فلسفة التشاؤم: كيف يقينا التشاؤم من شر الحياة؟

ماهية التشاؤم الفلسفي

منذ أن وعينا على الدنيا، يُروج لنا التفكير السلبي في صورة ضيقة سطحية زواياها ثابتة لا تتغير: اليأس، الحزن، الاكتئاب والفشل.

يقول عالم النفس أوليفر بيركمان:

ما زلنا في مستوى معين نعتقد بأن السعادة لا يمكن إلا أن تعني التخلص من السلبية. لا يمكن إلا أن تعني تعزيز المشاعر الإيجابية محاولًا ضمان نتيجة إيجابية.(١)

و بحكم أن التفكير السلبي هو المادة الخام  للتشاؤم، من الطبيعي أن يصبح للتشاؤم  صيت سيئ بين  الناس؛ فهو عدو النجاح الأول وقرين الحزن، و تفاديه مكسب و مطلب لتحقيق أحلامنا  وأهدافنا في الحياة.

غالبًا ما يتم الحديث عن التشاؤم بصفته حالة نفسية أو عرض من أعراض مرض الاكتئاب، وبالرغم من انتشار  هذا  النوع من التشاؤم  إلا أنه ثمة تشاؤم آخر يمتاز  ببعد فلسفي وعقلي،  و هو أشبه بعقيدة فكرية أو موقف معرفي وعقلي يتخذه الإنسان من العالم، “هو تشاؤم يمكن مناقشته بالعقل و المنطق و ليس بالأدوية النفسية”.(2)

شهد مطلع القرن التاسع عشر زخمًا تشاؤميًّا كبيرًا، حيث علت أصوات الفلاسفة المتشائمين من اللورد بايرون، الفرد دي موسيه الفرنسي، وهيني في ألمانيا وليو باردي في إيطاليا وبوشكين في روسيا. (3) تعددت آراء ومعتقدات الفلاسفة وكان لكل منهم  بصمته الفلسفية التشاؤمية الخاصة، لكن لعل الأرضية المشتركة بينهم جميعًا؛ هو تعاملهم مع مسألة التشاؤم من منظور فلسفي بحت وليس سيكولوجي.

إعلان

التشاؤم الفلسفي: هو الاعتراف بحضور  عنصر الشر في الوجود، أما طريقة  التعامل مع هذا الاعتراف و ما يمكن أن يؤول إليه من نتائج، فهو محل خلاف بين فلاسفة التشاؤم وعلى رأسهم  فيلسوف التشاؤم الأكبر شوبنهاور وتلميذه الفيلسوف الألماني نيتشه.

التشاؤم الميتافيزيقي عند شوبنهاور

محرك الحياة الأول هو الإرادة  العمياء، أو بمعنى آخر رغباتنا الميتافيزقية التي توجه أفعالنا والتي نُساق إليها لا إراديًا،  وهي محور الألم و الشر في الحياة؛ فعندما يرغب المرء ويريد،  تزداد معاناته ذلك أن  إشباع الرغبات عملية تسلسلية مستمرة لا تنتهي إلا بموت صاحبها.  إنّ المسافة الهائلة بيننا وبين أحلامنا وأهدافنا تعطي تلك الأحلام  حجمًا أكبر من حجمها الحقيقي، تحيطها بهالة من الرضا و السعادة التي حالما نصل إلى مبتغانا  تتلاشى كأنها كانت مجرد  سراب، ” ننفخ في البالونات و نحن نعلم أنها سوف تنفجر“. إننا دائمًا نعود إلى نقطة البداية مهما بلغنا من نهايات، نسعى إلى تحقيق هدف ما  لبلوغ النشوة و الرضا و ما إن نحقق ذلك الهدف ونتذوق الرضا للحظات؛ حتى يتلاشى ونعيد الكرة مرة ثانية، ونبحث عن هدف آخر في سبيل الحصول على الرضا الذي ما إن نمسكه حتى يفلت من إيدينا، ونعيد الكرة مرة ثالثة ورابعة وخامسة في دائرة مغلقة من السأم والملل والمعاناة لا نخرج منها أبدًا.

يرى شوبنهاور أن مأساة الحياة تختزل في إرادتها وأن الخلاص من الشقاء والعناء إنما يكمن في التخلي عن هذه الإرادة والترفع عنها. و هذا التخلي ممكن الحدوث  وإن كان لحظيًا أو مؤقتًا، وهو يتجلى في الفن والدين؛ فالفنان حين يمارس الفن  يتجرد من غرائزه النفسية، وموروثاته الفكرية والمجتمعية ويصور لنا الأشياء على هيئتها الحقيقية، أما الدين فإنه يؤدب الإرادة ويضعها تحت سيطرة العقل؛ فهو يأمر الإنسان بكبح شهواته  وأهوائه النفسية. (4)

تشاؤم  نيتشه

يُقر نيشته بأن  وجه العالم  قبيح و لكن بدلًا من أن نغض البصر عنه، أو نتجاهله، علينا أن ننظر إليه ونتقبله كما هو. بالرغم من تأثر نيتشه بفلسفة أستاذه شوبنهاور إلا أنه عارضه في فلسفته التشاؤمية؛ فبينما يدعو تشاؤم شوبنهاور إلى العدمية والتخلي عن الحياة -بمعناه الميتافيزيقي- جاء تشاؤم نيتشه ليدعو إلى النقيض تمامًا، التمسك بالحياة، وبدلًا من السعي إلى  التخلص من معاناة الحياة، يوجه تشاؤم نيتشه المرء إلى  كيفية التعامل و التعايش مع تلك المعاناة (5)، التشاؤم هو “المطرقة التي تهدم و تبني”، تهدم نظرتنا  التفاؤلية السطحية للحياة و توقعاتنا الإيجابية التي غالبًا ما تدفعنا في النهاية إلى الخيبة والخذلان، وتبني عوضًا عنها قوة مقاومة تجعلنا نتحمل آلام الحياة . إن البهجة الحقيقية تستخرج من ركام ذلك الهدم، من ينشد السعادة أو الرضا عليه أن يعترف بالألم و يعيشه و يتلذذ به. (6)

الماضي والمستقبل

بالنسبة لفلاسفة التشاؤم، يُعد الزمن  معضلة فلسفية كبيرة ؛ حيث يعتقد البشر أنه بإمكانهم التكفير عن أخطاء الماضي والهروب من ذكرياته الموجعة عن طريق الاستثمار في المستقبل، فيُعَلِّقون كل آمالهم في المستقبل، مما يحرمهم من الاستمتاع بالعيش في الحاضر والالتفات إلى ما يمكن أن يقدمه لنا، إن أحلامهم ستتحقق غدًا، إذًا سعادتهم الحقيقية موعدهم معها غدًا، لذلك هم في حالة تأهُّب دائم اليوم  للقاء أحلامهم غدًا، وهذا التأهب يخالطه مزيج من مشاعر الخوف والترقب والتوتر، و يتجلى هذا التأهب في التخطيط ورسم سقف محدد من التوقعات، ومن هنا؛ تنبثق الرؤية التشاؤمية الفلسفية، فالمستقبل غير قابل للتنبؤ والسيطرة، فمهما خططنا و بذلنا من جهد لبلوغ مبتغانا وأهدافنا؛ تظل هناك قوى و عوامل خفية تتحكم في حيواتنا، لذلك فإن تلك التوقعات والأحلام غالبا ما تكون معرضة للهدم .      

صور الفلاسفة القدماء الوقت بكرونوس، أحد الشخصيات الميثولوجية الشهيرة الذي  أطاح بوالده أورانوس  حاكم الكون في العصر الذهبي الأسطوري، وكان كرونوس يبتلع كل ابن تنجبه له زوجته؛ خوفًا من أن يلقى مصير أبيه و ينقلب عليه أبنائه كما فعل بأبيه (7) . إن البشر يشبهون أبناء كرونوس، فهم أبناء  الزمن الذي يبتلعهم  ربما ليس دفعة واحدة مثلما فعل  كرونوس، بل على دفعات و على مضض.. يبتلع راحة بالهم، يبتلع  عليهم الفرص الجيدة، و يبتلع آمالهم و أحيانًا يبتلع مستقبلهم.  (8)

رصاصة الأمل

يقول الكاتب و الفيلسوف اليوناني نيكوس كازنتزاكيس، علينا جميعًا أن نتخلى عن الأمل، لأننا غالبا ما نخسره، ونخسر معه الرغبة في المحاولة من جديد. السعي المضني، والبحث المستمر بغض النظر عن النتائج، سلبية كانت أو إيجابية، هو ما يجب أن نصبو إليه دائمًا؛ حتى نستمر في المضي قدمًا.

قد يبدو للوهلة الأولى أن كازانتزاكيس يدعو إلى هجران الأمل بشتى أشكاله، لكن في الحقيقة الأمل الذي يقصده هو الأمل الذي يرتكز على التوقعات، اعتقاد المرء بأن كل جهد يبذله  وكل تخطيط يقوم به سيسفر عنه نتيجة ترضي تعبه. فيظل حاضره مرتبطًا بمستقبله، فإذا خذل الواقع توقعاته سيكون قد  أفنى حاضره في ترقب المستقبل الذي لم يأت على الهيئة التي رسمها في عقله، فضلاً عن مشاعر البؤس و الخذلان التي سترافقه طوال حياته.

و تشارك الفلسفة الرواقية نظرية كازانتزاكيس  عن الأمل، حيث ترى بأن الأمل هو العدو الأول للسلام الداخلي،  وأن توقع الأفضل من باب التحلي بالروح التفاؤلية سيسفر عنه نتائج عكسية تمامًا، فالمشاعر السلبية التي هربنا منها في البداية ستطاردنا عندما لا تتحقق توقعاتنا وتمسك بالأمل، ذلك العكاز الذي كنا نستند عليه ولو أننا واجهناها منذ البداية لكانت وطأتها أخف على نفوسنا. (9)

اقرأ أيضًا: الفلسفة الرُّواقية

إذن ما الحل؟ أن نخضع الأمل لشروط خاصة، وأهمها؛ أن ننزع منه عنصر التوقعات، لاسيما  الإيجابية، أن نعيش ونمارس الأمل كفعل ليس له نتيجة أو على الأقل ألا نرسم له نتيجة مذهلة، أن نتقمص شخصية الموظف المخلص  الذي  يؤدي  عمله بإتقان ولا ينتظر مديحًا أو ثناءً من مديره. أن نبذل قصارى جهدنا في عمل ما دون أن نتوقع بأن النتيجة ستكافئ أو تضاهي بالضرورة حجم الجهد الذي بذلناه. باختصار؛ أن نعيش الأمل ولا ننتظر منه شيئًا، فإن أتى ما يرضي جهودنا حظينا بما نستحق، وكان الفرح من نصيبنا، وإن شاءت الأقدار أو لسبب ما خفي، جرت الأمور بما لا يسر الخاطر؛ فعلى الأقل ستكون مقدرتنا على التعامل مع النتيجة أكثر نضجًا وقابليتنا لتقبلها و التسليم بها  أكبر.    

التشاؤم تفاؤل متنكر

على عكس الاعتقاد الشائع بين الناس، إن التشاؤم -لاسيما الفلسفي- ليس نقيض التفاؤل، بل شكل آخر منه، متنكر ومتخفي. و لعل  التشاؤم الدفاعي وهو أحد أنواع التشاؤم  الذي يوضح هذا الترابط بشكل جيد. يرتكز هذا التشاؤم في أساسه على التفكير السلبي ويتخذ منه سلاحًا يواجه به تحديات ومصاعب المستقبل.

التركيز على السيناريوهات الأسوأ، ماذا لو حدث كذا وكذا؟ تجعل من المرء أكثر استعدادًا لتقبل النتائج السلبية من خلال وضع الخطط البديلة مستقبلًا، فضلًا عن الاستعداد النفسي الذي سيخفف حتمًا من آثار النتائج السلبية. (10)

إن المتشائم لا يرغب في أن تزداد الأمور سوءًا من خلال عقليته السلبية، بل إنه يحتاط من ذلك وينشد  الخلاص من خلال عقليته السلبية،  فهو بذلك يحارب السيء بالسيء. 

نرشح لك: الرقص على نصال الاكتئاب

المصادر

(1) https://www.youtube.com/watch?v=KTzud7WA81I&t=420s

(2) http://www.alriyadh.com/370265#

(3) كتاب شوبنهاور و فلسفة التشاؤم ص١٥

(4) مجلة حكمة - مقال فلسفة شوبنهور

(5) https://www.jstor.org/stable/3117722?seq=1#page_scan _tab_contents p.3

(6) المصدر السابق ص 12

(7) https://www.marefa.org/كرونوس

(8) https://academyofideas.com/2014/09/pessimism-of-strength/

(9) https://reasonandmeaning.com/2017/03/14/against-hope/

(10)http://negsh.com/2018/03/26/ما-هو-التشاؤم-الدفاعي؟/

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: بيان الحلبي

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا