المِثَالِيُّ البريطانيّ فرانسيس برادلي والاِنْفِصَال عَنْ التُّرَاث الهيجليّ

«يَرتَبطُ الفِكْرُ في عَالَمِ الظَّاهر بالعَلاقات، فإذا لَم يَكُن الفِكْر علائقيًّا فإن مَصِيره الانتحار».

يُعَدّ الفيلسوف المِثَاليّ البريطانيّ فرانسيس برادلي بلا مُنازعٍ أعظم الفلاسفة البريطانيين في الفترةِ ما بين جون ستيورات مِل وبرتراند راسل، وتُعَدّ فَلْسَفته مِثَالًا حيًّا على توجُّهِ الفلاسفة البريطانيين نحوَّ المِثَاليَّة الألمانيَّة وبالتحديد فَلْسَفة هيجل، خارجين بذلك عن التجريبيَّة البريطانيَّة، ولكن بالرغمِ من هذا فإن برادلي يُعَدّ أكثر الفلاسفة المثاليين قُربًا مِنَ التجريبيَّة، ولكن كيف؟ْ

نُبيّن بداية الاِتجاهات التيّ تفرَّعت عَنْ المِثَاليَّة الألمانيَّة، مثل المِثَاليَّة الذَّاتيَّة، المِثَاليَّة المُطْلقَة، المِثَاليَّة النقديَّة، والمِثَاليَّة الشَّخصيَّة. ولكن تتفق هذهِ المِثَاليَّات جميعها على ما يلي: الذَّات هيّ مصدر كل تجربةٍ ومعنى وقيمة، بل هي مُحرِّكة للوجود الخاصِ بها، وكذلك يتوقَّفُ وجود الموضوعات الخارجيَّة على القِوى التي تُدركها، وتؤكِّد المِثَاليَّة على سَبقِ الأفْكَار على الموضوعات، والمعاني الكُليَّة على الجُزئيَّات.

أما الفارق بين المِثَاليَّات بصفةٍ خاصة فيتحدَّد فيما يلي: تُؤكِّد المِثَاليَّة الذَّاتيَّة على أنَّ الذهن وحده هو الجانب الحقيقيّ، أما المادة فليس لها وجود موضوعيّ مستقل خارج الذهن، بل هي مُعتمِدة في وجودها على الذهن.

أما المِثَاليَّة النَّقديَّة فتذهب إلى التمييز بين الظواهر العقليَّة التي تسبق التجربة والظواهر المُكْتَسَبَة عن طريق التجربة وتُؤلِّف بينهما، ولكنها تَعِد الأولى ضروريَّة لإدراك الثانية، وتَمَثل ذلك جيدًا عند كانط.

أما المِثَاليَّة الشَّخصيَّة، وإن كان قد تمَّ تحويل اتجاهها نحو الهيجليَّة حيث ترى محور الوجود هو الذَّات، ولذلك فدراسة خصائص الوجود لا تنفصل عن كَوْنها دراسة للموجود ذاته، وتحقيق هذه الخصائص في الوجود تُمثِّل توجُّهًا نحوَّ إظهار وكشف الذَّات عَنْ نفسها. 

إعلان

أما المِثَاليَّة المُطْلَقَة، وهي التي ينتمي إليها فرانسيس برادلي، فإنها تتوجَّه نحو الواحِديَّة وتقوم بفرضِ الوحدة والتكامُل على الوجود وعلى التجربة الذَّاتيَّة. ومن أجل تلك الوَاحِديَّة قرَّرت المِثَاليَّة المُطْلَقَة وجود عقل لا متناهٍ أو مُطْلَق تتجه إليه الطبيعة وسائر الموجودات في حركتها وصيرورتها، وبذلك تصير كل ظواهر الكَوْن كَشْفًا عن ذلك الاتحاد القائم بينها وبين المُطْلَق.

إنَّ ترجمة الفيلسوف البريطانيّ فرانسيس برادلي للمِثَاليَّة المُطْلَقَة هي تَبَنيِه الجَدَليّ لفَلْسَفة هيجل، وأُطْلِق عليها في نهاية القرن التاسع عشر بالهيجليَّة الجديدة. 

ولكن برادلي يفترق عَنْ التراث الهيجليّ افتراقًا جذريًّا في نقطة مفصلية، ألا وهي نزعته اللا عقليَّة. إنهُ يبدأ من الموقفِ القائل: إنَّ الشيء مدينٌ بخصائصهِ للعَلاقات القائمة بينه وبين الأشياء الأخرى، ثُمَّ يُبَيِّن أن الفِكْر، ما أن يبدأ عمله على التجربة المباشرة ليتعدَّى ما في المُعطيات العارية من نقصانٍ، حتىّ يَشْرع في مهمةٍ لا يستطيع إتمامها أبدًا، إذ إن الفِكْر يُقَسِّم التجربة المباشرة إلى تصميمٍ من الحدود والعَلاقات المُحدَّدة تحديدًا قاطعًا، وهو مفيد ولكنه ليس نهائيًّا. 

حيثُ يرتبط الفِكْر في عَالَم الظَّاهِر بالعّلاقات، فإذا لم يكن الفِكْر علائقيًّا، فإن مَصيِره الاِنْتِحَار، وطالما يعتمد الفِكْر على العَلاقات، فإنه يكون عاجزًا عن بلوغ الحقيقة ويُبَيِّن فقط شريحة من الحياة لا الحياة الحقيقية، فالحقيقة تُعَدّ فوق العّلاقات، وفي هذه الحالة سواء كان الفِكْر مؤقَّتًا أو اتفاقًا عمليًّا بحتًا أو ضرورة قصوى، فإنه في النهاية لا يُمكن قبوله كُليَّةً، بسبب أن التَّفكير في عَالَم الظَّواهِر يرتبط تمامًا بالعَلاقات، ومن ثَمَّ فهو تفكير عَلائقيّ، وأي ظاهرةٍ تتخلَّلها العَلاقات تُعَدّ ظاهرة مُتناقِضَة. ولكن بالرغم من ذلك، فإن عَالَم الظَّاهر ليس مرفوضًا كُليًّا عند برادلي، لأننا في مَقدورنا تجاوزه لنصل إلى الحقيقة. وبناء عليه فالتَّفكير العَلائقيّ ليس مرفوضًا هو الآخر، لأنه يُعَدّ في هذه الحالة مجرَّد مرتبة من مراتب التدرُّج للوصول إلى الحقيقة، حيث تنتقل منه إلى الوحدة الشاملة، وعندئذ نكون قد انصرفنا عن العَلاقات الظَّاهريَّة ودخلنا في مجال أعلى منها، إذ إن الحقيقة هي وجودٌ فوق العَلاقات.

يقرِّر فرانسيس برادلي أننا نفهم الحقيقة عن طريق تجربةٍ فريدة، هي التجربة المباشرة، وهي تجربة باطنية سامية تجمع بين الحدس والفِكْر وتُنْكِر التجريد والواقع الماديّ الصرف. إنها تجربة لا تُعبِّر فقط إلا عَمَّ هو حقيقي وحاضر على الدوام أمام العقل ومُعْطَى لنا في كامل هيئته الحقيقية. ويؤكِّد برادلي على أهمية هذه التجربة بتقريره أننا لا نصدر حُكْمًا أو نؤكِّد اعتقادًا إلا بالاستناد إلى هذه التجربة، لأنها تظل باقية ودائمة كشيءٍ أساسيٍّ.

وبعبارةٍ اخرى، يقول برادلي: إنَّ المظهر الفِكْريّ للتجربة أقل دائمًا من التجربة كلها، وليس هناك من بين أحوال التَّفكير العقليّ «كالجوهر والعِلَّة والمكان والزمان» ما هو حقيقي تمامًا. إنها تدفعنا إلى ما هو أبعد منها. وهذا الأمر ينطبق على الذَّات، بل وينطبق على الله أيضًا. فإلَه الدِّين كيان يجب عبادته موجود من فوق ضِدٍّ ذاتيٍّ، ولكن ذلك ليس هو المُطْلَق الذي يُقَال بهُويَته مع الله عادة. ومن ثَمَّ، فإن إلَه الدِّين يتخذ شكلًا مُتعَاليًا في المُطْلَق، حيث يصبح هو الكُلّ في الكُلّ، إذ إنه ليس إلا مظهرًا أو ناحية واحدة من المُطْلَق. ولا يمكن أن تقوم عَلاقة بين المُطْلَق وأي شيءٍ آخر، فالمُطْلَق هو الكُلّ الذي يتضمَّن كافة أشكاله الظَّاهريَّة ويتجلَّى فيها. وكل من هذه الأشكال الظَّاهريَّة جُزئيَّة وغير كافيةٍ في حَدّ ذاتها، إلى درجةٍ أنك لا تستطيع تفهُّمها إلا في داخل المُطْلَق، وهي هناك لا تُعرَف معرفة عقليَّة على الإطلاق، ما دام العقل له طابع الحاجة إلى العَلاقة وعدم الكفاية، ولكن المُطْلَق تجربة خَالِصة، مباشرةٍ ولا عقليَّة. 

تنبَّه فرانسيس برادلي جيدًا لهذا الأمر، فتوصَّل إلى نظريته في المُطْلَق، أو إن شئنا أن نَطلُق عليه العقل المُطْلَق، ورأى أن المُطْلَق ليس شخصيًّا، فهو ليس أنا ولا أنت، بل هو مجموع العقول جميعًا حاضرها وأزلها وأبدها. كذلك لا يخضع لتغيُّر الحالات الزمنيَّة وتبدُّل الوقائع وانتقال الأحداث، بل هو تجربة شاملة لكافة الموجودات، ضامة لجميع الأفعال والأحوال والموضوعات والحقائق، سابغة عليها الدوام والاستمرار والوحدة والاتساق، حيث لا تنتهي هذهِ الجوانب بانتهاء الأفراد. إذًا، المُطْلَق هو نظام الوجود، والحقيقة هي نظام العقل.  

يؤكِّد برادلي هُنا الطَّابع الجامد للمُطْلَق: 
«إنَّ كل ما هو كامل وحقيقيّ بالأصالة، لا يُمكن أن يتحرَّك. فالمُطْلَق ليس له فصول، بل إنه يحمل في وقتٍ واحد أوراقه وثماره وزهوره».

من الواضح أن برادلي يقول، على العكس من هيجل وبوسنكيه، إن التَّفكير يقضي على ما في التجربة المباشرة من إثارة وطعم صارخ وحيويَّة ويفقدها كلها؛،ومع ذلك، فهو أمر لا مَفرّ منه كما أنه يُحطِّم نفسه بنفسه، إذ إن التناقض يَكْمُن في قلب طبيعة الفِكْر ذاتها.

إنَّ وظيفة الفَلْسَفة بصفةٍ عامة هي بحث الوجود عقليًّا، ومن ثَمَّ تَرْجَمَت الفَلْسَفة المِثَاليَّة هذه الوظيفة تمامًا فحدَّدت وصنَّفت مقولاتها وَفْق هذه المُهمَّة، فآمنت إيمانًا تامًا بقدرةٍ العقل وفاعليته وبكل ما يتفرَّع عنه من أنشطةٍ ومَلَكَاتٍ وعملياتٍ سَاميةٍ تؤكِّد على تأثير ونفوذ الكيان الإنسانيّ في الوجود، لكن مِثَاليَّة برادلي ذات نزعة شَكِّيَّة، ونشاط الفِكَر عنده يخضع لفِكْرة العَلاقة مع الواقع ولا ينعزلُ عنها، والوجود الواقعيّ الوحيد لديه في أي تحليلٍ فِكْريٍّ يرتبطُ بتجارب عيانيَّة ملموسة تتولدَّ من ضرورات الفعل الإنسانيّ، وهي بالتأكيد تُمثِّل نوعًا من البراجماتيَّة التي تسعى إلى تقديم المُمَارسة العمليَّة على الجانب التأمُّليّ الميتافيزيقيّ. 

جديرٌ بالذِّكرِ أنَّ برادلي لم يَحْظَ إلا بعددٍ ضئيلٍ من القُرَّاء خارج صفوف الطُلَّاب المُعترَف بهم، وهم على هذا يختلفون اختلافًا كبيرًا في تفسيرهم لمعنى فَلْسَفة برادلي.

____________________________

  • المصادر:

1. جون لويس، مدخل إلى الفلسفة

2. محمد توفيق الضوي، مفهوم الزمان والمكان في فلسفة الظاهر والحقيقة: دراسة في ميتافيزيقيا برادلي

3. https://plato.stanford.edu/entries/bradley/

https://cutt.ly/x0ilKiN

4. https://www.britannica.com/biography/F-H-Bradley

https://cutt.ly/T0ilvf5
5. Appearance and Reality by F. H., Bradley, 1876.

قد يعجبك أيضًا

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: فرح علي

تدقيق لغوي: أمل فاخر

اترك تعليقا