المرض العقلي ودوره في كتاب مستقبل العقل لميشيو كاكو (الجزء الثاني)
بعد أن قدمنا بعض الحالات الخاصة بالمرض العقلي من كتاب «مستقبل العقل» لميشيو كاكو، وعرفنا كيف أثرت تلك الحالات على تطور مسيرة العلم الخاص بالأعصاب والمخ، وعلى الدراسات الخاصة بالوعي والذاكرة وغيرها من الأمور المتعلقة بالعقل، نقدم الآن الجزء الثاني من المقال، لنتعرف على حالات أكثر تساعدنا في فهم كل مايتعلق بالعقل.
كيم بيك (رجل المطر):
ألهم كيم بيك فيلم “رجل المطر” بطولة دستن هوفمان وتوم كروز. وعلى الرغم من أن كيم بيك كان متخلفًا عقليًّا بشدة (لم يكن قادرًا على العيش وحده، ومن الصعب عليه ربط أشرطة حذائه أو زر قميصه) بيد أنه حفظ غيبًا نحو اثني عشر ألف كتابًا، واستطاع إعادة قراءة أسطر منها كلمة كلمة. استغرق الأمر منه نحو ثماني ثوانٍ لقراءة صفحة (استطاع حفظ كتاب في نحو نصف ساعة، وقرأ الكتاب بطريقة غير عادية؛ كان باستطاعته قراءة صفحتين معًا في الوقت ذاته، مستخدمًا كل عين لقراءة صفحة مختلفة في الوقت ذاته). وعلى الرغم من حيائه المفرط، بدأ في النهاية بالاستمتاع بأداء عمليات مدهشة في الرياضيات أمام متفرجين فضوليين يحاولون تحديه بأسئلة صعبة.
حاول العلماء دراسة قدرات العارفين المصابين ببعض الأمراض، ولم يجدوا ضالتهم في العارفين المصابين بمرض التوحد؛ لأن لديهم صعوبة كبيرة في التعبير لفظيًّا عن عملياتهم العقلية، فاتجهوا لمرضى متلازمة أسبيرغر. مثل مرضى التوحد، يجد المصابون بمتلازمة أسبيرغر صعوبة في التعامل اجتماعيًّا مع الآخرين، مع ذلك يمكنهم بالتدريب الملائم تعلم المهارات الاجتماعية الكافية للاحتفاظ بوظيفة وشرح عملياتهم العقلية. ومن الطريف أن بعض العلماء يعتقدون إصابة عدد من العلماء الكبار بمتلازمة أسبيرغر، وربما يفسر هذا الطبيعة الغريبة والمنزوية لفيزيائيين كإسحاق نيوتن وبول ديراك. فنجد أن نيوتن بشكل خاص لم يكن قادرًا، وبصورة مَرضيّة، على إجراء حديث قصير.
حاول العلماء دراسة أدمغة فائقي الذكاء؛ لمعرفة السبب واستخدامه لتطوير ذكاء الناس. وأدى تطوير جهاز الرنين المغناطيسي MRI إلى انقلاب في الأفكار المتعلقة بالموضوع. فاكتشفوا أن دماغ كيم بيك لم يكن عاديًّا؛ أظهرت مسوحات MRI أنه يفتقر إلى الحبل العصبي الذي يصل الجانب الأيسر من الدماغ بالجانب الأيمن، والذي ربما كان السبب في قدرته على قراءة صفحتين في الوقت نفسه. وتم اكتشاف خلل في المخيخ، الذي ربما كان سببًا في عدم اتزانه. لم تستطع مسوحات MRI أن تظهر المصدر الأصلي لذكائه الفائق، ولكن مسوحات الدماغ بصورة عامة أظهرت أن العديد من فائقي الذكاء يوجد عطل في الجانب الأيسر في أدمغتهم. حاول العلماء تفسير الموضوع بأن الدماغ الأيمن أكثر فنية ولكن الأيسر هو المتحكم، وعند إصابة الدماغ الأيسر، فإن ذلك يفك قبضة الدماغ الأيسر على الأيمن، وينطلق الدماغ الأيمن مؤديًا للذكاء الفائق.
وفي عام 1988، أجرى الدكتور بروس ميلر من جامعة كاليفورنيا سلسلة من الدراسات التي أيدت الفكرة. درس مع معاونيه خمسة أشخاص عاديين بدأوا يظهرون علامات على الخرف الجبهي الصدغي. ومع بدء الخرف لديهم بالتطور، بدأت قدرات العارف لديهم بالظهور تدريجيًّا، وبدأ عدد منهم إظهار قدرات استثنائية، بالرغم من عدم تمتعهم بها في الماضي.
هل يمكن أن نصبح فائقي الذكاء؟
تم تجريب الفكرة السابقة من قبل الدكتور ألان سيندر من جامعة سيدني في أستراليا. ادعى الدكتور أنه بتطبيق الـTMS (transcranial magnetic stimulation) لمنطقة معينة من الدماغ الأيسر استطاع مرضاه فجأة أن يقوموا بإنجازات تشبه إنجازات فائقي الذكاء. أجرى الدكتور سيندر ومعاونوه تجربة على أحد عشر متطوعًا من الذكور. طبقوا الـTMS على المنطقة الجبهية الأمامية اليسرى، بينما كان الأشخاص يجرون اختبارات متعلقة بالقراءة والرسم. لم تنتج هذه مهارات غير طبيعية بين الأشخاص، لكن اثنين منهم أحرزوا تطورات مهمة في قدراتهما على قراءة الكلمات وإدراك كلمات مزدوجة.
في تجربة أخرى، أعطى الدكتور يونغ وزملاؤه مجموعة من الاختبارات النفسية، وسجل خمسة أشخاص تطورًا في الذكاء. لاحظ الدكتور مايكل سويني عندما طبق تقنية الـTMS على الفصوص أمام الجبهية أن سرعة المعالجة الإدراكية قد تطورت. ربما نستطيع في المستقبل باستخدام مجسات TMS حصر المنطقة من الدماغ المتعلقة بالذكاء الفائق. وعندما تحدَّد هذه المنطقة، فإن الخطوة التالية هي استخدام مجسات كهربائية دقيقة جدًّا، كتلك المستخدمة في التحفيز العميق للدماغ، وبالتالي إخماد هذه المناطق بدقة أكبر، ثم بكبسة زر قد يكون من الممكن استخدام هذه المجسات لإسكات هذه المناطق الضئيلة من الدماغ من أجل الحصول على مهارات تشبه مهارات العارفين.
جان دارك والأنبياء وصرع الفص الصدغي:
خلال فوضى حرب المائة عام بين فرنسا وانجلترا، عندما دمرت القوات الإنجليزية شمال فرنسا، ادعت فتاة شابة من أورليان أن لديها تعليمات إلهية لقيادة جيش فرنسي إلى النصر. ولأنه لم يكن لديه ما يخسره، فقد سمح لها شارل السابع بأن تقود بعض قواته. ولصدمة الجميع واستغرابهم أحرزت سلسلة من الانتصارات على الانجليز. ومع الانتصارات انتشرت الأخبار بسرعة، وبدأت شهرة هذه الفتاة تنمو، لكنها تعرضت للخيانة على الرغم من ذلك، وقُبض عليها من قبل الانجليز. وحوكمت محاكمة صورية، واتهمت بالهرطقة، وحرقت على عمود وهي في سن التاسعة عشرة.
في القرون التي تلت، أجريت مئات المحاولات لفهم هذه المراهقة الشهيرة، حتى ظهرت نظرية حول هذه المرأة غير العادية، ربما كانت تعاني حقًّا صرع الفص الصدغي. يعاني المرضى الذين لديهم هذه الحالة أحيانًا بسبب النوبات، ويتصف هؤلاء المرضى بفرط التدين، ولا يستطيعون مقاومة الاعتقاد بأن روحًا أو حضورًا ما يقف خلف كل شيء. الحوادث العشوائية ليست عشوائية، لكن لها معنًى دينيًّا عميقًا. خمن بعض علماء النفس أن عددًا من الأنبياء في التاريخ ربما عانوا مرض صدع الفص الصدغي هذا، بما أنهم كانوا مقتنعين. يقول الدكتور راما تشاندران “أحار أحيانًا فيما إذا كان مثل هؤلاء المرضى بصرع الفص الصدغي على صلة ببعد آخر من الحقيقة، بثقب دودي من ما في الكون الموازي. لكنني لا أقول ذلك عادة لزملائي، وإلا شككوا في صحة عقلي”.
يؤكد عالم النفس مايكل بيرسينغر أن نوعًا من التحفيز الكهربائي للدماغ يمكنه أن يحرك حالة الصرع هذه. ويتساءل، هل من الممكن أن تغير الحقول المغناطيسية من معتقدات الفرد الدينية؟ ذهب بعض العلماء إلى أبعد من هذا، وخمنوا أن هناك “جين الله” الذي يهيئ الدماغ ليكون متدينًا. تم إجراء تجارب على راهبات، وكذلك على الدكتور ريتشارد دوكينز، عالم الأحياء والملحد الشهير، ولكن معتقداتهم الدينية لم تتغير. يقول الدكتور ميشيو كاكو أن الخلاصة: على الرغم من أن التدين المفرط قد يحرض بواسطة صرع الفص الصدغي وحتى بحقول مغناطيسية، فإنه ليس هناك دليل مقنع على أنه بإمكان الحقول المغناطيسية تغيير آراء الشخص الدينية.
الفصام وجون ناش:
يعيش بعض مرضى الفصام حياة عادية، وحتى إنهم يحققون إنجازات عظيمة قبل أن تسيطر الأصوات عليهم، وأشهر هذه الحالات هي لجون ناش حامل جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1994م، والذي مثل راسل كرو دوره في فيلم “عقل جميل“. في العشرينات من العمر، أجرى ناش عملًا رائدًا في الاقتصاد وفي نظرية الألعاب والرياضيات البحتة في جامعة برنستون. كتب أحد مشرفيه رسالة توصية له تتضمن سطرًا واحدًا: “هذا الرجل عبقري”. ومن الجدير بالملاحظة، أنه كان قادرًا على الأداء بمستوى عقلي عالٍ، حتى وهو تحت سيطرة الأوهام. في النهاية أدخل إلى المستشفى بعد انهيار عصبي في سن الحادية والثلاثين، وقضى سنوات عديدة في المصحات، أو متجولًا حول العالم، خائفًا من أن يقتله عملاء شيوعيون.
حصل مرضى فصام الشخصية على أول إشارة مريحة لهم عندما عثروا بالمصادفة في الخمسينات على عقاقير مضادة للذهان، مثل التولازين، يمكنها التحكم في الأصوات التي تلاحق المرضى العقليين، أو التخلص منها أحيانًا. يُعتقد أن هذه الأدوية تعمل على التحكم في مستوى ناقلات عصبية معينة كالدوبامين. تقول النظرية بأن الهلوسة تنتج جزئيًّا من زيادة مستوى الدوبامين في الجهاز الحوفي والقشرة أمام الجبهية، وبالتالي، يعتقد العلماء بأن المرض العقلي يتسبب من الدوبامين، لأنه ضروري جدًّا لمشبكات الدماغ مثل مرض باركنسون ومتلازمة توريت.
الهلوسات والصور الزائفة “الباريدوليا”:
يولد العقل دومًا هلوسات خاصة به، ولكن في معظم الأحيان يتحكم فيها بسهولة. على سبيل المثال، نرى صورًا غير موجودة، أو نسمع أصواتًا زائفة؛ لذا فالقشرة الحزامية الأمامية ضرورية لتمييز الحقيقي من المصطنع. يساعدنا هذا الجزء من الدماغ على التمييز بين المحرضات الخارجية وتلك التي يولدها العقل نفسه. ولكن هذا النظام مخرب بالنسبة لمرضى الفصام، بحيث لايستطيع الشخص التمييز بين الحقيقة والخيال.
هل يمكننا خلق هلوسات؟ نعم يمكننا. فمثلا، لو وضعت شخصًا في غرفة مظلمة جدًّا أو غرفة منعزلة أو بيئة مخيفة بأصوات غريبة، يخدع الدماغ نفسه بحيث يخلق داخليًّا صورًا مزيفة، محاولًا تفسير العالم حوله وتمييز التهديدات، يدعى هذا التأثير “الباريدوليا”. في كل مرة ننظر فيها إلى الغيوم في السماء نرى صورًا لحيوانات وأناس أو حتى شخصياتنا الكرتونية المفضلة، وليس لدينا خيار في ذلك؛ لأن أدمغتنا مبرمجة على فعل ذلك. بمعنى ما، فإن الصور التي نراها كلها، الحقيقية منها والزائفة، هي هلوسات؛ لأن الدماغ يخلق باستمرار صورًا زائفة “لملء الثغرات “.
الاضطراب ثنائي القطب:
هو نوع من المرض العقلي، يعاني الشخص المصاب به نوبات عنيفة من التفاؤل الزائف الواسع، يتبعه انهيار، ثم فترات من الاكتئاب العميق. تذكر إحدى النظريات أن الاضطراب ثنائي القطب ناجم عن عدم التوازن بين نصفي كرة الدماغ الأيمن والأيسر. يشير الدكتور مايكل سويني إلى أن مسوحات الدماغ قادت الباحثين إلى عزو العواطف السلبية عمومًا كالحزن إلى النصف الأيمن، والإيجابية كالفرح إلى النصف الأيسر. يكتب الدكتور راما تشاندران: “لو ترك النصف الأيسر من دون ضبط فمن المحتمل أن يجعل الشخص موسوسًا أو متوهمًّا، لذا يبدو من المعقول اقتراح ودود «محامي الشيطان» في النصف الأيمن يسمح لك بتبني فكرة مستقلة وموضوعية عن نفسك”.
إذا كان الوعي الإنساني يشمل تمثيل المستقبل، فعليه أن يحسب نواتج الحوادث في المستقبل باحتمالات معينة؛ لذا فهو يحتاج لتوازن دقيق بين التشاؤم والتفاؤل. لكن بمعنى ما، فإن الاكتئاب هو الثمن الذي ندفعه لنستطيع تمثيل المستقبل.