغيليًا” خالصًا. هو الآخر في كتابه “أطروحات حول فيورباخ” سيعتبر أن الدين ناتج عن كونه: انعكاسًا تخيّليًّا في العقل الإنساني للقوى الخارجية التي تحكم العالم اليومي للإنسان، وليس فقط للقوى الطبيعية التي تبقى آليتها مجهولة (11).

وهي القاعدة التي انطلقت منها كل فلسفات عصر الأنوار وما بعده في مقاربتها للدين، سواء كانت فلسفية، أو تاريخية، أو سوسيولوجية، أو أنثروبولوجية. غير أن لماركس زيادة راديكالية عمن سبقوه، فإذا كان هيغل وفيورباخ تساءلا عن كيف تحوَّل الأنثروبولوجي (إنسان) إلى لاهوتي (إله)، فإن ماركس -بحسه الجذري- بحث عن الشروط التاريخية والاجتماعية والسياسية التي تخلق الحاجة إلى الإيمان، أي تساءل عن الأسباب التي تحرك واقعًا ما حتى ينتج وعيًا مغلوطًا. لذلك اقترح الرجل أننا بمعرفتنا لهذه الأسباب وتدميرها سوف يختفي الدين (12). حيث يظهر الدين في النصوص الماركسية “ليس كواقعة مستقلة الوجود، وإنما يُنظر إليه باعتباره منتوجا لظروف اجتماعية خاصة” (13)، فإذا تغيرت هذه الظروف في اتجاه شكل جديد من التفكير مستغنيًا عن الدين، فإن هذا الأخير سوف ينقرض. ذلك لأن الحاجة إليه التي كانت تفرزها مرحلة تاريخية معينة، لن تستمر المراحل التاريخية المستقبلية في إنتاجها، هكذا لن يبقى للدين أي مبرر للوجود، وعليه يختفي.

أوجست كونت هو الآخر سوسيولوجيته لا تقل تأثرًا بفكر الأنوار  سواء عن متقدميه أو اللاحقين عليه. ففي تأمله لتاريخ المعرفة الإنسانية قسّم كونت التاريخ إلى ثلاثة مراحل:

  1. الأولى هي “المرحلة الأسطورية” أين كان الإنسان يحاول فهم نفسه والعالم من حوله من خلال اختلاق قصص وسرديات مقدسة تتضمن أجوبة عن أسئلة الإنسان الوجودية. ثم سيُقبل اللوغوس (Logos) ومعه ستحلُّ المرحلة الثانية.
  2. “المرحلة الفلسفية/ الميتافيزيقية، أين سيصبح الإنسان يفكر بواسطة تشييد مبادئ فكرية متعالية عن الواقع المادي، في هذا السياق سوف يظهر ويتطور الدين واللاهوت الذين أسسا لأزمة لن تُحل إلا بقدوم مرحلة جديدة.
  3. المرحلة الثالثة “الوضعية/ العلمية”. في هذه المرحلة التاريخية سوف ينتقل الإنسان إلى التفكير بطريقة تتأسس لا على ابتكار أُحجيات أسطورية، ولا على بناء مبادئ عقلية ميتافيزيقية، وإنما سيفكر الإنسان ي بطريقة وضعية، أي مرتبطة بالواقع المادي، بمعنى سيصبح تفكيره معتمدًا على التجربة.

وكما هو الحال مع كل المتخصصين في العلوم الاجتماعية فإن “كل قواعد تنظيم الحياة البشرية داخل المجتمع من اللازم تواجدها في محتوى الظواهر الدينية، فدراسة الديني متعذرة إذا انفصلت عن الاجتماعي، كون الواحد متواجدًا في حضن الآخر” (14)، بناءً على ذلك فإن كونت اعتقد بأن استخراج قواعد تنظيم جديدة للحياة الاجتماعية اعتمادًا على الفكر والثقافة الوضعية الجديدة، سوف يؤدي إلى انقراض الدين، ما دام المجتمع الوضعي الحديث لن يبقى متوقفًا عليه في تنظيم شؤونه السياسية والاقتصادية والقانونية وكذا الأخلاقية. إذ يوجد الدين في المجتمع لأنه يلعب دورًا ويؤدي وظيفة، غير أنه في الوقت الذي سيصبح فيه الدين غير قادر على لعب هذا الدور، سوف يطويه التاريخ ويتجاوزه المجتمع.

بالرغم من أهمية المنظرين السابقين إلا أن ماكس فيبر  يبقى أهم عالم اجتماع أديان، كما يبقى إسهامه في نظرية العلمنة هو المرجع، إلى حد أن هذه النظرية سوف تقترن بإسمه. كتب الرجل في هذا الحقل أكثر من كتاب منهجي ودراسة تنظيرية، حيث يعتبر كتابه “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية” الصادر سنة 1905م واحدًا من أهم كتب علم الأديان على الإطلاق. فعلى عكس ما كان يعتقد ماركس بأن البنية الفوقية التي ينتمي لها الدين دائمًا موجهة من طرف البنية التحتية أي الاقتصاد، أكد فيبر العكس في هذا الكتاب حيث اعتبر الرأسمالية وهي أبرز وجوه الاقتصاد الحديث، ناتجة -بالإضافة إلى عوامل أخرى- عن تطور الأخلاق الزهدية البروتستانتية في أوربا (15).

ولتعميق البحث درس فيبر مذهب الكالفينيين الذين ينتمون لنفس المذهب، فوجد بأن البروتستانتية تعتبر أن نجاح العبد في الدنيا علامة على رضى الله وعلى نجاحه في الآخرة، وبالتالي يسعى البروتستانتي إلى عيش حياة مكرسة للعمل بغرض نيل الجنة، وهو ما يتسبب في مراكمة عائدات مادية سنة بعد أخرى؛ إلى أن تؤسس رأس مال معتبر، ما يعد عملًا مطلوبًا من طرف الله وعلامة على رضاه عند البروتستانتي (16). بذلك فإن هذه الطهرية الكالفينية حسب فيبر هي من ستولد عقلية الربح والفائدة اللذين يعتبران أهم سمات الرأسمالية (17). وبالتالي تظهر هنا سمة أخرى للدِّين لم تكتشفها الماركسية والوضعية، وهي بدل اعتبار الدين عاملًا يشد المجتمع إلى الخلف متسببًا في جموده، بين فيبر أن الدين في بعض السياقات التاريخية إنما يتصدر طليعة عوامل التغير الاجتماعي. إذا كان الأمر كذلك فكيف للدين أن يتراجع وأن ينحصر؟.

بالنسبة إليه فإن العقلنة والبيروقراطية والتخصص (la spécialisation) التي تلزم عن تطور المجتمعات الرأسمالية الحديثة، سوف تتطور بوتيرة متسارعة حيث ستخترق كل ميادين الحياة الاجتماعية، مولدة بذلك سيرورة مثيرة يسميها فيبر نزع السحر عن العالم “Le désenchantement du monde” (أ18) . إن تطور هذه السيرورة سيصل إلى مرحلة يصبح فيها المجتمع “قفصًا حديديًا” (Un cage d’acier) خالي من الدين وأشكال التفكير اللاعقلانية واللاواقعية (19)، بل خاليًا حتى من التفكير الفردي، إذ كل فعل -من وجهة نظر عقلانية وبيروقراطية محضة- يحدد بقاعدة مضبوطة لا تترك للفرد هامشًا للتفكير أو للتصرف بطريقة ارتجالية بديلة، فهو مجرد مُطبق، إنه آلة مُبرمجة. هذا المنظور قد جعل محللي أعمال فيبر يعتبرون تصوره للمجتمعات الحديثة خصيمًا للحرية، ونافيًا للفرد لا مؤكدًا لذاتيته (20). هكذا، يظهر مرة أخرى أن فيبر كغيره من السوسيولوجيين الذين سبقوه لا يفصل مصير الدين عن مصير التنظيم الإجتماعي وكيفية قيادة الحياة فيه (21)، إذ ما إن يحدث تغير في هذا الأخير باتجاه غير اعتمادي على شريعة اللاهوت، إلا ويضمحل الدين ويتراجع بشكل كبير، لكن دون أن يختفي كليًا. إذا كان الأمر كذلك فكيف سيستمر وجود الدين في المستقبل؟.

سيستمر وجود الدين في المجتمعات الحديثة حسب ماكس فيبر، لكن فقط في إطار شخصي، أو سيبقى وجوده مقتصرًا على تنشيط الحياة الروحية لجماعات صغيرة محدودة، إنه سيتحول إلى “دين لطيف” (la religion in pianissimo) كما كتب الرجل (22). بذلك فإن التقاليد الدينية لن تستمر كأساس للمجتمع المعاصر سياسيًا وقانونيًا واقتصاديًا، بل حتى أخلاقيًا.

ربط الدين بالتنظيم الاجتماعي، ثم ربط دينامياته بالديناميات الاجتماعية، هي قاعدة سوسيولوجا الدين التي انطلق منها إميل دوركايهم كذلك، بل إنه قد بالغ بالنسبة للبعض في رد كل ما هو إنساني وثقافي إلى ما هو اجتماعي، بما في ذلك آليات الفهم وبناء المعرفة، فما اعتبره ديكارت فطريًا في العقل، وما رد كانط هويته إلى مبادئ قبلية، إنما أصله اجتماعي عند دوركايهم (23). فبما أن الرجل كان يبحث عن الكيفيات التي يخلق من خلالها مجموعة من الناس مجتمعًا، فإنه بحث عما يجمع الأفراد و يبث فيهم الشعور بانتمائهم إلى بعضهم البعض، إذ ليس المجتمع تجمعًا بشريًا بل إنه: “قبل كل شيء أفكار، معتقدات، ومشاعر مشتركة” (24)، في هذا الإطار أطرَّ الفرنسي وظيفة الدين، فمن أين تأتي هذه المعتقدات و المشاعر المشتركة بين أفراد المجتمع الواحد؟

بالنسبة لـ دوركايهم، كل مجتمع يحتاج إلى تنظيم كي يقوم ويستمر، وهذا الأخير يقتضي وجود نظام أخلاقي مكون من قيم ومعايير وقواعد خاصة، أي مُنتقاة بدقة، الشيء الذي يحتاج بدوره إلى “نظام تصنيف” (Un Système de Classification) يبرر لماذا هذه القاعدة وليس تلك (25). هنا بالذات سوف ينشأ “المقدس” (Le sacré) كسلطة تشرعن انتقاء هذه القيمة وليس تلك، وهذا المعيار بالذات وليس ذاك، لماذا عشيرتنا تتبع هذا النمط من العيش والأكل واللباس، وليس نمطًا آخر؟ الجواب هو أن مقدسنا هو من حدد لنا ذلك. من جهة أخرى كمقابل لعالم المقدس سوف يلزم عنه لزومًا قيام “عالم الأرضي” (Le profane)، حيث يقبع ما ليس مقدسًا (أو لم يُقدس بعد)، إنه عالم الحياة اليومية الذي يقابل عالم ما-فوق اليومي Le super-quotidien، إذ تكمن وظيفته في رسم حدود الفضاء أو المجال الذي يمارس فيه الأفراد ما يفرضه عليهم المقدس، أو يأمرهم باجتنابه.

هكذا فكل الناس يعيشون في عالم أرضي، إلا أن نمط هذه الحياة يحدده المقدس، بذلك فإن الدين ليس “سوى نسقا مُتعاضدا من المعتقدات والممارسات المرتبطة بأشياء مقدسة، أي منفصلة و مُحرمة عن الأشياء الأرضية، والتي توحد جميع من يعتنقونها ضمن جماعة أخلاقية تسمى كنيسة” (26). حيث يتحقق التواصل بين العالمين من خلال طقوس كالصلاة، أو تقديم قرابين للكائنات المقدسة، أو كرنفالات للرقص، يصفها دوركايهم بأنها “توصل الفرد إلى حد الإهتياج” (27).

إن المعتقدات الدينية تبث في الأفراد شعورًا بانتماء مشترك إلى متخيل مقدس، هذا الإنتماء المشترك إلى عالم مافوق- يومي هو الذي يخلق عواطفًا وهويةً ووعيًا مشتركًا بالإنتماء إلى جماعة تعيش في العالم اليومي، إذ بدون الإنتماء إلى العالم الأول لا يتيسر تحقق الإنتماء إلى الثاني، ومن جهة أخرى فإن العالم الأول (المقدس) لا يوجد إلا إذا أوجد العالم الثاني الحاجة إليه (الأرضي). بهذه الطريقة “تكون العلاقة فرد- مجتمع، هي أصل العلاقة مؤمن-إله” (28)، بذلك يغدو المجتمع في نظر أعضائه بمنزلة الإله لدى المؤمنين به (29). فكما يعاقب المجتمع أعضائه المنحرفين، فتلك أيضا خطة الإله في التعامل مع المعتقدين به، ومن جهة أخرى فكما يشعر الفرد بالطمأنينة وسط مجتمعه، فنفس الشعور يتلبس المؤمن حينما يستحضر الإله الذي يؤمن به، الشيء الذي يقوي الصلة بين الفرد والمجتمع، ثم صلة المؤمن بإلهه. نستنتج من كل هذا، أن الدين وسيلة المجتمع المفضلة، لضمان أقصى درجات خضوع الأفراد إلى معاييره وقيمه.

تأسيسًا على ما ذكرناه، يبدو بأن الدين هو الركيزة الأساسية للمجتمع، إذن فكيف لهذا الأخير أن يستمر من دون دين؟ إلى جوار ألكسيس دوتوكفيل، يبقى إميل دوركايهم من السوسيولوجيين القلائل الذين لم يقولوا بالإنقراض كمصير ومستقبل للدين، ذلك أن الرجل اعتبر الدين “فيه شيء من الأبدية” (30). رغم أنه اعتقد أن “الآلهة القديمة قد شاخت أو ماتت، بما في ذلك الإله اليهودي والمسيحي” (31)، إلا أن “الآلهة الجديدة لم تولد بعد” (32). بذلك يظهر أن دوركايهم يميز بين الدين بما هو شعور وميل إنساني نحو المطلق إذ يتصور أنه أبدي، ثم شكل تاريخي ما للدين، حيث يرى الرجل أن هذا الأخير هو ما يمكن أن ينقرض، وليس الدين في حد ذاته، أي أن ما يمكن أن يموت إذا ما تجاوزته حركية المجتمع هو فقط الشكل التقليدي للدين. في هذا الإطار، يلاحظ دوركايهم أن الدين المسيحي في شكله الكاثوليكي في فرنسا قد “أخذ يتضائل بشكل واسع” (33)، ذلك جراء العلمنة التي خضع لها هذا المجتمع، وتتمثل في التمايز الإجتماعي الذي عرفته حقوله، بالإضافة إلى تقسيم العمل، والإعتماد المتزايد على التفكير العلمي (34)، ففي الوقت الذي كان فيه الدين في المجتمعات القديمة يشمل كل أشكال الحياة الإجتماعية، إلى درجة أن “كل ما هو اجتماعي كان يعد دينيًا، حد ترادف المصطلحين. ثم شيئًا فشيئًا تحررت الوظائف العلمية والإقتصادية ثم السياسة من التوجيه الديني، وتشكلت منفصلة عنها واتخذت طابعًا زمانيًا أي علمانيًا ما يفتئ يبرز يوما بعد يوم” (35).

مع ذلك فإذا كانت الأديان التقليدية قد ماتت أو في طريقها إلى الموت حسب وجهة نظر دوركايهم، إلا أن المجتمعات الحديثة المتطورة سوف تنتج أديانها الخاصة بنمط ثقافتها، والمواتية لمقاييس عقلانيتها (36). وبه يكون مصير الدين كشعور إنساني وكحاجة اجتماعي، هو التجدد وليس الإنقراض التام.

الجيل الثاني: عودة الديني وبروز الفرد كبؤرة للتدين.

ستعرف سنوات الستينات والسبعينات ما كانت تستبعده نظرية العلمنة وتتنبأ بتراجعه، لقد شهدت المجتمعات شرقية وغربية في هذه العقود بشكل دراماتيكي ما يسمى بـ”عودة الديني” (Le retour du religieux)، والمثير هو أن هذه العودة تحققت في شكل أصوليات دينية جماعاتية بل “أصوليات عشائرية” حتى (37). في هذا الإطار سوف توجه سهام النقد إلى نظرية العلمنة، وستبث الشكوك في صلاحيات تحليلاتها وتنبؤاتها، إلى درجة أن السوسيولوجي الأمريكي Jeffrey Hadden سيصرح بأن: “العلمنة إنما هي أقرب إلى خليط من الأفكار غير المترابطة، منه إلى نظرية منهجية” (38)، بل يضيف بأنها “حكم آيديولوجي ضد الدين” (39). تحت هذه الموجة من النقد والنقض الموجه للنظرية، سوف تتحول إلى “نظريات محلية” خاصة بحالات مخصوصة كما يشير أوليفييه تشانون عوض نظرية جامعة مانعة تعمم على كل المجتمعات (40)، أكثر من ذلك ستتحول إلى مجرد “نموذج تفسيري” غير قابل للتعميم على كل المجتمعات.

في هذا السياق سوف يبرز “الجيل الثاني” من منظري هذه النظرية، الذي انخرط في إعادة قراءة للسوسيولوجيا الكلاسيكية التي كانت تعتمد في معظمها على براديغمات شمولية وعلى تحليلات ماكرو-سوسيولوجية. غير أن هذا الجيل من المنظرين سوف يعتمد أكثر على تحليلات ميكرو-سوسيولوجية، وبالتالي أكثر تمحورًا حول الأفراد.

يمكن أن نؤرخ لبدأ بروز هذا الجيل بـسنة 1967 التي صدر فيها كتابين مهمين يتخذان كموضوع للتحليل علاقة التحديث بالدين في المجتمعات المعاصرة. صدر الأول بـعنوان “الدين اللامرئي” The Invisible Religion ، وهو لـطوماس لوكمان Thomas Lukmann (41أ)، أما الثاني فهو لبيتر برغر Peter L. Berger بعنوان: “المضلة المقدسة The Sacred Canopy” (42أ). يلاحظ الرجلان في كلا الكتابين بأن الدين إلى حدود العقد السادس من القرن 20 لم تبدو عليه أي أعراض للإنقراض، بل إنه قد ازدهر وأصبح أكثر حيوية، حيث يقول بيتر برغر في هذا الصدد: “ليس ما يميز الحداثة هو غياب الإله، بل تعدد الآلهة” (43). من جهة أخرى أشار لوكمان إلى تحول جوهري قد وقع في بنية الإعتقاد الديني جراء التحديث والعلمنة، هذا التغير يتمثل في تراجع المجتمع كسلطة تحدد وتفرض شكلًا ما من الإيمان على الأفراد، عوض ذلك يسجل “بروز الفرد” كذات تختار عناصر نمط حياتها، وعلى رأسها شكل الإيمان، هذا ما سيؤدي حسب لوكمان إلى استفحال “الفردانية الدينية” كظاهرة بارزة في المجتمعات الغربية(44) .

أما عن «نيكولاس لوهمان Niklas Luhmann» الألماني، فإنه قد شدد على كون العلمنة تتمثل بشكل أساسي في “التمايز الإجتماعي الوظيفي” la différenciation sociale fonctionnelle، الذي بموجبه لا يبقى المجتمع مكثفًا في بنية واحدة، أو مهيكلًا من طرف حقل واحد كالدين، بل تتمايز هذه الحقول مكونة منطق اشتغالها الخاص بها، كل حقل على حدة. بذلك لا يبقى مثلا الدين هو من يحدد الحقيقة العلمية وإنما العلماء، كذلك لا يصبح النظام السياسي هو من يحدد الحقيقة الدينية –كما حدث في بعض الفترات من تاريخ الأديان- إنما اللاهوتيون، كذلك لا يبقى من يحدد قواعد اشتغال السوق هم رجال الدين، وإنما رجال الإقتصاد. هكذا يتحول الدين إلى حقل اجتماعي لا تستطيع عقائده حكم وضبط باقي الحقول الإجتماعية، هذا بالضبط ما يجسد العلمنة، إذ لا يعني هذا أي سير للدين باتجاه الإنقراض أو التراجع، بل المسألة تتعلق فقط بتغير في الوظيفة الإجتماعية للدين، فإذا كانت وظيفته في الماضي تتمثل في هندسة وتنظيم المجتمع بشكل شامل، عبر توفير نسق من القيم والمعايير والقوانين والمشاعر المشتركة، فإن دوره اليوم قد أصبح أكثر ارتباطًا بالجانب الروحي وليس بالجانب المادي التنظيمي (45).

جراء هذا المستوى العالي من التمايز الاجتماعي حيث لا يستمر الدين في تأدية وظيفة تنظيمية شاملة، سوف يعرف هذا الأخير حسب ما أشار إليه الأمريكي طوماس لوكمان (وليس الألماني لوهمان) تغيرًا لم يشهد له مثيلٌ في التاريخ، ويتمثل في “التخصخص الديني” La privatisation du religieux، وهو سمة للعلمنة لم يقل بها أي سوسيولوجي من منظري الجيل الأول، حيث عوض انقراض الدين فإنه يتخصخص تبعًا لتجارب حياة الأفراد، وتحت ضغط سيرورة التمايز الإجتماعي المتسارعة (46).

رغم ذلك، فإن “الخصخصة” كمؤشر للعلمنة تعرضت لنقد شديد خصوصًا من طرف الأمريكي خوسي كازانوفا José Casanova، فبالنسبة إليه نظرية العلمنة تتأسس على 3 أطروحات، الأولى تتعلق بـ“التمايز الوظيفي لقطاعات المجتمع” (47). الثانية تفيد بأن الدين “يتخصخص” في سياق العولمة (48)، ثم “ينقرض” كأطروحة ثالثة (49). بالنسبة إليه الأطروحة الأولى تبقى مقبولة وواقعية، أما أطروحة الإنقراض قد ضحدها ما يسمى بعودة الدين منذ الستينات. أما لضحد أطروحة “الخصخصة”، فقد أخضع الرجل المسألة إلى تحقيق إمبريقي، نتج عنه أحد أهم كتبه وكذلك أحد أهم مراجع سوسيولوجيا الدين في القرن 20م، وهو مؤلفه “الأديان العامة في العالم الحديث” (Public religions in the modern world)، حيث يثبت بأن الدين لا يتخصخص –كما زعم طوماس لوكمان- بل إنه “يتعمم ويلعب بنشاط أدوارًا عامة” (50). هذا ما حدا بهذا السوسيولوجي اللاهوتي إلى استعمال مصطلح “اللاتخصخص”  (La déprivatisation) لوصف الديناميات التي يشهدها الدين في سياق العلمنة، حيث يقصد به بالتحديد أن: “التقاليد الدينية في كل العالم، لم تعد تقبل الدور الهامشي والمخصخص الذي خصَّته به نظرية العلمنة والحداثة” (51). الشيء الذي يبرز الإختلاف الذي يصل حد التناقض بين علماء الإجتماع، عندما يتعلق الأمر بالمؤشرات الدالة على العلمنة، وعلى آثارها السوسيو-دينية.

الشيء المهم عند كازانوفا هو إقراره لسيرورة التمايز الوظيفي لقطاعات المجتمع، حيث لا يبقى الدين منظمًا شموليًا لهذا الأخير. إن هذا الضمور لوظيفة الدين التنظيمية، هو ما يدعوه “مارسيل غوشي Marcel Gauchet” بـ «الخروج من الدين»، أي “الخروج من نمط وجود إنساني” دأبت عليه معظم المجتمعات الإنسانية تاريخيًا، حيث كان يُحدد وينظم طبقًا لما يصدر عن “الآخر”، أي الإله أو المقدس (52). عوض ذلك أصبحت “المجتمعات الإنسانية تُعرف من منطلق ذاتها، وتضع ما يبرر أنشطتها من منطلق ذاتها هي” (53). هكذا فـ”الإنسان كان قد انفصل عن ذاته بسبب الآخر/الإله، إلا أنه قد عاد إليها، حيث أصبح ذاتا “Il devient sujet” (54أ).

هكذا فإن الانتقال إلى الفردانية من وجهة نظر غوشي هو مؤشر يؤكد الدخول في عهد جديد غير ديني، يقول:“إن الدخول في عهد الفردانية، بشكل عميق يعني الخروج من عهد الدين” (55). لكن هذه النهاية لشكل تاريخي للدين، لا تعني بأي حال نهاية الإعتقاد الديني (56)، بل إن هذا الأخير سيستمر في أشكال جديدة لا علاقة لها بالدين كمنظم بنيوي للمجتمع، هكذا “سيستمر الديني لكن في تجاوز للدين” Le religieux après la religion (إ57).

“عودة الذات” هذه ستؤدي إلى “فردنة الدين” كما تشير Danièle Hervieu-Léger، حيث سيصبح الإعتقاد محددًا وفق مقاييس الذات وليس وفق مقاييس الجماعة (58). ونظرًا إلى أن الحداثة تخلف عند الإنسان “عدم يقين وجودي” (59)، فإن الأفراد يتجهون نحو “ترقيع (Bricoler) أنظمة معنى صغيرة خاصة بكل ذات على حدة” (60)، دون الحاجة إلى طلب موافقة أي مؤسسة سواء كانت دينية أو سياسية، إذ تشير في هذا السياق هذه السوسيولوجية البارزة أن أحد أوضح سمات علمنة الإعتقاد الديني هو “عدم خضوعه إلى أي مؤسسة دينية” (61) ، ما به ينزع الطابع المؤسسي “désinstitutionnalisation”وبالتالي الرسمي على الدين (62). هذا ما سيخلق ميلًا إعتقاديًا فريدًا في المجتمعات الغربية، تسميه ليجي بـ”إعادة التكوُّن الفردي للدين”  (La recomposition individuelle du croire)، حيث تُطور الذات “نظامًا للمصادقة الذاتية على الإيمان والإعتقاد “Un régime d’auto-validation du croire” (إ63)، ينتج عن ذلك أن “الدين لا يبقى مرجعية مشتركة” (64)، بل يتحول إلى مرجعية ذاتية غير ملزمة سوى لصاحبها.

مادام الاعتقاد الديني لم يعد يخضع لمعايير المجتمع، ولا لمقاييس جماعة حراس الحقيقة الدينية كرجال الدين، بل لم يعد يطيع سوى ميولات الذات، فهذا قد أدى إلى تعدد التجارب الدينية تبعًا لتعدد الذوات، الشيء الذي خلق “تعددية دينية” –غير مفروضة من طرف الدولة- لم تشهد لها المجتمعات الدينية التاريخية نظيرًا، بذلك فـ”لم يعد الإيمان بالإله هو الاختيار الوحيد، وإنما هو اختيار من ضمن عدة اختيارات أخرى متنوعة” متاحة أمام الفرد، هذا ما يمثل عند الكندي تشالز تايلور Charles Taylor أحد أهم مظاهر العلمنة وآثارها على الدين في المجتمعات الحديثة (65). حيث لم يعد الدين دوغما غير قابلة للنقاش ومفروضة على الفرد، بل صار الإيمان موضوعًا لاختيار حر قابل للمناقشة، والتبني بل الإرتداد إذا شاءت الذات، فهو إمكانية منفتحة على الإحتمال والتغير والإستبدال والتعديل.
هكذا تحت تأثير سيرورة العلمنة سيتم الانتقال من التمركز حول الإله والجماعة، إلى “التمركز حول الإنسان L’anthropocentrique” (أ66) ، الذي أصبح المعنى والتنظيم يصدر عن ذاته، لا عن ذات متعالية بالضرورة. بذلك لا يبقى الإله هو صانع المعنى الوحيد في سياق العلمنة، بل تبرز الذات كمُبدعة لمعنى حياتها بشكل مركزي.

هكذا في نهاية المطاف فإن الدين يتحول إلى جزء من نمط حياة فردي، لا علاقة له بالمؤسسات الإجتماعية الموكول إليها تنظيم أو ضبط الحياة الإجتماعية. فعلًا هذا ما يشدد عليه الإيطالي لويغي بغزانو Luigi Berzano، الذي أطلق مؤخرا وصف “العلمنة الرابعة The Fourth Secularisation” (67أ) على الشكل الأحدث الذي اتخذه الدين في سياق سيرورة العلمنة المعاصرة. حسب وجهة نظر الرجل فإن أهم أثر للعلمنة الرابعة على الدين يتجسد في تحوله إلى “نمط حياة مستقل Autonomy of lifestyle” (68أ)، هذا نتيجة استقلال عملية تنظيم المجتمع عن الأوامر التي تصدر عن العالم المقدس، الشيء الذي يفسح المجال إلى تحرر الذات، حيث يتوسع هامش فعل الإنسان عوض توسع هامش فعل المتعالي عن الإنسان، وفي أثر ذلك “يتحرر الدين من طابعه الجماعي”، ويلتصق أكثر بذوات فردية.

أخيرًا، وتأسيسًا على ما سبق، نستطيع أن نتبنى الفهم الذي يفيد بأن العلمانية تعني فقدان الدين القدرة على تنظيم المجتمع بشكل شمولي، لأن هذا الأخير يغدو معقدًا أكثر فأكثر كلما تعرض للتحديث والتمايز الاجتماعي. حيث يفرز كل يوم هذا التحديث والتمايز الوظيفي قطاعات ومجالات اجتماعية جديدة لا يعرف عنها الدين أي شيء، وبالتالي يضطر الإنسان (وليس الإله) إلى ابتكار قواعد تنظيمية جديدة لهذه القطاعات ولهذه الأشكال الجديدة للحياة الاجتماعية. هكذا فعندما لا يبقى الدين منظمًا اجتماعيًا، فإنه يتحول إلى نمط حياة فردي، يتعدد ويتنوع حسب تعدد وتنوع تجارب الذوات الفردية.

____________________________________
إحالات و مراجع:
(1) Bourdieu Pierre, (1984). "Questions de sociologie", Paris, Éditions de Minuit, p 49.
(2) Durkheim Émile, ([1914], 1970). "L'avenir de la religion", repris in "La science et l'action", Paris, Presses universitaires de France, p 309.
(3) El Ayadi Mohammed, Rachik Hassan, Tozy Mohamed , (2006). «L’ISLAM AU QUOTIDIEN; Enquête sur les valeurs et les pratiques religieuses au Maroc», .Casablanca, Editions Prologues, p 154.
(4) Asad Talal, (2003). «Formations of the Secular- Christianity, Islam and Modernity», Stanford California, Stanford University Press, p 1.
(5) ibid.
(6) Ibid, p 205.
(7) Tschannen Olivier, (1992). «Les Théories de la Sécularisation», Paris, Genève, librairie Droz S.A, p 45.
(a8) Hyppolite Jean (1983), «Introduction à la philosophie de l'histoire de Hegel», Paris, Seuil.(9) Ibid, p 44.
(10) أمزيل حاتم، (2017). "العلمانية في الفلسفة المعاصرة"، مختبر الدراسات الرشدية، فاس، ط1، ص 60-61.
(11) Meslin Michel, (1973). "Pour une science des religions", Paris, Seuil.
(12) Willaime Jean-Paul, (2010). "Sociologie des religions", Que sais-je ? Paris, PUF, Presses Universitaires de France, p 6-8.
(13) هرفي ليجي دانييل، فيليم جون بول، (2018). "سوسيولوجيا الدين- مقاربات كلاسيكية"، ترجمة يوسف الطاهر الصديق، هيئة البحرين للثقافة و الآثار، المنامة، ط1، ص 19.
(14) Meslin, op.cit: 73-74
(15) Weber Max, ([1905], 2015). «l’Ethique protestante et esprit du capitalisme», traduction de Jacques Chavy, Paris, POKET/ Plon, Collection AGORA.
(16) Ibid, p 210.
(17) Ibid, 262.
(18) Weber Max, (1996). «Sociologie des religions», traduction de Jean pierre Grossein, Paris, Galimard, p 380.
(19) Baum Gregory, (1996). «L’avenir de la religion: entre Durkheim et Weber», Nouvelles pratiques sociales, N09, pp 11-112.
(20) Varikas Eleni, (2010). "MAX WEBER, LA CAGE D'ACIER ET LES DAMES", in Danielle Chabaud-Rychter et al., Sous les sciences sociales, le genre, La Découverte: «Hors collection Sciences Humaines», pp 376-377.
(21) Weber Max, (1996). «Sociologie des religions», op.cit, p 503.
(22) Baum Gregory, (1996). «L’avenir de la religion», op.cit, p 112.
(23) Durkheim Émile, ([1912], 1990). «Les formes élémentaires de la vie religieuse: Le système totémique en Australie», Paris, Quadrige PUF, Presses Universitaires de France, p 12-28.
(24) Durkheim Émile, ([1914], 1970). "L'avenir de la religion", repris in "La science et l'action", Paris, Presses universitaires de France, p 39.
(25) Durkheim Émile, Mauss Marcel, ([1903], 2017). «De quelques formes primitives de classification; Contribution à l'étude des représentations collectives», Paris, PUF, coll.Quadrige.
(26) Durkheim Émile, ([1912], 1990). «Les formes élémentaires de la vie religieuse: Le système totémique en Australie», Paris, Quadrige PUF, Presses Universitaires de France, p 65.
(27) Ibid, p 313.
(28) Steiner Philippe, (2005). «La sociologie de Durkheim», 4émé édition, Paris, La Découverte, p 85.
(29) هرفي ليجي دانييل، فيليم جون بول، (2018). "سوسيولوجيا الدين- مقاربات كلاسيكية"، سابق الذكر، ص 251.
(30) Durkheim Émile, ([1912], 1990). «Les formes élémentaires de la vie religieuse», op.cit, p 615.
(31) Durkheim Émile, ([1914], 1970). "L'avenir de la religion", op.cit, pp 611.
(32) Ibid.
(33) Durkheim Émile, (1922). «De la Division du Travail Social», 4 éd. Paris, Alean, p 144-143.
(34) هرفي ليجي دانييل، فيليم جون بول، (2018). "سوسيولوجيا الدين- مقاربات كلاسيكية"، سابق الذكر، ص 262.
(35) نفسه.
(36) Baum, op.cit, p 103.
(37) Maffesoli Michel, (2000). "Le temps des tribu, le déclin de l'individualisme dans les sociétés postmodernes", Paris, La Table Ronde.
(38) Tschannen Olivier, (1992). «Les Théories de la Sécularisation», op.cit, p 18.
(39) Ibid, p 69.
(40) Ibid.
(41) Luckmann Thomas, (1967). "The Invisible Religion: The Problem Of Religion In Modern Society", New York, Macmillan.
(42) Berger Peter L., (1967). "The Sacred Conopy: Elements Of a Sociological theory Of Religion", New York, Anchor Books.
(43) Peter L. Berger, (2008). "Secularization falsified", First Things, February 2008, 24.
(44) Luckmann Thomas, (1967). "The Invisible Religion", op.cit, pp 69-76.
(45) Luhmann Niklas, (2013). "A Systems Theory of Religion" Stanford, Stanford University Press.
(46) Luckmann Thomas, (1990). "Shrinking Transcendence, Expanding Religion", Sociology of Religion, Volume 51, Issue 2, p 132.
(47) Casanova José, (1994). «Public Religions in the Modern World», Chicago, University of Chicago Press, p 19.
(48) Ibid.
(49) Ibid, p 20.
(50) Casanova José, (1994). «Public Religions in the Modern World», op. cit.
(51) Ibid, p 5-6.
(52) Marcel Gauchet, (2003). «La condition historique», Paris, Stock, p 199.
(53) Ibid.
(54) Ibid.
(55) Marcel Gauchet, (1985). «Le désenchantement du monde», Paris, Gallimard (Folio essais), p 53.
(56) Ibid, p 9.
(57) Marcel Gauchet, Luc Ferry, (2004). «Le religieux après la religion», Paris, Grasset.
(58) Hervieu-Léger Danièle, (2010). «Le partage du croire religieux dans des sociétés d'individus», L'Année sociologique, vol. 60, no1, pp. 44-42.
(59) Hervieu-Léger Danièle, (1987). «Faut-il définir la religion? Questions préalables à la construction d'une sociologie de la modernité religieuse», in: Archives de sciences sociales des religions, n°63/1, Numéro du trentenaire, Les sciences sociales des religions aujourd'hui: jalons et questions, p 28.
(60) Ibid.
(61) Hervieu-Léger D., (1999). "Le Pèlerin et le converti. La religion en mouvement", Paris, Flammarion, p 42.
(62) Danièle Hervieu-Léger, (2010). «Le partage du croire religieux dans des sociétés d'individus», L'Année sociologique, vol. 60, no1, p 61.
(63) Ibid, p 52.
(64) Ibid, 51.
(65) Taylor Charles, (2007). «A Secular Age», Cambridge, Massachusetts and London, .England: The Belknap Press of Harvard University Press, p 3.
(66) Ibid, p 301.
(67) Berzano Luigi. (2019). «The Fourth Secularisation: Autonomy Of Individual Lifestyles», New York, Routledge.
(68) Ibid, p 54.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: مهدي جعفر

تدقيق لغوي: أمينة براهيمي

اترك تعليقا