المرض العقلي ودوره في كتاب مستقبل العقل لميشيو كاكو

يعتبر كتاب مستقبل العقل مرجعًا هامًا لكثيرٍ من القضايا المتعلقة بالعقل، مثل الوعي والتخاطر وتحريك الأشياء عن بعد والذكاء وغيرها. فالكتاب عبارة عن وجهة نظر فيزيائي مشهور، وهو ميشيو كاكو، في موضوع بيولوجي وفلسفي في آن واحد، وهو العقل. وخلَق هذا الدمج بين الفيزياء والبيولوجيا والفلسفة وعلم النفس نظرة جديدة للأمور، كان من أحد نواتجها علم النفس العصبي، ونتج أيضًا نظرة جديدة لأمور قديمة.

كان ولا يزال المرض العقلي أحد الروافد الهامة للعلم الجديد وللنظرة الجديدة للعقل؛ فالحالة الاستثنائية للمرض العقلي وما يتبعه من تغيرات في بعض مناطق المخ تسمح للعلماء بدراسة أماكن التغير في المخ، للتعرف أكثر على المخ وتركيبه وتأثيره.

ونجد أن ميشيو كاكو ذكر دوافعه للاهتمام بالمرض العقلي، وهي تأثره بما أصاب بعض الفيزيائيين أو أقاربهم وتأثير ذلك عليهم. فنجد أن أصغر أطفال آينشتاين كان مصابًا بانفصام الشخصية، كما أن أحد أقرب أصدقاء آينشتاين “بول إهرنفست” الذي ساعده في إنشاء نظرية النسبية العامة قد تعرض لنوبات كآبة، حتى قتل ابنه الذي كان يعاني من متلازمة داون، ثم انتحر. ويقول كاكو أيضًا: “خلال السنوات، وجدت أن كثيرًا من زملائي وأصدقائي كانوا يعانون مع الأمراض العقلية في عائلاتهم”، ويضيف أن المرض العقلي أثر فيه شخصيًّا عندما أصاب الألزهايمر والدته وسرق منها ذاكرتها.

لذلك نقدم في هذا المقال الأمراض العقلية التي تم ذكرها في الكتاب، وكيف ساعدت العلماء على سبر أغوار المخ. في البداية، سنذكر الحالات الشخصية للمرضى، وبعد ذلك سنتكلم عن الأمراض العقلية من وجهة نظر فيزيائية. وسوف نقدم المقال على جزئين.

فينياس غيج (دماغ بروكا) وتغير مسار العلم:

في العام 1848م، كان فينياس غيج يعمل مراقبًا للسكك الحديدية في فيرمونت، عندما اشتعلت أصابع من الديناميت دافعةً مسمارًا طويلًا في وجهه. نفذ المسمار خلال الجزء الأمامي من دماغه، وخرج من أعلى جمجمته. استدعى زملاؤه الطبيب، ولكن اندهش الطبيب وزملاؤه حين وجدوه حيًّا لم يمت.

إعلان

كان غائبًا عن الوعي لعدة أسابيع، لكنه في النهاية حقق ما بدا أنه شفاء كامل. لكن بعد هذه الحادثة بدأ زملاؤه في العمل يلاحظون عليه تغيرًا بارزًا في شخصيته؛ فبعد أن كان مراقبًا مرحًا ومساعدًا، أصبح جورج موبخًا وأنانيًّا. توفي غيج عام 1860م، وأجرى طبيبه الدراسات على مخه، ووجد أن المسمار تسبب في تخريب كبير في منطقة الدماغ خلف الجهة المعروفة بالفص الأمامي، في نصفي الكرة الأيمن والأيسر من الدماغ. لم تغير هذه الحادثة العجيبة حياة فينياس غيج فقط، بل غيرت مسار العلم أيضًا.

سابقًا، سيطر الاعتقاد بأن العقل والروح كيانان منفصلان، وهي فلسفة دعيت بالثنائية. لكن أصبح من الواضح أن العطب في الفص الأمامي من الدماغ سبب تغيراتٍ مفاجئة في شخصية غيج، وهذا بدوره خلق تغيرًا منهجيًّا في التفكير العلمي. وأكد الدكتور بروكا بعد وفاة غيج ودراسة اثنتي عشرة حالة مشابهه أنهم مصابون بعطل في هذه الناحية من الدماغ، واليوم يوصف المرضى الذين لديهم عطل في الفص الصدغي وعادة في النصف الأيسر بأنهم يعانون “حبسة بروكا”.

بعد ذلك بوقت قصير، وصف الدكتور “كارل فيرينكه” حالات لمرضى عانوا من مشكلة معاكسة، ووجد أن هؤلاء المرضى كانوا يعانون عطبًا في منطقة مختلفة قليلًا من الفص الصدغي الأيسر. شكلت دراسات بروكا وفيرينكه علامات فارقة في علم الأعصاب، مؤسِّسة لصلة واضحة بين المشاكل السلوكية، مثل الإعاقة في النطق واللغة، والعطب في مناطق محددة في الدماغ. ربما أصبح من الممكن التحكم في تصرفات الأشخاص عن طريق التحكم في مناطق محددة من الدماغ.

الدماغ المشطور:

كان الدكتور سبيري يعالج مرضى الصرع اللذين يعانون أحيانًا من نوبات صرع كبيرة، تنتج غالبًا عن دارات تغذية راجعة بين نصفي كرة الدماغ اللذين يخرجان عن السيطرة. ومثل مكبر يصرخ في آذاننا بسبب دارة تغذية راجعة، يمكن أن تصبح هذه النوبات مهددة للحياة. بدأ الدكتور سبيري بقطع “الجسم الثفني” الذي يصل بين نصفي كرة الدماغ، بحيث لايمكن التواصل بينهما والتشارك في المعلومات التي تأتي من الجانب الأيسر والأيمن. أوقف هذا دارة التغذية الراجعة، وبالتالي، أوقف نوبات الصرع.

في البداية، بدا أن مرضى الدماغ المشطور طبيعيون تمامًا، لكن التحليل الدقيق لهؤلاء الأفراد أظهر أن شيئًا ما كان مختلفًا جدًّا. عادةً، يكمل كل نصفي الكرة الآخر؛ الدماغ الأيسر أكثر تحليلًا ومنطقية، والأيمن أكثر شمولية وفنية، لكن الدماغ الأيسر هو المسيطر ويتخذ القرارات النهائية. تمر الأوامر بين الدماغين عبر “الجسم الثفني”، لكن ماذا يحدث لو تم قطع هذا الاتصال؟

قطع هذا الاتصال يعني أن الدماغ الأيمن تحرر من سيطرة الدماغ الأيسر، وربما كانت هناك إرادتان تعملان ضمن جمجمة واحدة، تتصارعان أحيانًا للسيطرة على الجسم. يخلق هذا الوضع الغريب مفارقات، مثل أن اليد اليسرى (التي يتحكم بها الدماغ الأيمن) تبدأ بالتصرف بشكل مستقل عن تصرفاتك، كأنها عضو غريب عنك.

وثقت حالة لرجل كان على وشك أن يعانق زوجته بإحدى يديه، ليجد أن اليد الأخرى توجه لكمة لوجهها. وذكرت امرأة أخرى أنها أرادت أن تلتقط ثوبًا بإحدى يديها، لترى يدها الأخرى تلتقط ثوبًا مختلفًا تمامًا. وفي هذه الأثناء، كان من الصعب على رجل أن ينام في الليل وهو يفكر في أن يده الأخرى المتمردة قد تخنقه!

استنتج دكتور سبيري بعد دراسات مفصلة لمرضى الدماغ المشطور- أن من الممكن أن يكون هناك عقلان متمايزان يعملان في دماغ واحد. كتب أن كل نصف كرة هو حقًّا نظام واعٍ بذاته، ربما كان نصفا الكرة الأيمن والأيسر كلاهما واعيين في الوقت نفسه بخبرات مختلفة، وحتى متعارضة.

الجسم الثفني

صمم الدكتور غازينغا تجربة يمكن بواسطتها للدماغ الأيمن (الصامت) أن يتحدث باستخدام أحرف لعبة السكرابل. بدأ بسؤال دماغ المريض الأيسر مالذي يريد فعله بعد التخرج، أجاب المريض أنه يريد أن يصبح رسامًّا. لكن الأمور أصبحت مثيرة عندما سُئل الدماغ الأيمن (الصامت) السؤال نفسه. تهجى الدماغ الأيمن الأحرف التي تكتب كلمة “متسابق سيارات”. نرى من ذلك أنه من دون معرفة الدماغ الأيسر المسيطر كان للدماغ الأيمن “سرًّا”، خطة مختلفة بشأن المستقبل.

كما وصف عالم الأعصاب راما تشاندران مريضًا بدماغ مشطور سئل عما إذا كان مؤمنًا أم لا، فأجاب أنه ملحد، لكن دماغه الأيمن صرح بأنه مؤمن؛ أي أن هناك اعتقادين مختلفين في دماغ واحد.

يقول الدكتور مايكل غازنيغا، الذي أمضى عدة عقود لدراسة الدماغ المشطور، أن الدماغ الأيسر لمرضى الدماغ المشطور عندما يواجَه بأن هناك مركزين منفصلين للوعي يسكنان في الجمجمة نفسها سيؤدي ببساطة تفسيرات غريبة مهما كانت سخيفة. يقول الدكتور غازينغا أن الدماغ الأيسر عندما يواجه مشكلة واضحة سيختلق جوابًا لتفسير الحقائق غير الملائمة؛ فنصف الكرة الأيسر يحاول دومًا (ضمن الميل البشري إلى إيجاد نظام في الفوضى) أن يوظف كل شيء في قصة، وهذا مايعطينا الشعور الزائف بأننا وحدة موحدة وكاملة.

كاثي هاتشينيسون وستيفن هوكينج (الحبس في الجسد):

شلت منذ 14 عامًا إثر نوبة حادة، فقدت التحكم في معظم عضلات ووظائف جسمها، تستبقي معظم اليوم بلا حول ولا قوة، وتتطلب عناية طبية مستمرة، ومع ذلك فعقلها سليم؛ إنها سجينة جسدها. لكن في مايو 2012م تغيرت حظوظها بشكل جذري. وضع علماء من جامعة براون شريحة ضئيلة فوق دماغها، موصولة بأسلاك إلى الحاسوب، أطلق عليها برين جيت- brain gait، أي بوابة الدماغ، نقلت إشارات من دماغها عبر حاسوب إلى ذراع ميكانيكية. تعلمت تدريجيًّا التحكم في حركة الذراع بمجرد التفكير، ولأنها مشلولة ولا تستطيع الكلام، كان عليها إيصال حماسها بتحريك عينيها؛ يتقفى جهاز ما حركات عينيها ثم يترجمها إلى رسالة مطبوعة. عندما سئلت كيف تشعر، أجابت “رائعة!”.

مفتاح عمل “برين جيت” هو في ترجمة إشارات عصبية من الشريحة إلى أوامر مفهومة يمكنها تحريك أشياء في العالم الحقيقي. قال دونهيو من جامعة براون أنه يفعل ذلك بالطلب من المريض أن يتخيل تحريك المؤشر لشاشة حاسوب بطريقة ما، على سبيل المثال تحريكها إلى اليمين، يستغرق الوقت بضع دقائق لتسجيل إشارات الدماغ المتعلقة بهذه المهمة.

بهذه الطريقة، يدرك الحاسوب أنه كلما اكتشف إشارة دماغية كهذه عليه أن يحرك المؤشر لليمين. وبهذه الطريقة تصبح لدينا خارطة بين أفعال معينة يتخيلها المريض، والعمل الفعلي نفسه. تفتح “برين جيت” الباب لعالم جديد من الأطراف الصناعية العصبية. وكما فعل العالم ستيفن هوكينج عندما ألصق جهازًا لأطراف صناعية عصبية بنظاراته، ومثل حساس EEG أمكنه وصل أفكاره إلى حاسوب، بحيث حافظ على بعض التواصل مع العالم الخارجي. هذا الجهاز مازال بدائيًّا، لكن أجهزة مشابهه له ستصبح في النهاية أكثر تطورًا.

هوكينج

كريستوفر ريف “دماغ قرد في ذراعه”: حدث اختراق علمي آخر، عن طريق علماء في جامعة نورث وسترن عندما أوصلوا دماغ قرد مباشرة إلى ذراع كريستوفر ريف المصاب بعطل نخاعه الشوكي، وكان ذلك عام 1995م. وريف هذا هو الممثل الأمريكي الذي قام بعمل دور سوبرمان، جلس بقية حياته مقعدًا في كرسي متحرك بعد أن سقط من ظهر حصان خلال مسابقة الفروسية. وأسس مؤسسة كريستوفر ريف، وشارك في تأسيس مركز أبحاث ريف-إيرفاين. ولو أنه عاش فترة أطول، فلربما رأى عمل العلماء الذين يودون استخدام الحاسوب للحلول محل نخاع شوكي معطوب.

كريستوف ريف

استخدم علماء من جامعة نورث ويسترن مائة قطب وضعت فوق دماغ القرد مباشرة، سجلت الإشارات من الدماغ بعناية مع التقاط القرد لكرة ورفعها ثم إطلاقها في أنبوب. وبما أن كل مهمة تتعلق بإطلاق محدد للعصبونات، أمكن للعلماء تدريجيًّا فك شفرة هذه الإشارات. عندما أراد القرد تحريك ذراعه، عولجت الإشارات بواسطة حاسوب باستخدام هذه الشفرة، وبدلًا من إرسال رسائل إلى ذراع ميكانيكية، أرسلت الإشارات مباشرة إلى أعصاب ذراع القرد الحقيقية.

يقول الدكتور لي مولر: “يتم التنصت على الإشارات الكهربائية الطبيعية من الدماغ التي تخبر الذراع واليد كيف تتحركان، وترسل هذه الإشارات مباشرة إلى العضلات”. بالتجربة والخطأ، تعلم القرد تنسيق العضلات في ذراعه. يضيف الدكتور ميلر: “هناك عملية لتعلم التحريك تشبه كثيرًا عملية استخدام حاسوب أو مشيرة الحاسوب أو مضرب تنس مختلف جديد”. ومن الجدير بالذكر أن القرد استطاع إتقان حركات كثيرة جدًّا لذراعه.

هنري موليسون HM (دراسات على الذاكرة):

قادت حالة هنري موليسون (المعروف في المراجع العلمية باسم HM) إلى الاختراقات الأساسية في فهم أهمية الحصين في تشكيل الذكريات.
عانى HM في سن التاسعة من إصابات في الرأس إثر حادث سبب له اضطرابات مقعدة في عام 1953م. وفي سن الخامسة والعشرين، أجريت له عملية جراحية نجحت في التخفيف عن آلامه. ولكن مشكلة ظهرت عندما قطع أحد الجراحين جزءًا من الحصين بالخطأ.

في البداية بدا HM عاديًّا، لكن أصبح من الواضح بعد وقت قصير أن شيئًا سيئًا جدًّا قد حدث له؛ لم يعد يستطيع الاحتفاظ بذكريات جديدة، بدلًا من ذلك عاش باستمرار في الماضي، محييًا الأشخاص أنفسهم عدة مرات في اليوم وبالتعبيرات نفسها، كأنه يراهم للمرة الأولى. وعلى الرغم من ذلك، بدت ذكرياته سليمة، وكان يستطيع تذكر حياته قبل إجراء العملية.

نرى هنا أنه من دون حصين كان HM غير قادر على تسجيل خبراته. على سبيل المثال، كان يرتعب إذا نظر في المرآة، لأنه كان سيرى وجه رجل طاعن في السن، بينما يعتقد أنه مازال في سن الخامسة والعشرين. لكن لحسن حظه أنه سينسى ذلك الرعب أيضًا؛ لأن ذاكرته الحديثة ستتلاشى. حفزت حالة HM العلماء على دراسة الذاكرة، ووجدوا أن المعلومات الحسية (كالرؤية واللمس والتذوق) يجب أن تمر خلال جذوع الدماغ إلى المهاد الذي يعمل كمحطة توزيع،  بحيث توجه هذه الإشارات الحسية إلى الفصوص الحسية المختلفة للدماغ ليجري تقييمها.

بعد المعالجة تصل البيانات إلى القشرة أمام الجبهية، حيث تدخل وعينا، وتشكل ما نعتبره ذاكرتنا قصيرة المدى، التي تتراوح بين بضع ثوان وعدة دقائق. لتخزين هذه المعلومات فترة أطول، يجب أن تمر المعلومات بعد ذلك خلال الحصين؛ حيث تصنف الذكريات إلى أصناف مختلفة. وبدلًا من تخزين الذكريات كلها في منطقة واحدة من الدماغ، يعيد الحصين توجيه الأجزاء إلى القشريات المختلفة. على سبيل المثال، تخزن الذكريات العاطفية في اللوزة، والكلمات في الفص الصدغي، وتجمع معلومات الألوان والبيانات المرئية الأخرى في الفص القذالي، ويقبع حس اللمس والحركة في الفص الجداري.

هنري موليسون

 

أعطت هذه الدراسات العلماء أفكارًا لتسجيل الذاكرة، كما حدث عندما حاول العلماء صنع حصين اصطناعي ثم حشر ذكريات فيه. ففي جامعتي ويك فورست وكارولينا الجنوبية، حققوا إنجازًا تاريخيًّا عندما استطاعوا تسجيل ذاكرة فأر، وتخزينها رقميًّا في حاسوب. كانت هذه التجربة للبرهنة على مبدأ أن حلم تنزيل ذكريات على الدماغ ربما يصبح حقيقة واقعة في يوم ما.

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: تسنيم محمد

اترك تعليقا