الزواج بين الفطرة والحضارة

من الروايات التي توقفت عندها كثيرًا، رواية (ڨالس الوداع) للأديب التشيكي (ميلان كونديرا). ومن بين شخصيات الرواية المتعدِّدة، أطلتُ التأمُّلَ في شخصية (جاكوب)، لأنه اعتنق رأيًا في الزواج والإنجاب، يقتضي التحليل.

كان يرى أن الإنجابَ حماقةٌ كبرى لسببين: أحدهما أنه اعترافٌ ضمنيٌّ بأن الإنسانَ كائنٌ (جميلٌ ومفيدٌ) ولذا تجِبُ إعادة إنتاجه، والسبب الآخر أنه اعتراف أيضًا بأن الحياة (جميلة)، ولا يجبُ أن يُحرم منها إنسانٌ آخر!
(جاكوب) اعتقد أن الحياةَ شقاءٌ خالصٌ، وأن الإنسانَ كِيانٌ مُفسِد، ولذا يجب أن ينقطع النسل، مثلما قال الحكيم ماني، الذي آمن بأن النور لن يتحقَّق له الخلاص إلا بقطع النسل.
وليس رأي جاكوب والحكيم ماني ببعيدٍ عن قول (ستيفن هوكنج):

إن نظرةً واحدةً للإنسان قد تعطي تصوُّرًا عن أن الحياة الذكية قد تتطوَّر إلى شيءٍ، لا تتمنَّى أن تراه أبدًا!.

موقف (جاكوب) في الرواية، والعقيدة التي دعا إليها ماني، هما ردُّ الفعل الوحيد الذي يُفضي إليه التفكيرُ العقلانيُّ المتجرِّد، بشأن قضية الزواج والإنجاب، وخصوصًا في هذا العصر المعقَّد الذي لا يَعِدُ أيَّ مولودٍ جديدٍ بحياةٍ طيبةٍ، لا يكون فيها ظالمًا أو مظلومًا. الإنسان نفسه – ككائنٍ حيٍّ – مؤهَّل بالغريزة المَحْضة لأن يكون قاتلًا (أو قادرًا على إضرار غيره في أفضل الأحوال)، لأن القتل من سنن الطبيعة التي أوجدتها في المخلوقات لتتمكن من التكيف والبقاء، ومن هذه السنن إزعاج الضعفاء، وفرض السيطرة عليهم، وإثبات القدرة على إيذاء الأعداء، بدايةً من الميكروبات، حتى الأفراد المنتمين لنفس الفصيلة.
هذه هي شريعة الطبيعة التي نُولَد وهي (مثبَّتة) في (نظام تشغيلنا) الغريزي. ونحن لا نترقَّى حضاريًّا إلا بمقدار ابتعادِنا عن هذه الفِطرة، وترويضنا إياها.

(دين الفطرة).. مدح أم ذم؟!

وأنا أعجَب كثيرًا مِمَّنْ يتباهَوْن بأن الإسلام هو (دين الفطرة)، وأتعجَّب من اجترائهم على استخدام هذا التعبير المسيء لأيِّ نَسَقٍ أخلاقي. إن التغلُّبَ على الفطرة واحتواءَها هما الطريقتان اللتان اهتدى إليهما الإنسانُ ليسموَ فوق بقية الكائنات، فإذا وافق نَسَقٌ أخلاقيٌّ ما، جوانبَ الشَّرِّ من الفطرة، صار مجرَّدَ غطاءٍ خبيثٍ للهمجية.
وقد خالفَ الإنسانُ بمنظومة الزواج والإنجاب فطرتَه ووافقها في آنٍ واحدٍ. خالف فطرته التوَّاقة إلى التعدُّد، وعدم الالتزام بشريكٍ جنسيٍّ واحدٍ، وعدم التقيُّد بتنشئة الأطفال حتى بعد نضوجِهم (وما أكثر من ينفقون على أبنائهم في مجتمعنا حتى تجاوُزهم الثلاثين عامًا!). ووافق الرغبة الغريزية في التكاثر، وحماية الأطفال، وتنشئتهم حتى يتمكنوا من تحقيق الغاية الأساسية لكل الكائنات الحية: (التكاثر).

ونحن في هذا العصر، نستطيع أن نحكم – استنادًا إلى التطور الحضاري – على تجربة الزواج وإنجاب الأطفال، بأنها أصبحت فاشلةً تمامًا. فقد أخفقت الشرائع والقوانين في تنظيم حياة البشر بما يهيئ الأمان للمواليد الجدد، الذين ستشكِّلهم بلا ريب شريعة الغابة التي لم نترقَّ حتى اليوم عنها. وهؤلاء المواليد الجدد أنفسهم قد يكونون مؤهَّلين جينيًّا للرغبة في الإضرار بالآخرين، ومحاولة إخضاعهم. ولأن التفكير العقلاني، يُفضي إلى رفض الزواج في هذا العصر، نجد أن أكثر الناس نسلًا وأجرأهم على الزواج والإنجاب، هم أغباهم طرًّا (أو أبعدهم عن العلم والمنطق وإعمال العقل، في أفضل الأحوال!) لأن الإنسان يكون أقرب إلى الفطرة بقدر ابتعاده عن الحضارة، والعكس صحيح. ونحن اليوم في صراع بين الفطرة والحضارة. بين شريعة (البويضات والحيوانات المنوية)، وشريعة التفكير العقلاني.

إعلان

لماذا نجح الزواج قديمًا وفشل في هذا العصر؟

لم يعد تنظيمُ فطرةِ (عشق الجِماع والحرص على التكاثر) عن طريق الزواج (بصورته التقليدية) مجديًا في هذا العصر خصوصًا، لأن منظومة الزواج منظومة قديمة، نشأت في عصورٍ تُعَدُّ بدائيَّةً إذا قورنت بعصرنا، ونجمت عن ظروفٍ اجتماعية، نحن اليوم شديدو البُعد عنها. هذه الظروف اقتضت وجود (ذكر) عاملٍ منفِقٍ، و(أنثى) متفرغة للحمل والإنجاب والرضاعة وتربية الأطفال وإدارة شؤون المنزل، من تنظيف وتنظيم وإشراف على الوحدات الإنتاجية به، من دواجن وحيوانات. ذكر يعمل خارج المنزل، وامرأة تعمل داخل المنزل. وهذا المفهوم بلوره الإسلام، وعدَّه (فِطْرة)، وسمَّاه بـ (القوامة). وما أظن أن هذا السلوك عُدَّ فطرة، إلا لأنه لازم البشر آلافًا من السنوات، حتى تُوُهِّم أنه غيرُ قابلٍ للتغيير، أو أنه ملازم لطبيعة الإنسان. لكنه على كل حال، أثبت فعاليته طوال هذه السنين، واستطاع أن يحقق ترابطًا اجتماعيًّا، وتقدُّمًا حضاريًّا متميزًا، حتَّى رسا بنا التطور الحضاري، على ما نحن فيه الآن.

وبرغم الثغرات الموجودة في منظومة الزواج التقليدية منذ نشأتها، استطاعت الأعراف في مجتمعنا أن تُكوِّن وعيًا عامًّا، يحث على استمرار هذه المنظومة؛ ولنا في موروثنا الثقافي دليلٌ على هذا… أمثال تقوم مقام الدين في تنظيم الحياة الاجتماعية، والتغلب على ثغرات منظومة الزواج، مثل تنامي الملل بطول المُلازَمة، وعدم التناغم الجنسي بين الزوجين، والمشكلات الطبيعية التي تنشأ بين كائنين بشريين لم يختبرا قابليتهما للتوافق قبل الارتباط. تأمل في هذه الأمثال: (ضل راجل ولا ضل حيطة) – (يا بخت من وفَّق راسين في الحلال) – (الراجل فى البيت رحمة ولو كان فحمة) – (حُرمة من غير راجل زي الطربوش من غير زِرّ) – (اللي ما تحنِّي كعبها، ما يفرح قلبها) – (أقل الرجال يغني النِّسا) – (نار جوزي ولَا جنة أبويا) – (أبويا وطَّاني وجوزي علَّاني). وأضف إلى هذه المسكنات الثقافية، الحرصَ على التبكير بالزواج، والنبذَ الاجتماعيَّ الذي تتعرض له العانس والمطلقة (اللتان تُطعنان دائمًا في سلوكهما وطباعهما وشرفهما)، والعَزَب (الذي يوصَف دائمًا بأنه إمَّا هَلَّاس وإمَّا مثليٌّ وإمَّا عِنِّين!)، والسلوكاتِ التي عهدناها من أجدادنا الذين اعتادوا أن يُنحُوا على المرأة باللوم إذا غضبت، وتركت بيت زوجها، وقد يضربها أهلها لترجع، ويبذلون كل السبل لكي لا يطول مكثها بعيدًا عن زوجها. هذه الأعراف المقدسة استطاعت أن تحافظ على المنظومة التقليدية للزواج، برغم ما فيها من ثغرات.

لكن عصرنا الحديث، بكل ما حمله من طفرات اجتماعية وسلوكية وحضارية، جعل هذه الثغرات تتسع، ولم تعد منظومة الزواج التقليدية قابلةً للاستمرار في هذه العصر، مع ما استجد، فكثرت لذلك حالات الطلاق؛ ولكي نتبين أسبابه، لا بد من حصر الأمور التي خالف فيها أهلُ هذا العصرِ الظروفَ التي كانت سائدةً قديمًا، وذلَّلَتْ عقبات الزواج.
في هذا العصر، أُفسِح للمرأة مجالٌ واسعٌ من الحرية، أتاح لها خِيار أن تتمرَّد إن أهانها زوجها، أو أثقل عليها، دون أنْ يُرفض هذا السلوكُ اجتماعيًّا. وأصبحت المرأةُ قادرةً على أن تعمل وأن تكسب المال، وبذلك فقد الرجل امتياز أن يكون هو (المنفق الوحيد)، وصاحب الرأي القاطع في أي أمر (استنادًا إلى تحكُّمه في ميزانية المنزل). كما أن اهتمام المجتمع بتنشئة الفتيات على وجهٍ يمكِّنهن من أن يلتحقن بمهن ووظائف كانت فيما مضى حكرًا على الرجال، غلب على ما تحتاجه منظومة الزواج التقليدية من مهارات كان الناس في الماضي مهتمين بتنميتها في الإناث (كالطاعة، والانسياق، والقدرة على احتمال أعمال يدوية شاقة كتنظيف المنزل والطبخ… إلخ).

والمجتمع الحديث أقلُّ تدينًا من المجتمعات القديمة، وأقل قابليَّةً للانسياق وراء أحكامٍ مطلقةٍ، وأعرافٍ نصَّ عليها القدماء، ولذلك لم تعد الحِكَم والأمثال والعقائد المُداوية لثغرات منظومة الزواج، مجديةً في هذا العصر، ولا سيما أن البناء الميثولوجي الذي إليه استندت هذه القيم، لم يعد ملائمًا لهذا العصر، ولا مُقنِعًا للناس، وإن بدوا ظاهريًّا مؤمنين به، بحكم التعوُّد والتنشئة، لا بحكم الاقتناع.

ومن المنطقي أن يقترب الناس من الفطرة بسبب ابتعادهم عن الهيكل الأخلاقي المتصدِّع. والفطرة البشرية تُقابلنا فيها كلمات رنانة مرعبة مثل: البقاء للأصلح، والانتخاب الطبيعي، وتنازع البقاء. وإن كانت القيم القديمة ساعدت على توفير الشركاء الجنسيين للنساء القبيحات والضعيفات والمَسْحَاوات غير المُثيرات، بسبب الانغلاق وتقييد العلاقة بين النساء والرجال قبل الزواج، فإن هذه القيم بليت في هذا العصر، وأعلن الانتخابُ الطبيعيُّ عن نفسه بهذه الكلمة المفزعة: (العنوسة). تأمل في ملامح أغلب عرائس هذا الزمان وأجسادهن، وسوف تجد أن في كلِّ واحدةٍ ملمحًا جنسيًّا فتانًا، تُفصح به الطبيعة عن أهدافِها، وتأمَّل كذلك في أغلب العوانس، وسوف تعرف كيف استبعدتهن الطبيعة من سباق التكاثر!

الانتخاب الطبيعي في المجتمع المصري

لعلَّ تجاور الانتخاب الطبيعي في المجتمع المصري، ومنظومة الزواج بما تحمله من آثار القيم والأعراف القديمة، أن يكون من الأسباب التي ضاعفت حالات الطلاق. فالزواج (الذي كان تنظيمًا اجتماعيًّا الغرض منه تنشئة الأطفال وملازمتهم أطول فترة حتى يتعلموا الاعتماد على أنفسهم، ويتمكنوا من التكاثر) تحول إلى فعل غريزي (يحرِّكه الدافع الجنسي، ولا يطمح منه الذكر إلا إلى قذف منيِّه في التجويف المظلم المبلَّل بالمُخاط، واستيلاد زوجته/دميته الجنسية قبل أن يفرَّ منها إلى أنثى/دمية أخرى). فأعلن هذا التناقضُ الاجتماعيُّ عن نفسه بسلوك (الطلاق المبكر)، وأصبح الزواج مجرد (دعارة باهظة التكاليف) تستمر لمدَّة عام أو أقل!

إذًا أصبحنا اليوم بإزاء منظومةٍ زالت العناصرُ المعضِّدةُ لاستمرارِها، وضعفت العقائد والأعراف الساترة لثغراتها، ولم تعد ملائمةً لهذا العصر، وبرغم ذلك لم نزل مصرِّين عليها، برغم أنها أعلنت عن فشلها بمجتمعنا، عن طريق إحصائياتٍ لا تكذب، تفيد بأن حالات الطلاق المبكر تزايدتْ جدًّا في الأعوام الأخيرة!
فما العمل؟!

يجب أن نعود إلى رد فعل (جاكوب) بصدد قضية الزواج والإنجاب. هل يُعَدُّ رفض الزواج والإنجاب في هذا العصر قرارًا حكيمًا، برغم عقلانيته؟! بالتأكيد لا نتمنَّى لجنسنا البشري أن ينقرض، ولذلك لا بد من التوفيق بين تطورنا العلمي وعقائدنا. ولا بدَّ من المواءمة بين غرائزنا ونظمنا الاجتماعية. ولا بد من تمهيد الحياة أمام المواليد الجدد، فلا يعانون مثلما عانينا، ولا يعاني من أفعالِهم غيرُهم. الزواج بصورته التقليدية غير صالح لهذا العصر، ولذلك لا بد من استحداث منظومة جديدة، سأفصِّلُ الحديثَ عنها في المقال القادم.

نرشح لك: اقتصاديات الزواج في مصر وترشيد النفقات التفاخرية

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: محمد أحمد فؤاد

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا