وطنيَّةٌ مزيَّفة
في عهد الاستبداد تسود مفاهيم تكتسي لباس الوطنيّة والقداسة، وتكتسب صفتي التسليم والبداهة من كثرة تكرارها، لكن بتتبّع حقيقتها يتبيّن أنها لا وطنيّة ولا مقدّسة، وإنما هي وطنيّة مزيّفة فصَّلها الاستبداد لتُسنِد حكمه وتُديم سلطانه.
1. البحثُ عن شرفٍ مُزيَّف
يستطيع الإنسان الحياة دون طعام لفترة، لكن لا يستطيع الحياة دون كرامة ولو لثانية.
لذلك يبحث المواطنُ المقهورُ العاجزُ عن أيِّ مصدرٍ للفخر والعزّة والشرف، لكن في عصر الاستبداد يشهد المواطن انهيار كل مقومات الفخر والشرف، فلا وطن يُفتخَر به، ولا إنجازات تعزِّزُ قدره، ولا كرامة لمواطن يتمسَّكُ بها، ولا علم مفيد، واعتمادًا على هذا الواقع المرير فالمتوقع أن يكون المستقبلُ أَمَرَّ وأسوء، لذلك تزدادُ الحساسيّة تجاه التفاهات، فيسارعُ العاجز لاستدعاء أي موطن فخر وشرف تبقَّى له ليتشبث به، باعتباره الحائط الأخير، حتى لو كان وهمًا أو خرافة أو رمزًا فارغًا، لذلك في عهود التخلَّف والرجعية تزداد حماسة الناس وحساسيتهم تجاه الأمور التافهة السطحية.
التفاخرُ بالماضي ولو كان وهمًا
لا يبقى أمامَ المواطن العاجز سوى إنجازات أجداد من قرون فاتت، ورموز جوفاء بقيت له يتمسَّحُ بها، لذلك يتمسّك المواطن بهذه الباقيات الصالحات حتى آخر نفس، فتراه مُرهَف الحسِّ وسريع الغضب والاستشاطة نحو هذه الرموز، فيتحوَّل إلى ثائر عظيم، وجندي غيور إن أهنتَ أحد الرموز القديمة وعمل الأجداد السابقين، كأن لسان حاله يقول: “لم يبق لي إلا هذا الإنجاز أرفعُ به رأسي، وأعلِّمه أولادي، وأحفظ به سمعتي، فلا تُسقِط ورقة التوت التي أحفظ بها شرفي، واتركني أفتخر به ولو كان وهمًا، ولا تخبرني بالحقيقة إن كانت موجعة، ودعني أحتفل كل عام بإنجاز الأجداد حتى لا أموت من الحسرة والغم”!
وبذلك أصبحت الاحتفالات السنويَّة هي المُخدّر السنوي تحت عنوان: (لا تنظر للحاضر، بل انظر إلى الماضي السحيق، هناك تجد الفخر)، ونعيد الاحتفال مرة بعد مرة، حتى نحتفل بأننا نجحنا بعمل احتفال عظيم، ونُكرِّم الأبطال الذين نجحوا في تنفيذ الاحتفال، فنقيمُ لهم حفلة!
وبالتأكيد ليست المشكة في الفخر بإنجازات الأجداد، بل هو أمرٌ بديهيّ وصحيّ، لكن المشكلة في ثلاث درجات:
- المُبالغة في الفخر بإنجازات قديمة ليست من صنع أيدينا.
- والأسوأ: الاكتفاء بإنجازات الأجداد، كأننا لا نحتاج إلى إنجاز جديد.
- والأخطر: اختلاقُ إنجازات وهمية، ورموز جوفاء، وأحداث مكذوبة، وخرافات أسطورية، فهُنا أصبح الافتخار أفيونًا مغيّبًا عن الواقع!
يقول د. مصطفى حجازي: “يهربُ الإنسان المقهور في أمجاد الماضي، ويتيه نشوان في مظاهر عظمة تاريخه وتراثه. وهو يختار من هذا الماضي الذي يُشكِّل الخير كله، على عكس الحاضر الذي يُشكِّل الشر كله، مقياسًا للحياة: تلك كانت الأيام، تلك كانت الحياة. وفي هذه الرجعة إلى الماضي يتماهى الإنسان المقهور خصوصًا بالبطولات العسكرية، بخوارق الفروسية، وبكل مظاهر الأبّهة في قصور الخلفاء والأمراء. ويحدث تضخيمٌ مُبالغٌ فيه، أو دون حدود، لتلك البطولات والأمجاد”(1).
2. البحث عن عدو وهمي
العدو هو أكبرُ نعمة للمُستبدُّ، فلا يوجد في التاريخ مُستبدٌّ لم يتخذ لنفسه عدوًا، إما عدوًا خارجيًا، أو جماعة داخلية، وحتى لو وصل الأمر أن يخترع هو العدو، ويفجِّر الطُرق ويخلق إرهابًا ليظهر للناس أنه يوجد عدو يتربص بهم.
ومن فوائد العدو للمُستبدّ:
– العدو يوفِّر تبريرًا لوجود المُستبد؛ ففي الوضع الطبيعيّ يَحقِّ للشعب أن ينتخب رئيسه كما يريد، لكن عند وجود عدو، فالوضع لا يسمح برفاهية الانتخاب، والاختلاف، والانشغال بخلافات سياسيّة داخلية، بل نرتضي هذا الرئيس حتى تنتهي المِحنة وتزول الغُمة! وهي لا تنتهي أو تزول أبدًا، إذن فليبقى الرئيس أبدًا!
تقول بسمة عبد العزيز: “إن لم تتوفر للرئيس شرعيةٌ قانونيةٌ أو عرفيةٌ لوجوده، يلجأ إلى خلق شرعيةٍ جديدة وهي شرعيةُ الإنقاذ؛ إذ يقدِّم نفسه إلى الجماهير باعتباره المُخلِّص من الأخطار والأعداء وقوى الشر”(2).
– القضاء على العدو هو أعظم إنجازات الرئيس!
حين يفشلُ الرئيس في تحقيق أي إنجاز حقيقيّ، فهنا يأتي دور العدو؛ إذ يُظهِر أن مجرد حجب خطر العدو، وتأميننا من العدو هو على الأقل دورٌ عظيم للرئيس، وتتدنى طموحات الشعب، فبدلًا من أن يقول: أنا أحلم وأرغب في تحقيق كذا وكذا، يقول: أنا أرغب ألا يتمكن الأعداء منَّا، ولا نتدهور لنصبح مثل البلاد المحتلة!
لذلك الشعب المُشبع بهذه الفكرة يتقبل أن يسرق الرئيسُ ويرتشي ويستبد ويظلم في مقابل حمايتنا من العدو! بل على استعداد أن يضحي بحياته للدفاع عن الرئيس؛ لأنه يعتبر بقاءه هو الحصن الأخير، السد الذي إن زال، ستغرق البلاد في الفتن والخراب والاحتلال والإرهاب!
– العدو يوفر غطاءً لقرارات الرئيس؛ ففي الوضع الطبيعيّ يجب أن تخضع قرارات الرئيس للفحص والنقد والتحليل والمراجعة، أما عند وجود عدو، فالوضعُ ليس طبيعيًا بل هو وضعٌ استثنائيٌّ أقرب للوضع العسكري في حالة حرب، أي حتى لو كان قرارُ القائد خطأ، فأطعْ أمر القائد، ثم تظلَّم من الأمر فيما بعد، ومن أدبيات العسكرية: الاتفاق على خطأ خيرٌ من الاختلاف على صواب! ومن شعارات المرحلة: “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”.
فحين يقول الرئيس: “قررتُ كذا، حتى لا تحدث الكارثة ويتمكّن منكم الأعداء”، فالشعب لا يفكر في القرار قدر تفكيره في الكارثة ورعبِهِ من الأعداء!
– العدو يوفّر شماعة الأخطاء؛ فلا أحد ينكر الوضع الفاشل الذي تؤول إليه الدولة، ولا يوجد مواطن واحد لم يسأل نفسه: من السبب؟ من المسؤول عن كل هذا الخراب؟
والحل: اصنع عدوًا وهميًا، انفخ في نار نظرية المؤامرة، واقنع شعبك أن العالم كله يتآمر علينا، وقوى الشر تتربص بنا، والإرهاب من خلفنا، والمُحتل على حدودنا. لذلك يجب أن نصبر على مصائبنا، ونتحمَّل قرارات الرئيس بالتقشف، ولولا العدو لكانت بلادنا جنة، فحسبنا الله في هذا العدو الذي حرمنا ومنعنا وأفشلنا وخلَّفنا!
حين أحرق نيرون روما لم يكتفِ بتبرِئة نفسه، فكان ضروريًا أن يأتي بأحد ليتحمل غضب الشعب، فأطلق شائعة بين الناس أن المسيحيين هم الذين أحرقوا روما، فطاردهم الغوغاء في الشوارع وقتلوهم(3)!
– التخلّص من المعارضين:
حين يعارضك أحد، أو يثور الشعب ضدك، فالتحليل السياسي جاهز: هؤلاء المعارضة هم جواسيس العدو في بلادنا، والطابور الخامس، ومُمولين من العدو، ويوجههم العدو، لك إن قتلتهم أمام أعين الناس، فلا بواكي لهم!
هذا العدو المتوهِّم يتحكم في أخلاقيات الشعب وسلوكياته ونمط حياته، فلم يعد متفائلًا بالمستقبل، مخططًا للبعيد، بل يتملَّكه الخوف، ويولي أهمية قصوى للأمن، ويختارُ دائمًا بين السيء والأسوأ، ويدفن طموحاته وأحلامه، ويستتر خلف رئيسه الحامي للبلاد، ويتغافل عن عيوبه وخطاياه مقابل شراء أمانه وسلامته.
يقول د. مصطفى حجاي: “الوسيلة الأكثر شيوعًا في العالم المتخلف هي توجيه العدوانيّة إلى جماعات خارجيّة من خلال التعصّب العرقي أو الطائفي، ثم يعلن الرئيس الحرب على هؤلاء الأعداء الوهميين، وبذلك يربح المستبِدُّ مرتين؛ مرة بصرف الغضب الشعبي عنه وتحميل الأعداء مسؤولية أي خراب، ومرة حين يقود لواء الحرب ضد الأعداء فيعود في الصورة كبطل يجب أن يلتف الشعب حوله”(4).
مثال (1): السيسي أو سقوط الدولة
اتّخذ السيسي من سقوط الدولة العدو والفزَّاعة التي يرعب بها الشعب، فكثيرًا ما لوّح بهذه الفزاعة في خطاباته.
فقال: “كان التخطيط كله هو إسقاط هذه الدولة“(5).
وقال: “الدولة التي تسقط لا تقوم مرة أخرى، انظروا إلى سوريا واليمن والصومال وأفغانستان. حين يحدث فراغ، تتحرك قوى الإسلام السياسيّ، التي تتصور أن لها حق مقدّس في الحكم، وإما أن يحكموا الناس أو يقتلوهم”(6).
وقال: “الجيل الرابع من الحروب يتم استخدامه في مصر، ولو سقطت مصر، ستسقط المنطقةُ بأكملها”(7).
واعترف بوضوح أنه يستخدم هذه الفزاعة ويمليها على الشعب، فقال: “يجب أن يكون لدى الناس فوبيا من إسقاط الدولة، وعلى الإعلاميين والمثقفين والمفكرين الاهتمام بهذا الموضوع”(8).
وبعد أن سيطر الرعب في نفوس الشعب من هذه الفوبيا، جاء دور المرحلة الثانية: الاعتراض على الرئيس سيهدم الدولة، ومجرّد خروج مظاهرة تعترض على سياسات الرئيس، ستؤدي بالضرورة إلى انهيار الدولة بأكملها، وبالتالي فليعلم الشعب أن أعداء الوطن المخربين هم هؤلاء الشباب المتظاهرين!
فقال: “مظاهرتان يهدّان البلد”(9).
وحين سُئل: “هل التظاهر يسقط الدولة؟ فأجاب: نعم”(10)!
والآن يأتي دور المرحلة الثالثة: أنا أو سقوط الدولة؛ فكثيرًا ما علَّق السيسي استقرار الدولة وأمنها على وجوده هو بالذات.
فقال: “أنا أعرف مصر ومشكلاتها كما أراكم الآن، فلا تسمعوا لأحد غيري، ولن أسمح بتقطيع مصر وسقوطها، ومن يقترب من مصر سأمحوه من فوق الأرض، ومن يريد حفظ مصر معي فأهلًا به، وإلا فلتصمتوا”(11).
وقال: “قسمًا بالله من يرد تضييع مصر، فليتخلص مني أولًا، وأمن واستقرار مصر ثمنه حياتي وحياة الجيش”(12).
مثال (2): عبد الناصر يفجِّر القاهرة!
أتراني حين قلتُ: “إن المستبد إن لم يجد عدوًا فهو يخترعه” كنت أبالغ؟!
اتخذ مجلس قيادة ثورة يوليو 1923 مجموعة من القرارات التعسّفية ضد المعارضة، مثل وقف العمل بالدستور، وحل البرلمان، وحل الأحزاب، وحل جماعة الإخوان المسلمين، واعتقال معارضين، وفض اعتصام عمال كفر الدوار بالقوة، ومحاكمتهم أمام محاكم عسكرية، وإعدام عاملين.
وكان محمد نجيب رافضًا لهذه الإجراءات، ويريد تسليم السلطة إلى سلطة مدنية تتمثل في انتخاب مباشر للجنة تأسيسية تضع الدستور وتقوم بالمهام النيابية، لحين انتخاب برلمان في أسرع وقت.
وبذلك ثار خلاف بين عبد الناصر ومحمد نجيب، وهو في الحقيقة خلاف بين الحكم العسكريّ والحكم المدنيّ، الحكم الفرديّ والحكم المؤسسيّ، الديكتاتورية والديمقراطية، وحين زادت ضغوطات وتحكمات عبد الناصر وتهميش محمد نجيب، أُضطر محمد نجيب لتقديم استقالته.
لكن ثار الشعب لعودة نجيب، وبالفعل عاد رئيسًا، وهنا سجل الشعب وقوفه مع الديمقراطية والحكم المدني، وتم الاتفاق على خارطة الطريق التي وضعها محمد نجيب: انتخاب لجنة تأسيسيّة لوضع الدستور، ثم انتخاب البرلمان، وإلغاء الأحكام العرفية، وإلغاء الرقابة على الصحف، والإفراج عن المعتقلين.
وقال محمد نجيب: “الوصول إلى الحياة السياسية الكاملة كان وما زال سياستي التي ظللت أعمل لها في الفترات الماضية، ولم أغفل عنها يومًا واحدًا، إيمانًا مني بأن إشراك الشعب في أمور بلاده هو الضمان الوحيد ضد كل طغيان”(13).
لكن عبد الناصر لم يرتضِ هذا الوضع، ولم يكتم معارضته، فقال في مؤتمر عام: “لقد أشاع المغرضون أن وحدتنا قد تفككت، وأذاع المضللون أن قوتنا قد تحللت. فخرجت الرجعية من جحورها يسندها الاستعمار”(14).
وقال في اجتماع لمجلس قيادة الثورة: “شعبنا لا يستطيع تقدير مصلحته الحقيقية بسرعة، وربما لا تكفي ثلاث سنوات كفترة انتقالية، وشعبنا لا يمكنه تحمل مسئولية الحرية، وقد سبق للإقطاعيين أن اشتروا أصوات الناخبين. والشعب الذي لا يستطيع أن يتحمل مسئولية الحرية، لا يمكنه أن يستمتع بالحرية”(15).
لكن كيف يقنع عبد الناصر الشعب والجيش بالطريق الذي اختاره؟
الإجابة: اصنع عدوًا، وخيّرهم بين طريقك وطريق العدو.
وهو بالفعل ما قام به عبد الناصر؛ إذ دبَّر ستة انفجارات وقعت في القاهرة، منها انفجاران في جامعة فؤاد الأول، وانفجار في محطة السكة الحديد، وانفجار في جروبي.
يقول خالد محيي الدين: “روى لي بغدادي (وعاد فأكّد ذلك في مذكراته) أنه في أعقاب هذه الانفجارات زار جمال عبد الناصر في منزله هو، وكمال الدين حسين، وحسين إبراهيم، وأخبرهم عبد الناصر أنه هو الذي دبَّر هذه الانفجارات لإثارة مخاوف الناس من الاندفاع في طريق الديمقراطية، والإيحاء بأن الأمن قد يهتز وأن الفوضى ستسود”(16).
ثم حرَّض اتحاد النقل المشترك على الإضراب عن العمل، فحدث شلل لكل مواصلات القاهرة.
ثم أخرج مجموعة من العمال في مظاهرات، واعتدوا على الفقيه الدستوري عبد الرزاق السنهوري، وكان هتافهم: “تسقط الديمقراطية، تحيا الديكتاتورية”، وطالبوا بإلغاء الأحزاب، وعودة مجلس قيادة الثورة!
ثم تمردت مجموعة من قادة الأسلحة الموالين لعبد الناصر، وأعلنوا رفضهم لكل قرارات محمد نجيب، وهددوا مجلس قيادة الثورة بأنهم معتصمون، وإن لم تتحقق مطالبهم، فليتحمل المجلس العواقب!
ومن هنا كان أمام البلاد طريقين لا ثالث لهما: طريق الفوضى والتفجيرات وتفكيك الجيش وشلل مواصلات القاهرة، أو تبقى السلطة في يد عبد الناصر، وبالفعل تحقق مراده، وتمكَّن عبد الناصر، واُعتقل محمد نجيب، ويرجع الفضل للعدو الوهمي المختلق: الفوضى المفتعلة!(17)
3. تحريف الوطنيّة
في عهد الاستبداد يُحرَّف مفهوم الوطنية ويصبح من ينتقد الحكومة، أو يوثق مشكلاتها، أو يُجْرِي استطلاعات رأي ضد الحكومة، يُتهم بالإساءة إلى الوطن، وتشويه صورته، أي أن الحكومة أصبحت هي الوطن!
واتساقًا مع هذه الميوعة في تعريف الوطنية حذفت الشرطة شعار: “الشرطة في خدمة الشعب” وأصبح: “الشرطة والشعب في خدمة الوطن”، ولأن الحكومة هي الوطن، فالشرطة لا يهمها إنقاذك، بل يهمها ويشغلها إنقاذ الحكومة وخدمتها!
إن تعريف المواطن الشريف قد تغيّر واختل، فأصبح الفلاح الصابر الراضي الحامد الشاكر الطيب الصبور الحليم هو المواطن الأصيل ويمثل معدن البلد. وأصبح المواطن المخلص هو المواطن الذي يقف خلف رئيسه، ويمدح وطنه مهما حدث، ولا ينتقد أو يتمرد، بل يظل يعمل ويُنتِج فقط!
أما هؤلاء الشباب الذين تطلعوا لأوروبا، فعرفوا كيف تقوم الدول الديمقراطية، وكيف يحيا شعوبها أحرارًا، وكيف تكون كرامة المواطن وحقوقه، فقارنوا بلادهم بغيرهم، فسخطوا على حكومتهم، وقاوموا السلطة، واعترضوا على الحاكم، فهؤلاء شباب عديمي التربية والأدب، ويريدون إسقاط الدولة، والاستقواء بالغرب، ومتعاونين مع الشيطان، ويطالبون بالاحتلال الأجنبي!
وهذا الخلل يأخذ أقصى منحنياته وأخطر صوره حين يصل لشحن الشرطة ضد المعارضين/ المتظاهرين/ الثوار، فيقنعوهم أن هؤلاء الشباب هم الخونة، الجواسيس، فينقض العسكري على المعارض كما ينقض على عدوه، ويتفنن في تعذيبه، فينهش جلده ويفتك لحمه وهو مقتنع أن ما يفعله خدمة للوطن، وعلى الوطن أن يحفظ جميله ويكرِّمه على عظيم عمله!
يقول الكواكبي: “الاستبداد يقلب الحقائق في الأذهان. فالاستبداد ساق الشعوب إلى اعتقاد أنَّ طالب الحقِّ فاجرٌ، وتارك حقّه مطيع، والمشتكي المتظلِّم مفسد، والنّبيه المدقق ملحد، والخامل المسكين صالح أمين. وقد اتَّبع الناس الاستبداد في تسميته النصح فضولاً، والغيرة عداوة، والشّهامة عتوًّا، والحمية حماقة، والرحمة مرضًا، كما جاروه على اعتبار أنَّ النِّفاق سياسة، والتحيُّل كياسة، والدناءة لطف، والنذالة دماثة”(18).
4. انعدام الوطنية
انفراد المستبد وحاشيته بقيادة البلاد دون أي مشاركة أو رقابة أو حتى إخطار للشعب، يعزل الشعب عن هذه الدولة، فلم تعد بلادنا، ولا مصالحنا، لذلك حين تُصدِر الحكومات بيانات تجد الشعوب في معزل عنها، فهي تصريحات الحكومة التي تعبر عن آرائها هي، ولا تمثلنا في شيء.
ولا يعتبر المواطن الدفاع عن هذا الوطن هو دفاع عن العِرض والشرف والأهل والهوية، بل هي بلد الحاكم، فليدافع هو عنها!
والنموذج المبكي لهذه النتيجة تجده في هزيمة 1967م؛ فبعد انسحاب القوات يروي عبد الفتاح أبو الفضل – نائب مدير المخابرات – أنه التقى بأحد الضباط الكبار، وسأله: لماذا لم تلتحموا مع قوات العدو؟ فأجاب الضابط: لم يكن لدينا كضباط الدافع لبذل أي مجهود، لأننا لو انتصرنا كنا سننتصر لأجل أن يصل شمس بدران – فتى القيادة المدلل – لأعلى المناصب، فهل كنت تريدنا أن ننتصر لأجل أن يصل الانتهازيون إلى أعلى المراكز؟!(19)
مثال: جيش محمد علي أم جيش مصر؟
فكرة بناء جيش
في عهد محمد علي لم تكن مصر دولة مستقلة ذات رئيس مستقل وجيش وطني، وإنما هي ولاية تابعة للخلافة العثمانية، ومحمد علي هو والٍ عثماني على مصر، وكل عام تتجدد ولايته بمرسوم من السلطنة، لكن محمد علي طمع في الاستقلال عن الخلافة، وتوسيع ملكه، واستدامة حكمه حتى الوفاة، وتوريث حكم مصر إلى أبنائه، لذلك أنشأ جيشًا ليحقق هذه الآمال والأحلام الشخصية الخاصة.
في البداية فكَّر محمد علي في تجنيد السودانيين، فأرسل حملات عسكرية من الأتراك إلى السودان لكن فشل الأتراك في المهمة، بسبب الأمراض التي تفشت بينهم، وعدم قدرتهم على تجنيد السودانيين، فتخلوا عن تجنيد السودانيين.
وهذا أول مؤشر يثبت أن هذا الجيش لم يكن مخططًا له أن يكون جيشًا مصريًا وطنيًا مكوَّنًا من مصريين بغرض حماية الوطن، بل كان مخططًا إنشاء جيش لمحمد علي لتحقيق أغراضه ومصالحه العسكرية، فلا يهم إن كان عساكر الجيش مصريين أو سودانيين!
بعد فشل تجنيد السودانيين لجأ محمد علي إلى تجنيد الفلاحين المصريين.
تهرب المصريين من التجنيد
اعتبر الفلاحون التجنيد هو عمل بالسخرة واستعباد مقنن، لذلك قاوموا التجنيد بكل طريقة ممكنة، مهما بلغت صعوبتها وألمها.
فقد وضعت الأمهات سم فئران على عيون أبنائهن لتحقيق عمى مؤقت، حتى لا يُجند الأبناء، وحين علم محمد علي، حكم بشنق هؤلاء الأمهات على مداخل قراهن ليكن عبرة!(20)
وبتر الرجال أصابع من أيديهم وأرجلهم للتهرب من التجنيد!
وقبل قدوم حملات محمد علي للقرى كان أهالي القرية يهربون من قراهم ويتركوا بيوتهم خاوية!
وقد يظن البعض أن تهرَّب المصريين من التجنيد نتيجة قصور وعيهم وضيق نظرتهم، لكن الحقيقة أن أحد أهم أسباب مقاومة المصريين للتجنيد أن التجنيد لم يكن محددًا بمدة، بل هو عمل دائم حتى يُصاب الجندي أو يُقتل، لذلك كان من المتوقع أن يصيب الرجال أنفسهم بأنفسهم ليُعفوا من التجنيد، وحين حدَّد محمد علي مدة للتجنيد كانت خمسة عشر عامًا!(21)
ولك أن تتخيل رجلًا يعول أسرته ويزرع أرضه يُجر إلى حروب خارج البلاد لا يعلم أسبابها، ولا نتائجها، ولا يعلم مصيره، ولن يعود لأسرته إلا وهو مُعاق لا يصلح للتجنيد ولا العمل أو جثة هامدة!
إن المصري لم يغب عنه عقيدة الجهاد، وكان سبَّاقًا في القتال، لكن ذلك حين يعلم أن داعي الجهاد هو دفاع عن دينه، أو وطنه، أو أهله، وهو ما حدث بالفعل حين قاتل المصريون الفرنسيين، رغم انعدام السلاح، لكن قاوموا بشرف حتى خرج المحتل. أما القتال من أجل نفوذ ومصالح الحاكم، فقد قرر المصريون التهرب منه.
حروب الجيش
خاض الجيش عدة حروب يجب الوقوف عند أسبابها ودوافعها لنتبين هل استفادت منها مصر، أم استفاد منها محمد علي؟
خاض الجيش حربًا في السودان بغرض ضمها لسلطة محمد علي، وتجنيد أهلها في بناء الجيش.
أمر السلطان العثماني محمد علي بإرسال جنوده إلى الحجاز لمواجهة الوهابية، فأرسل محمد علي حملة عسكرية إلى الحجاز وخلصها من يد الوهابية.
وأمر السلطان العثماني محمد علي بإرسال جنوده إلى اليونان لمواجهة تمرّد شعبها على الخلافة، وبالفعل أرسل محمد علي جنوده، لكنه لم يتمكن من المواجهة فانسحب الجيش المصري مخالفًا أوامر السلطان.
اعتبر محمد علي أن من حقه أن يُكافأ على مساعداته للخلافة، وأقل تقدير له أن يستقل بحكم سوريا، وطلب ذلك صراحةً من السلطانه، لكنه رفض، فوجَّه محمد علي جيشة نحو سوريا للسيطرة عليها، وفي سوريا تقاتل جيش محمد علي مع جيش الخلافة العثمانية، وانتصر جيش محمد علي(22).
وبذلك فكل هذه الحروب لم تكن دفاعًا عن الوطن المصري، ولا بدافع مصلحة المواطن المصري، وإنما المستفيد الوحيد منها هو محمد علي نفسه، فقد أطاع سيده، واتسع ملكه، وامتد نفوذه، وهزم أعداءه.
يقول خالد فهمي: “إن أية معركة من المعارك التي خاضها هؤلاء الجنود لم تُصوَّر لهم قبل خوضها كمعركة قومية، أي معركة يُشار فيها لكلمة (مصر) بمعنى الدولة القومية”(23).
وقد يظن البعض أن غرض هذه الحروب هو استقلال مصر عن الأتراك، وهو ما يعود على مصر بالخير، لكن محمد علي نفسه لم يلعب على هذا الوتر، ولم يحفز جنوده بهذا الحلم، بل كانت أهدافه واضحه وكلماته صريحة: “إحباط المؤامرات المضادة لأسرتنا”، “تدعيم أسس أسرتي الحاكمة”، “نحت مكانٍ لأسرتي وسلالتي الحاكمة في التاريخ لتظل في الذاكرة لأربعة أو خمسة قرون”، تلك هي كلمات محمد علي نفسه(24)ومصر حينئذ لم تستقل عن الخلافة العثمانية، وأحد أدلة ذلك أن السلطان العثماني عزل إسماعيل عن حكم مصر، بل المستجد الوحيد الذي حدث نتاج هذه الحروب هو فرمان السلطان العثماني عام 1841م الذي أعطى محمد علي حكم ولاية مصر حتى وفاته، وتوريث الحكم إلى أبنائه. أي أن مصر لم تستقل إداريًا، ولم تستفد شيئًا، وإنما المُستفيد الوحيد هو أسرة محمد علي!
إهمال الجنود
في فبراير عام 1832م تُوفي أحد ضباط الجيش (إسلام أغا)، وكان قد أوصى صديقه أن يبع متعلقاته ويشتري له كفنًا ويقيم له جنازة لائقة، لكن بعد الوفاة أمر الجيش باسترداد متعلقات الضابط؛ لأنها من أموال الجيش، ومنعوا الجنازة!
ولم تكن هذه حالة استثنائية، فبعد عدة أشهر تُوفي الضابط علاء الدين أغا، وكان قد أعطى مالًا لأحد لينفقه على أبناءه، لكن بعد الوفاة صادر الجيش هذه الأموال وأمر بأن أموال الجنود والضباط يجب أن تعود إلى الجيش!
يقول خالد فهمي: “آلاف الوثائق المتعلقة بجيش محمد علي وحملاته المختلفة تخلو ولو من وصف وحيد لجنازة، سواء لضابط أو جندي، وكما يتضح من المثالين السابقين لم يتم دفن المئات والآلاف من الجنود الذين ماتوا في حملات محمد علي بطريقة مشرفة، وانحصر اهتمام السلطات الوحيد بالموت في الإبلاغ عن تواريخ الوفاة بسرعة لكي توقف الرواتب، وكانت السلطات مهتمة أيضًا بالاستيلاء على متعلقات المتوفى، مدَّعية أنها أموال ميرية يجب أن تعود للحكومة”!(25)
“وكقاعدة عامة لم يكن يُسمح للمصريين بالترقي فوق رتبة (النقيب)، بل ولم يصل إلى درجة (نقيب) إلا عدد قليل أصلًا”!(26)
ومن المفارقات أن محمد علي فضَّل التركي المقاتل ضده على المصري المقاتل معه، فبعد حرب سوريا التي واجه فيها جيش الأتراك، عرض على الأسرى الأتراك الانضمام إلى جيشه، وعيَّنهم بالفعل في مناصب قيادية، مما استفز الجنود المصريين، فكيف نقاتل أحدًا بالأمس، ثم نجده قائدًا علينا اليوم؟!(27)
وجدير بالذكر أن محمد علي كان يتحدث التركية دائمًا، ولم يتحدث لغة المصريين قط!
وكانت نظرته للمصريين نظرة دونية وعنصرية فقال: “إن سكان ولايتنا، مصر، ثلاثة أنواع: أولها: أناس لا يعنيهم سوى أنفسهم، وثانيها: أناس طيبون، لكن يفتقرون إلى التحفظ، أما النوع الثالث: فلا يختلفون عن الحيوانات”. وحين أمر بتطبيق قانون أوروبي، أمر المترجم ألا ينسخ القانون كما هو، لأن القانون يناسب “الأوروبيين، وهم شعب متحضر، أما شعبنا فمثل البهائم البراري، فبالبداهة لن يناسبهم هذا القانون”(28)!
ورغم اهتمامه بإرسال بعثات علمية إلى أوروبا، إلا أنه رفض تعليم العامة المصريين(29)!
إن هذه العنصرية، والنظرة المتعالية على المصريين، وحصرهم في دور الفلاحين والخدم، هو ما تفشى وطفح الكيل في ثورة عرابي، حين ثار الجنود المصريون وطالبوا لأول مرة أن تصبح “مصر للمصريين”، ويتحرر جيش مصر من التبعية للملك ليصبح جيش مصر.
الهروب من الجيش
وصل عدد المنسحبين من الجيش 80 ألف جندي. وإذا علمنا أن عدد الجنود لم يصل إلى 130 ألف، فهذا يعني أن نسبة المنسحبين هائلة(30)!
وفي إحدى الحالات فقأت امرأة عين ابنها حتى لا يعود للجيش(31)!
يقول خالد فهمي: “إن مدى الانسحاب وانتظامه هو أقوى دليل على توق الفلاحين لمقاومة نظام الباشا، الذي وجدوه قمعيًا، ولا يُحتمل، ولا إنسانيًا”(32)!
وللإجابة على سؤالنا: جيش محمد علي أم جيش مصر؟
فقد كانت إجابة المصريين:
يقول خالد فهمي: “بالنسبة للفلاحين فإن الادعاء بأن هذا الجيش جيشهم وأنهم كانوا يحاربون من أجل أهدافهم هم كان سيبدو لهم بالتأكيد أكثر الادعاءات التي سمعوها سخفًا وأكثرها مدعاة للسخرية. لقد توصل الفلاحون إلى أن يروا في الجيش أكثر جوانب نظام الباشا مقتًا. فقد تم جرهم للخدمة فيه لمدى الحياة عمليًا، ولم يروا عائلاتهم ثانية. وطوال مدة تجنيدهم كان ضباطهم المتحدثين بالتركية يسخرون منهم ويضربونهم ويهينونهم. لقد رأوا في الجيش مؤسسة أصبحت تمثل سياسات محمد علي الوحشية اللا إنسانية، لذلك كانوا يكرهون هذا النظام الذي أجبرهم على أن يدفعوا دمائهم وحياتهم ثمنًا لتحقيق مجد محمد علي وأسرته. ربما لم يتركوا لنا كلمات مكتوبة للتعبير عن هذه الكراهية، لكنهم عبَّروا عنها بالانسحاب من الجيش، وتشويه أجسادهم للتهرب من التجنيد”(33).
أما عن محمد علي نفسه، فتظهر إجابته على السؤال في العَلَم الذي اختاره للجيش؛ فقد قرر أن يميز عَلَم جيشه عن جيش العثمانيين بعلامة مميزة، هذه العلامة هي: اسم محمد علي(45)!
فهو رسميًا وإعلاميًا واجتماعيًا: جيش محمد علي، لا جيش مصر!
النتيجة: وطن الملك، فليحمه الملك
قبل حكم محمد علي جاء الجيش الفرنسي إلى مصر عام 1798م بقيادة نابليون، ومنذ أن وطأ جنود الاحتلال الأراضي المصرية وقد ثارت نخوة المصريين وثورتهم وانتفاضتهم لمقاومة الاحتلال، وانتفض الأزهر وثار الطلاب خلف علمائهم، فقاوموا الجنود في الإسكندرية، وقتلوا ثلاثمئة جندي، وقاوموا في معركة شبراخيت، ومعركة إمبابة، ومعركة أبو قير، وثورة القاهرة، حتى الحُجَّاج بمجرد عودتهم من الحج تحولوا إلى ثوار وقاوموا الاحتلال. ورغم أن أسلحة وعدد المصريين لم يكن قادرًا على الصمود أمام أسلحة وعدد الجيش الفرنسي، ورغم أن المصريين انهزموا تقريبًا في كل هذه المعارك، إلا أن روح المقاومة لم تُقتل، وصمود المصريين لم يفتر، وتتابع هذه المقاومة أجبر الفرنسيين على الخروج من مصر بعد ثلاثة سنوات فقط!
أما بعد مجيء محمد علي إلى السلطة، وقد استبد بالحكم، وتخلص من كل معارضيه إما بالقتل أو النفي، ونزع السلاح من المصريين، وعزل بينهم وبين التدخل في سياسة البلاد، واستعان بالإنجليز لمساعدته على الانفصال عن الخلافة العثمانية، وسخَّر الجيش لخدماته هو، ولم يشعر الجندي قط أنه جندي في جيش مصر، بل هو خادم في جيش الملك.
كل هذه الخطوات قد سلخت المصريين عن أخلاقهم، ومقاومتهم، وعزيمتهم، فلم تعد البلاد ملكنا، ولا خيرها يعود إلينا، ولا سياستها من اختيارنا، إذن فليحموها هم، ويدافعوا عنها هم، وبهذه الانهزامية والسلبية دخل الاحتلال الإنجليزي البلاد، فلم يجد أي مقاومة، ولا ثورة، ولا صمود يردعه، فاستقر سبعين عامًا!(35)
وهذا الفرق الواضح يبرز كيف يطمس الاستبداد أخلاق الشعوب، فيزيدهم سلبية ويحرمهم الشجاعة والعزة والكرامة.
يقول محمد رشيد رضا: “جاء الجيش الفرنساوي، ولم تكن أيام قلائل حتى ظهر في البلاد القلق، ولم تنقطع الحروب والمناوشات، ولم يهدأ لرؤساء العساكر بال. يدلك على ذلك شكوى نابليون نفسه في تقاريره التي كان يرسلها إلى حكومة الجمهورية من اصطياد العربان لعساكره من كل طريق، واُضطر نابليون أن يسير في حكومة البلاد بمشورة أهلها، وانتخب من أعيانها من يشركه في الرأي لتدبيرها طوعًا لحكم الطبيعة التي وجدها.
وخرجت عساكر الفرنساويين من مصر.
وظهر محمد علي، ما الذي صنع؟
أخذ يستعين بالجيش وبمن يستميله من الأحزاب على إعدام كل رأس من خصومه، ثم يعود بقوة الجيش وبحزب آخر على من كان معه أولاً وأعانه على الخصم الزائل فيمحقه، وهكذا حتى إذا سُحقت الأحزاب القوية، وجَّه عنايته إلى رؤساء البيوت الرفيعة فلم يدَع منها رأسًا يستتر فيه ضمير (أنا)، واتخذ من المحافظة على الأمن سبيلاً لجمع السلاح من الأهلين، وتكرر ذلك منه مرارًا حتى فسد بأس الأهالي وزالت ملكة الشجاعة منهم.
ظهر الأثر العظيم عندما جاء الإنكليز لإخماد ثورة عرابي. دخل الإنكليز مصر بأسهل ما يدخل به دامر على قوم، ثم استقروا ولم توجد في البلاد نخوة في رأس تثبت لهم أن في البلاد من يحامي عن استقلالها، وهو ضد ما رأيناه عند دخول الفرنساويين إلى مصر، وبهذا رأينا الفرق بين الحياة الأولى والموت الأخير”(36).
***
إن الاستبداد هو احتلال للوطن، فلا يحتل الأرض فقط، بل يحتل معاني الوطنية والانتماء، فيزيح المواطنين عن الحكم، وينزع العَلَم ليضع صورة السلطان، ويمحو تاريخ الثوار والأبطال ليكتب سيرة الحاكم، ويختلق أعداءً وهميين، ويكتب تاريخًا مزيفًا، فيكفر الناس بالوطن!
المصادر:
1. (التخلف الاجتماعي) ص110
2. (ذاكرة القهر) ص201
3. (صناعة الديكتاتور) ص101، نقله عن (علم النفس والشائعات) ص11
4. (التخلف الاجتماعي) ص179، (الإنسان المهدور) ص120
5.
6. http://bit.ly/2GWi0XE
7. http://bit.ly/2GVseaG
8. http://bit.ly/2Jn2WVA
9. http://bit.ly/2J1HK8A
10. http://bit.ly/2LpculU
11. http://bit.ly/2VOB1EI
12. http://bit.ly/2vMLRNb
13. (الصراع الاجتماعي والسياسي في مصر) ص184
14. (الصراع الاجتماعي والسياسي في مصر) ص195
15. (والآن أتكلم) ص272
16. (والآن أتكلم) ص305
17. (الصراع الاجتماعي والسياسي في مصر) ص163-210
18. (طبائع الاستبداد) ص81
19. (كنت نائبًا لرئيس المخابرات) ص266، نقله (في تشريح الهزيمة) ص57
20. (كل رجال الباشا) ص175، 312
21. (كل رجال الباشا) ص314
22. (كل رجال الباشا) ص77-115
23. (كل رجال الباشا) ص304
24. (كل رجال الباشا) ص338
25. (كل رجال الباشا) ص247
26. (كل رجال الباشا) ص298
27. (كل رجال الباشا) ص299
28. (كل رجال الباشا) ص335
29. (كل رجال الباشا) ص335
30. (كل رجال الباشا) ص311
31. (كل رجال الباشا) ص312
32. (كل رجال الباشا) ص311
33. (كل رجال الباشا) ص329
34. (كل رجال الباشا) ص335
35. (ثورات مصر الشعبية) ص153
36. (مجلة المنار) ج5 ص175، مقالة: (آثار محمد علي في مصر) في 7 يونيو 1902.