المستقبل في الفلسفة الإفريقية

إنَّ مسألة المستقبل بصفةٍ عامة ومستقبل إفريقيا والفلسفة الإفريقية بصفةٍ خاصة من الموضوعات الجديرة بالاهتمام ويجب طرحها على السَّاحة الفِكْريَّة الآن.

فالمستقبل دائمًا هو الشُّغْل الشَّاغِل للبشريَّة في مختلف العُصُور وفي جميع الأزمان، فهو عامل رئيس لحَثّ الإنسان على التَّفكير والتحضير والترتيب لما هو آتٍ.

المستقبل في القرن الجديد

إنَّ تحدِّي القرن الحادي والعشرين للفلسفة الإفريقية هو تحدِّي التَّفكير المُبْتَكر والإبداعي وليس مشكلة المنهجيَّة، مسألة مستقبل الفلسفة الإفريقية موجودة ومستمرة، والدليل الواضح على استمرارها هو الانْشِغَال الحالي بمشكلة المنهجيَّة.

ومسألة المستقبل في الفلسفة الإفريقية ذريعة لتجنُّب تُهْمَة العُقم الفكريّ والغياب النسبيّ للتَّفكير الإبداعيّ في الفلسفة الإفريقية. وهذه المسألة سوف تختفي بمجرَّد أن يبدأ المفكِّرون الأفارقة في التحرُّر من الاعتماد على الفَلْسَفة العرقيَّة لإبراز الفِكْر الأسود عالميًّا في تفكيرٍ مُستقِّلٍ وإبداعيٍّ يسعى إلى الحصول على إجاباتٍ أصلية حول أسئلة الفَلْسَفة الأساسيَّة. فقد أصبحت الفَلْسَفة العرقيَّة هي التيار السَّاِئد في الفَلْسَفة الإفريقيَّة التي لم ينفصل عنها أي مُفكِّرٍ إفريقيٍّ حتى الآن بشكلٍ شاملٍ، الذي من المؤكَّد أن يستمر تأثيرها طالما أنَّ الفَلْسَفة الإفريقيَّة موجودة كتقليدٍ. هذا هو الحال، لأنَّ الفَلْسَفة العرقيَّة قد أثبتت نفسها كأساسٍ للفَلْسَفة الإفريقيَّة بالطريقة نفسها التي شَكَّل بها الفِكْر اليونانيّ المُبكِّر وأعمال أفلاطون وأرسطو أساس الفَلْسَفة الغربيَّة.

هناك احترام عميق للفَلْسَفة العرقيَّة ينبع من إدراك أنَّها حاولت توفير التَّفكير المنهجيّ والأصليّ على الرَّغْم من منظور القبيلة. كل تيارٍ آخر في الفلسفة الإفريقية يأخذ تأثيره من الفَلْسَفة الأثينيَّة. فَلْسَفة الحكيم أو الحكمة الفَلْسَفيَّة، والتَّفسير والتيار القوميّ، والتَّفكير التكميليّ ونظامي الخاص، وفَلْسَفة المواساة، إما تُعَارِض أو تُدَعِّم الفَلْسَفة العرقيَّة أو تسعى للبناء على مكاسبها، من خلال تشكيل نفسها كبرامجٍ بديلة بنَّاءة، حتى المُفكِّرين القوميين مثل سنجور ونكروما، الذين استخدموا الفَلْسَفة إلى حَدٍّ كبيرٍ كأداةٍ للبناء السياسيّ والعمل الاجتماعيّ وجدوا تأثيرهم في الفَلْسَفة العرقيَّة.

إعلان

ومما لا شَكّ فيه أن الفَلْسَفة الإفريقيَّة ستظل غير جذَّابةٍ حتى يتوقَّف المفكِّرون الأفراد عن التحدُّث باسم قبائلهم والبدء في التحدُّث عن أنفسهم. إنَّ مسألة المستقبل التي يتعيَّن على الحاضر أن يجيب عنها وأن يبدأ في الإجابة عنها الآن، هي مسألة كيف يمكننا أن نُفكِّر بشكلٍ مُبْتَكرٍ كأفرادٍ وليس كأعضاءٍ في المجموعات العرقيَّة. لقد حُسِمَت مسألة وجود الفَلْسَفة الإفريقيَّة بالتأكيد ولم تَعُد مسألة المنهجيَّة مسألة مهمة. السؤال الذي يبقى للفَلْسَفة الإفريقيَّة في القرن الحادي والعشرين، هو السؤال الصَّعب جدًا حول كيف يمكننا التَّفكير بشكلٍ مُبْتَكرٍ. (Agada. A. 2019. 379: 416)

وبما أنَّ مستقبل الفَلْسَفة في إفريقيا لم يكن منفصلًا عن مستقبل إفريقيا نفسها، بسبب الارتباط الوثيق بينهما، فهناك وجهات نظر مختلفة حول مسألة المستقبل، منها وجهة نظر الفيلسوف السنغاليّ الشيخ أنتا ديوب Cheikh Anta Diop، الذي يرى أن المستقبل لكي يتحقَّق يجب أن يكون بوسع الفلاسفة الأفارقة المُسلَّحين بماضيهم الثقافيّ والتاريخيّ، المُشَارَكة في بناء الفَلْسَفة الجديدة التي ستساعد الإنسان على التصالح مع نفسه، التي ستكون منطلقة بدرجةٍ كبيرةٍ من التلاحُم بين التَّفكير الفلسفيّ وبين العُلُوم (عبد القادر، عبدو، 2020، ص355).

إنَّ الروح العلميَّة تشمل كامل مجال إنتاج المعرفة في العُلُوم الدقيقة والعُلُوم الاجتماعيَّة والإنسانيَّات، وكذلك في العَالَم الروحيّ، وقد عكست فِكْرة التوافر المنطقيّ فَهْم العِلْم والثقافة والروحانيَّة على أنها تنتمي إلى عوالم مختلفة من المعرفة:  إحداها معني بدراسة الكَوْن (من أين أتينا)، والآخر معني بالثقافة (من هم ونحن)، وآخر معني باللاهُوت أو الدِّين (الروحانيَّة). وهذا يعني من منظورٍ أنتا ديوب أن الفَلْسَفة الكلاسيكيَّة كما روَّج لها أصحاب الأدب، قد ماتت. ومن ثَمَّ فإن الفلاسفة الجُدُد المُسلَّحين بمفهوم الاحتمال المنطقيّ يجب أن يُشكِّلوا فَلْسَفة مُتَكَامِلَة جديدة من شأنها أن تتغلَّب على انفصال العَالَم عن الفيلسوف، ومن ثَمَّ على المجتمع (Nabudere, D., P.30). إن ظهور مجموعة جديدة من العُلُوم الإنسانيَّة والاجتماعيَّة والفيزيائيَّة والطبيعيَّة الإفريقيَّة بات أمرًا ممكنًا، بناءً على أسسٍ أخلاقيَّة لسلوك الإنسان في الطبيعة، أخلاق جديدة تأخذ في الاعتبار المعرفة الموضوعيَّة، وسيساهم هذا التطوُّر في تقدُّم الضمير الأخلاقيّ للإنسانيَّة، تصور جديد للإنسانيَّة من دون تصوُّراتٍ عرقيَّة. (Diop, C., 1981, P.375).

وهناك وجهة نظر أخرى ناقشت المستقبل على نطاقٍ واسعٍ وفي موضوعاتٍ متعدِّدة، مُتَمثِّلة في الفيلسوف الكاميروني أشيل مبيمبي Achille Mbembe. فقد رأى أنَّ ما يحدث في إفريقيا سيكون له تأثير ليس فقط في إفريقيا في حَدّ ذاتها، وإنما سيؤثِّر في كوكبنا. فهناك إجماع ضمنيّ على أنَّ مصير الكوكب سينتهي إلى حَدٍّ كبير ٍفي إفريقيا. سيشكِّل التحوُّل العالميّ للمأزق الإفريقيّ الحدث الثقافيّ والفَلْسَفيّ الرئيس للقرن الحادي والعشرين، وسوف يأخذنا بعيدًا عن الأساطير الهيجليَّة.

يعتقد مبيمبي أنَّ هذا الانعطاف العالميّ هو نتيجة تحوُّل مفاهيميّ مستمر لم يكتمل بعد، هذا التحوُّل ينظر إلى إفريقيا تدريجيًّا على أنَّها المكان الذي يتعرَّض فيه مستقبل الكوكب للخطر. كما ينظر إلى مستقبل إفريقيا داخل القارة نفسها بشكلٍ متزايدٍ على أنه مليءٌ بالإمكانيَّات غير الواقعيَّة، والعوالِم المُحتَمَلة، والإمكانيَّات. فقد يعتقد الكثيرون أنَّه من خلال التَّنظيم الذَّاتيّ يمكننا في الواقع إنشاء عدد لا يُحصَى من نقاط التحوُّل التي قد تؤدِّي إلى تغييرات عميقة في الاتجاه الذي تتخذه القارة. وأخيرًا هناك مؤخَّرًا إجماع ضمنيّ، بين المؤسَّسات الماليَّة الدوليَّة والخبراء، على أن تُمثِّل إفريقيا آخر حدود الرأسماليَّة، وبالرَّغْم من وجود اختلاف في وجهات النظر في العنصر الثالث، فإنه يوجد أدلة تُدَعِمه، منها تسارع النبض الاقتصاديّ لإفريقيا في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وارتفاع الناتج المحليّ، فمن المُحْتَمل أن تُصبح إفريقيا مصدرًا مهمًا لزيادة الاستهلاك العالميّ (Mbembe, A., 2016, P.96).

ويعتقد مبيمبي أنَّ هناك سؤالين يطاردان معظم هذا القرن، الأوَّل هو مسألة مستقبل الحياة والحُرِّيَّة، والثاني مستقبل العقل.

مستقبل الحياة

لقد أدت التغيُّرات في البيئة العالميَّة المستمرة على المدي الطويل إلى زيادة تأثيرها، ومن الواضح أنها ستكون محور أي نقاشٍ حول مستقبل الحياة ومستقبل العقل، والاهتمام بها قد يجبرنا على التَّركيز والانتباه لبعض العمليَّات الضخمة، التي لها تأثير ساحق على ما قد تصبح البشرية والكوكب الذي نعيش فيه، التي وُصِفَت بالوحشيَّة (Mbembe, A., 2021, P.11). لفترةٍ طويلة كان الجنس البشريّ مهتمًا بكيفيَّة ظهور الحياة وتوزيعها المكانيّ وظروف تطوُّرها ومرونتها، اليوم أصبح هناك تغييرٌ واضح، إذ أُعِيدَ تشكيل السُّكَّان من خلال عِلْم تحسين النَّسل الليبراليّ الجديد. وبسبب النظام الجديد لتوزيع المواد الكيميائيَّة والمُغذّيات والمواد المُلوَّثة، لا تُقَلَّص الحياة فقط،، بل تُزَاح الحدود القديمة. وتؤدِّي الاستمراريَّة وعدم الانفصال بين الكائنات الحيَّة وبيئتها بسرعةٍ إلى ظهور بيولوجيا جديدة تمامًا لهذا العَالَم، بالإضافة إلى طرائق جديدة لتقسيم الأرض نفسها.

وبسبب الاكتشافات الحديثة في العُلُوم المختلفة والنتائج المُترتِّبة على تلك الاكتشافات، أدت إلى إعادة تقييم الفِكْرة السَّائدة عن البيئة الصالحة للسكن، وما مُتطلَّبات الحياة، باختصار البحث عن طرائق جديدة لتصوُّر الحياة، التي من المُحْتَمل أن تصبح حالة الكوكب الجديدة (Mbembe, A., 2021, P.14).

وعلى مدى العقد الماضي، طُوِرَت العديد من الأشكال الحسابيَّة للذكاء، إنَّ السمة الرئيسة لعصرنا هي مدى تنظيم جميع المجتمعات وَفْقًا للمبدأ الحسابيّ، فنحن محاطون بالحوسبة في كل مكانٍ والتقنيَّات التي تنسج نفسها في نسيج حياتنا اليوميَّة، فأصبحت هذه الأجهزة جزءًا من وجودنا في العَالَم طوال الوقت.

والنظام الحاسوبيّ عمومًا هو نظام تقنيّ وظيفته التقاط البيانات واستخراجها ومعالجتها تلقائيًّا، كما أنَّ الحوسبة قوة وطاقة من نوعٍ خاص، إذ تتصف بسرعة نظامها، كما أنَّ الحوسبة هي مؤسَّسة يُخْلَق من خلالها عالم مشترك وحس عام جديد وتشكيلات جديدة للقوة والإدراك والواقع. لقد أدى الجمع بين رأس المال وتشبُّع الحياة اليوميَّة بالتقنيَّات الرَّقْميَّة والحاسوبيَّة إلى تسريع وتكثيف الاتصالات، مما أدى إلى إعادة توزيعٍ جديدٍ للأراضي وحركة السُّكَّان، ومعنى ذلك أن تظل على قيد الحياة يعني بشكلٍ متزايد القدرة على الحركة بسرعة. في هذه الحالة نكون نحن البَشَر على مقربةٍ من بعضنا البعض، إلا أنَّ هذا القُرْب لم يكن هو الهدف في ظل الاتجاه نحو التحديد والانكماش. (Mbembe, A., 2021, P.17-21).
ولأنَّ هناك توترًا الآن بين الحُرَِّيَّة والأمن، لذلك أصبح الاهتمام اليوم بالأمن أكثر من الحُرِّيَّة، فمجتمع الأمن ليس بالضرورة مجتمع حُرِّيَّة. مجتمع الأمن دائمًا مجتمع خائف من المجهول، لذلك تكون الأولويَّة في مجتمع الأمن في تحديد ما يكمُن وراء كل وافدٍ جديد. (Mbembe, A., 2021, P.25-26).

مستقبل العنصريَّة

يري مبيمبي أيضًا أن العبوديَّة كانت تُسْتَعمَل دائمًا كمُكَمِلٍ لرأس المال، وأن الطبقة والعرق يشكلان تبادلياً، وأن صراع الطبقات لا ينفصل عن صراع الأعراق. واليوم هناك أنواع جديدة من العنصريَّة التي لم تَعُد بحاجةٍ إلى الارتكاز البيولوجيّ لشرعيَّة نفسها، إنما يمكنها أن تنادي بمطاردة الأجانب. في ظلِّ الأزمة الحالية في الغَرْب، يُشكِّل هذا النمط من العنصريَّة إضافة للنزعة الوطنيَّة، في الوقت الذي أفرغت العولمة الليبراليَّة الجديدة النزعة الوطنيَّة، بل والديمقراطيَّة ببساطةٍ من كل محتوى حقيقيّ، هذا من جهةٍ، ومن جهة أخرى، تؤكِّد التطوُّرات الحديثة في مجالات عِلْم الوراثة الفِكْرة القائلة بإن مصطلح العرق مصطلحٌ لا معنى له. (مبيمبي، أشيل، 2019، ص222).

إنَّ مفاهيم السَّوَاد والبياض والإفريقيَّة مفتوحة ومتعدِّدة، ولن يكفي مجرَّد النظر إلى التناقضات المحليَّة والعالميَّة في الماضي والحاضر.

ففي المستقبل نحتاج إلى ربط مشروع العنصريَّة بمشروع التبادليَّة البشريَّة بطرائقٍ جديدة. إنَّ الانفتاح على المستقبل والعَالَم سيُعرِّضنا للخطر في حالة فَصْل اللون الأسود عن القيم الأساسيَّة لدولةٍ ديمقراطيَّة ودستوريَّة. ويرى أنه على النقيض، سيتم تعزيزه إذا تمكَّن السُّود والبيض من تنشيط حلم المُصَالَحة العرقيَّة واعادة تنشيط التضامُن بين الأعراق كأساسٍ للمُمَارَسة السياسيَّة. كما أنَّ مهمة خَلْق الذَّات بالأبيض والأسود والتحوُّل الذَّاتيّ في هذه القارة لا تنفصل عن مشروع تجديد إفريقيا. يجب أن يظل جنوب وغَرْب إفريقيا منفتحًا على إفريقيا وشتاتها، بمعنى أن تحتضن إفريقيا جميع الاأفارقة في الشتات وأن تظل متصلة بعضها ببعض(Mbembe, A., 2021, P.16).

مستقبل العقل

هناك الكثيرون يدركون أنَّ إدراك العقل قد وصل إلى أقصى حدوده. كان يُنْظَر إلى العقل دائمًا على أنَّه أعلى مَلَكَات الإنسان، وهو الذي فتح الأبواب للمعرفة والحكمة والفضيلة، والأهم من ذلك الحُرِّيَّة. اليوم العقل هو قيَدْ التجريب، إذ إنَّه يُستَبدَل ويُصنَّف بشكلٍ متزايدٍ بواسطة العقلانيَّة الأداتيَّة. لم ثَعُد الدِّمَاغ البشريَّة هي الموقع المميز للعقل، إذ نُزِّلَت الدِّمَاغ البشريَّة في ماكينات، كما تم التنازل تدريجيًّا عن قدرٍ هائلٍ من القوَّة إلى التجريدات من جميع الأنواع. تُتَحَدَّى الأساليب القديمة من خلال أساليب تُنْشَأ من خلال التكنولوجيا وداخلها بشكلٍ عام والتقنيَّات الرَّقْميَّة بشكلٍ خاص. لقد جعل التكاثر الحسابيّ للعقل من ان العقل لم يعد مجرد مجال للنوع البشري، أصبح الآن نشاركه مع العديد من الفاعلين الآخرين، وأصبح تفسير الواقع يتم بشكلٍ متزايد من خلال الإحصاء والبيانات الوصفيَّة والرياضيَّات. أيضًا أصبح كثيرٌ من الناس يديرون ظهورهم للعقل لصالح أنماط أخرى من التعبير والإدراك، فهم يُطَالِبون بإعادة تأهيل العاطفة، في العديد من الصراعات السياسيَّة المستمرة في عصرنا. إن العقل كان سبب لمُحَارَبة الأسطورة والخرافات والظلام، فأين هو الآن بجانب الذكاء الصناعيّ. (Mbembe, A., 2021, P.27).

مستقبل العقل ارتبط بظهور الآلة الحسابيَّة وعصر الذكاء الصناعيّ، الذي كان له بالغ الأثر في الدور الذي كان يقوم به العقل في العمليَّات الإدراكيَّة والمعرفيَّة. وقد حَلَّ مكانه الآلات الحسابيَّة والنظام الرَّقْميّ، مما أثر بالسَّلب في مكانة العقل البشريّ في العصر الحديث والمُعَاصِر، ومن ثَمَّ يجب وضع قيود وحدود للاستخدام المُفْرِط للآلات الحسابيَّة على حساب العقل البشريّ.

مستقبل الديمقراطيَّة

يري مبيمبي أنَّ عصرنا الحالي سيشهد نهاية الديمقراطيَّة، إذ تحوَّلت الديمقراطيَّات إلى حصونٍ مؤمَّنة، في حالات الطوارئ الدائمة تخوض حربًا أماريتاصن وداريوش على الإرهاب، وتخلق الديمقراطيَّة عالمًا خاليًا من العَلاقات يقودها البحث المهوس عن العدو، وتتحوَّل المجتمعات الديمقراطيَّة إلى مجتمعات عداء، وفي ذلك تأكيد على الميل الديمقراطيّ للعُنْف والعداء، الذي يُعَدّ ظاهرة ليست بجديدةٍ، ومن تلك الصورة نجده مدافعًا عن زوال الديمقراطيَّة، لكن الزوال هذا مقرون بصوتٍ ديمقراطيٍّ، لأنه يرى في الديمقراطيَّة الأمل الوحيد في المستقبل، لذلك(Gadeke, 2018, P.502)، يعتقد مبيمبي أنَّ الديمقراطيَّة في جوهرها تُحَدِّد الحادث الأخلاقيّ على أساس الاعتراف بالآخر في تفرُّده. يتوقَّف مستقبل الديمقراطيَّة على مسألة كيفيِّة التعامل مع الآخر. وتتطلَّب إعادة قراءة التاريخ الذي يفترض أننا نتشارك التاريخ والمستقبل. (Gadeke, 2018, P.498).

يرفض مبيمبي الديمقراطيَّة بصورتها الحالية التي هي بمثابة استمراريَّة لماضٍ استعماريٍّ طويل، لذلك يدعو إلى تحوُّلٍ في الديمقراطيَّة، تحوُّل يعترف بالإنسانيَّة ككل.

إنَّ مستقبل إفريقيا يكمُن في التحدِّيات التي تواجهها والأساليب التي ستتبعها القارة من أجل مواجهة تلك التحدِّيات، ويمكن إيجاز ما دعا إليه مبيمي إفريقيا في النقاط التالية:

إعادة تأسيس التَّفكير النقديّ، أي التَّفكير الذي يعتقد بإمكانيَّة وجوده خارج نفسه، وإدراكه لحدود تفرُّده. تشير إعادة التأسيس هذه، أولًا إلى نزعةٍ معيَّنةٍ تؤكِّد الحُرِّيَّة الكليَّة للمجتمعات تجاه ماضيها ومستقبلها. المهمة اليوم هي تحويل الأفكار إلى أعمالٍ ثقافيَّة قادرة على تهيئة الأرض لممارساتٍ سياسيَّة مباشرة التي بدونها سنغلق المستقبل.

يتطلَّب اختراع تصوُّر جديد بديل للحياة والقوة على الكوكب تجديد التضامن الذي يتجاوز الانتماءات العشائريَّة والعرقيَّة، وتعبئة الموارد الدِّينيَّة لروحانيَّات الخلاص، توطيد مؤسَّسات المجتمع المدنيّ عبر الوطنيَّة، تطوير القدرة على الاحتشاد لا سيَّما في اتجاه الشتات.
إذا أراد الأفارقة الوقوف والمشي، يجب عليهم البحث في مكانٍ آخر غير أوروبا، لأنَّها تمثِّل الآن عَالَم تدهور الحياة وغروب الشمس، وتلاشت الروح، وأكلتها أشكال متطرِّفة من التشاؤم والعدميَّة والعبث.

يتعيَّن على إفريقيا أنَّ توجِّه نظرها نحو الجديد، سيتعيَّن عليها أن تَعِد نفسها لتحقيق ما لم يكن ممكنًا من قبل، سيتعيَّن عليها أن تفعل ذلك بوعيٍ أنها تفتح عصورًا جديدة لنفسها وللعَالَم. (Mbembe, A., 2016, P.230).
إن النظر في مستقبل الفلسفة الإفريقية في سياق احتياجات الشُّعُوب الإفريقيَّة من شأنه التَّفكير في الموقف الحاليّ للأفارقة والاتجاه الذي يرغبون فيه، فإذا وُضِعَ في الاعتبار حاضر وتطلُّعات الشُّعُوب الإفريقيَّة، فيجب أن نسأل: ما مساهمات الفلسفة الإفريقية لشعوبها؟ وهل ستكون الافتراضات النظريَّة المُتَّسِقَة مع الطريقة التي تتم بها الفَلْسَفة مفيدة للتطلُّعات التي يجب أن تسلكها القارة؟ إن مستقبل الفَلْسَفة في إفريقيا لا يكمُن في تمجيد الماضي الإفريقيّ أو التكرار الدقيق لبعض الصفات الرائعة حول ذلك الماضي. إذ يجب على الفلسفة الإفريقية اليوم أن تتجاوز القيود الضيقة لتصل إلى المدى الكامل، وأن يكون عملها استجابة بشكلٍ متعمَّد للاحتياجات الأكثر إلحاحًا في القارة، وسيكون هذا العمل الفَلْسَفيّ ذات تأثيرٍ مباشرٍ في نمو القارة، ويساهم في تنمية وازدهار الحياة البشريَّة على تلك القطعة من الأرض التي تُسمَّى إفريقيا. Etieyibo, E. 2018. P 349, 352))

إذن، إنَّ مستقبل الفلسفة الإفريقية مرتبطٌ ارتباطًا وثيقًا بمستقبل القارة الإفريقيَّة نفسها، والمستقبل لا يقتصر على محاولة الخروج من كنف الفَلْسَفة العرقيَّة كما ناقشها الباحث ايدا اجادا Ada Agada، لأن الفَلْسَفة العرقيَّة هي أساس الفَلْسَفة الإفريقيَّة، وأن محاولة هدم الأساس يعني هدم الهيكل بأكمله، كما أنَّ المستقبل لا يقتصر أيضًا على تمجيد الماضي وتكراره، بل إن المستقبل يكمُن في المُشَارَكة الفعَّالة في المجالات المختلفة للعُلُوم والفَلْسَفة ووضع العقل الإفريقيّ على الطريق الفلسفيّ الصحيح، وأن تكون الفلسفة ذات تأثيرٍ واضحٍ في حياة الشُّعُوب الإفريقية مع ضرورة التخلُّص من براثن الفِكْر الاستعماريّ والعمل على إنتاج فِكْرٍ فَلْسَفيٍّ إفريقيٍّ خالصٍ نابع من الثقافات واللُّغات الإفريقيَّة الأصيلة.

——————————————–

قائمة المصادر والمراجع العربية والاجنبية
– ديوب، الشيخ أنتا. (2020). الفلسفة والعلم والدين أبرز ازمات الفلسفة المعاصرة.

– مبيمبي، أشيل. (2019). سياسات العداوة. بيروت: ابن النديم للنشر والتوزيع.

– Agada. Ada. (2019). The Future Question In African Philosophy. P. 379: 416.

– Diop, Cheikh Anta. (1981). Civilization or Barbarism. Lawrenc Hail books.

– Etieyibo, Edwin E. (2018). Method –Substance- and the future of African philosophy. Library of Congress.

– Gadeke, Dorthea. (2018). How to think the world? Achille Mbembe on race, democracy and the African rolein global thought. Wiley constellation.

– .Mbembe, Achille. (2016b). Future knowledges. African Studies

– Mbembe, Achille. (2021a). Out of the Dark Night. Columbia University Press, New York.

– Mbembe, Achille. (January 2021b). Futures of life and futures of reason. Public culture.

– Mbembe, Achille. (2016a). Africa in the new century.

– Nabudere, Dani Wadada. (2007). Cheikh Anta Diop: The social sciences humanities, physical and natural sciences and transdisciplinarity.

تدقيق لغويّ: أمل فاخر

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: أمل فاخر

اترك تعليقا