المستبد العادل!

يعتبر البعض أن هذا الاختراع الوسطي (المستبد العادل) قد جمع كل المميزات: فوجود مستبد يحقق الحزم والأمن والوحدة، وعدله يحقق العدل والمساواة والتنمية!

أولًا: قانونًا

تخيل أن لديك مزرعة، ولا تجد وقتًا لإدراتها، فاخترت شخصًا ليتولى إدارتها، وبعد أن مكَّنته من مزرعتك قال: أنا أرى آرائك خاطئة، لذا لن أنفذ أوامرك، وسأعمل في المزرعة ما أراه أنا صحيحًا، ولن أمكِّنك من المزرعة بعد الآن!

لا شك أن المالك الحقيقي للأرض هم الشعب، وليست أي جهة مهما كانت، حاكم/ مَلِك/ حكومة، ولأن الشعب لا يمكنه مجتمعًا أن يدير وطنه، فهو يختار بإرادته حاكمًا وكيلًا عنه يدير شئون البلاد، والعلاقة بين الشعب والحاكم تقوم على أساس عقد بين طرفين، تكون الأمة فيه هي الأصيل، والإمام هو الوكيل عنها في إدارة شئونها.

ومن ثم فالحاكم ما هو إلا وكيل/ عامل/ أجير/ موظف عند الشعب المالك، وبالتالي فلا يحق له تحت أي اسم أو أيدولوجية أو منطق أن يستبد بالإدراة والحكم دون موافقة المالك الأصلي (الشعب) وإلا يعتبر سرقة واغتصاب لحق المالك، وخرقًا للعقد بين الشعب والحاكم، وعندئذ يحق للمالك فسخ العقد وعزل الوكيل عن منصبه. ولا يحق لأحد الدخول في تفاصيل رأي الشعب وتقييم نضجه أو رجاحة منطقه، فهو مالك يتصرف في ملكه هو كما يشاء.

ثانيًا: دينيًا

لا شك أن أعظم من وطأت قدمه على الأرض هو آخر رسل الله، المصطفى، رحمة الله للعالمين، ورغم هذه المكانة العظيمة للنبي، إلا أنه لم يستبد برأيه، ويحتكر الحقيقة في اجتهاده، ويكتم الأفواه، ويخرس المعارضة، بل كان أكثر الناس مشورةً، بل حين خالفه الصحابة، عمل برأيهم وأسقط اجتهاده.

إعلان

فلو كانت الاستنارة والعلم والتميز والحكمة مبررًا للاستبداد، لكان النبي أولى بهذا الاستبداد، لكنه لم يستبد قط.

ودعنا هنا نطرح سؤالًا شائكًا وخطيرًا: ماذا لو اختار الشعب اختيارًا يخالف الشرع الإلهي؟ هل يجوز للحاكم إجبار الشعب على الشرع؟

إن كان الإيمان أهم من الشرع، ورغم ذلك لا يسمح الدين بإجبار أحد على الإيمان، فالأولى عدم إجباره على اتباع الشرع.

يقول خالد محمود: “الناس في الدولة ثلاثة: 1. علماء الدين. 2. والحاكم. 3. وعامة الشعب، ويمثلهم نواب البرلمان.

العلماء لا يحكمون، بل ينصحون ويفسرون الشرع للشعب والحاكم. والطريق الوحيد لتطبيق الشرع هو إقناع الشعب بطاعة الشرع، ليختار نوابًا يعبرون عن إرادته. ثم يلتزم الحاكم بقوانين مجلس النواب.

أما أن يحكم عالم دين، أو ينفذ حاكم ما يراه شرعًا ضد إرادة الشعب، فهو يضر بنظام الدولة كله، ويترتب عليه منكر أكبر”.

ويقول أحمد الريسوني: “إذا افترضنا أن مجتمعًا إسلاميًا اختار غير الإسلام شريعةً أو اختار من الإسلام أمورًا ورفض أمورًا أخرى، فإن العمل حينئذ ليس هو لزام الناس وإكراههم وتطبيق هذا الإسلام الذي تفلتوا منه، بل الحل هو إقناع الناس وإعادتهم إلى رشدهم ودفعهم إلى تصحيح علمهم ومعرفتهم بالإسلام، وبعد ذلك نأتي إلى التطبيق، فلا نتصور أنه من الصواب تطبيق الإسلام على قوم أغلبيتهم يرفضونه أو يرفضون شيئًا منه”([1]).

ويقول الشنقيطي: “يترتب على كون الأمة مسئولة أمام الله وحده أنها لا مُكرِهَ لها في الدنيا، ولا يحق لحاكم متغلب ولا نخبة متسلطة إكراهها على ما يناقض إرادتها الجمعية، حتى لو كان ما يكرهها عليه حكمًا شرعيًا منصوصًا، وكيف يُكرِهُ الحاكمُ الأمةَ بما لا ترضاه وهو نائب عنها؟! بل الأمة تختار وتتحمل مسئولية اختيارها أمام الله.

فإن جاءت الإرادة الجمعية للأمة بما يناقض نصوص الوحي الإسلامي اختيارًا، فالواجب على المصلحين الحريصين على مكانة الإسلام أن يسلكوا طريق الإقناع، لا طريق الإكراه، لبناء إرادة جمعية جديدة منسجمة مع النص الإسلامي”([2])

فإن كان الحاكم لا يملك إجبار الناس على الشرع، وهو الحق المبين اليقين، فكيف يستطيع إجبارهم على رأيه الشخصي، وحكمه الخاص؟!

ثالثًا: منطقيـًا

1. المستبد العادل مفهوم متناقض

مصطلح (المستبد العادل) هو مصطلح متناقض ذاتيًا؛ لأن من لوازم الاستبداد: الانفراد بالرأي، وقطع الشورى، ومنع حرية التعبير، ومنع الحساب، ومنع الانتقاد، وعدم الشفافية، والتسلط، والجبر، والقهر. أما العدالة فهي تقتضي بالضرورة: الحساب، والنقد، والشورى، والحرية، وصون الحقوق. فكيف يمكن أن يجتمع الاستبداد بلوازه مع العدل ومقتضياته؟!

كتب إحسان عبد القدوس مقالًا بعنوان: (مصر تريد ديكتاتورًا، هل هو علي ماهر؟)

وجاء فيه: “إن علي ماهر معروف عنه أنه يعتدُّ برأيه إلى حد لا يسمح معه للوزراء بالتفكير. إن مصر تقبل منه أن يعتد برأيه إلى حد أن يصبح ديكتاتورًا للشعب لا على الشعب، ديكتاتورًا للحرية لا على الحرية”([3])!

إن تعريف الديكتاتور أنه لا يسمح بالحريات، فكيف يكون “ديكتاتورًا للحرية”؟! وما معنى “ديكتاتور للحرية لا عليها” أصلًا؟!

إن الجملة نفسها تحمل تناقضًا ذاتيًا، مثلما نقول: نحتاج موظفًا عاطلًا، ونحتاج عالمًا جاهلًا! فهو لا يرتقي لأن يصبح كلامًا خاطئًا، بل هو أدنى من ذلك، فهو كلام فارغ بلا معنى!

يقول أ.د. إمام عبد الفتاح إمام: “الواقع أن تعبيرات “الطاغية الصالح” أو “الطاغية الخيِّر” أو “المستبد المستنير” أقرب إلى تعبير “الدائرة المربعة”؛ لأنه إذا كان من صفات المستبد أن يكون ظالمًا جبارًا، فكيف يمكن في حكم العقل أن يكون عادلًا؟! وكيف يمكن أن يكون مستنيرًا من يرضى أن تكون رعيته كالغنم دورًا وطاعة، وكالكلاب تذللًا وتملقًا؟!”([4]) 

قد يعجبك أيضًا

وهذا التعبير (المستبد العادل) يُنسب إلى الإمام جمال الدين الأفغاني، لكن الصادم أنه هو نفسه قد تبرأ منه؛ فقد “سأل (محمد باشا المخزومي) الأفغاني: إن المتداول بين الناس على لسانك: “يحتاج الشرق إلى مستبد عادل” فأجابه الأفغاني: هذا من قبيل جمع الأضداد، وكيف يجتمع العدل والاستبداد؟! وخير صفات الحاكم: القوة والعدل، فلا خير بالضعيف العادل، كما أنه لا خير في القوي الظالم”([5]).

2. السلطة المطلق مفسدة مطلقة

عام 1971م قام فريق من الباحثين في جامعة ستانفورد بتجربة أُطلق عليها تجربة سجن ستانفورد؛ إذ أنشأوا سجنًا في قبو الجامعة، واختاروا مجموعة من الطلاب، اختاروهم بعناية بحيث يكونوا أصحاء ومستقرين نفسيًا، وقسموهم إلى قسمين عشوائيًا، قسم قام بدور المسجونين، وقسم قام بدور الحراس، وتم إعطاء الحراس السلطة المطلقة ليفعلوا ما يرونه مناسبًا للحفاظ على استقرار السجن.

وتم ملاحظة انحرافات مذهلة للحراس، إذ منعوا بعض المسجونين من دخول الحمام، وأجبروهم على تنظيف الحمامات بأيديهم، وتم رصد حالات تحرش جنسي، وإجبار بعض المسجونين على التعري!

وكان من المقرر استمرار التجربة لمدة أسبوعين، لكن هذه الانحرافات الخطيرة أضطرت فريق البحث لوقف التجربة بعد ٦ أيام!

والنتيجة التي أكدتها هذه التجربة والتي باتت مسلمة في علم النفس: السلطة المطلقة مفسدة مطلقة.

يقول خالد محمد خالد: “الحكم المطلق يُفسِد صاحبه ولو كان قديسًا.

إننا لا نَفسَد لأننا بطبيعتنا فاسدون، بل لأن هناك أشياء خارجة عنا تدعونا للفساد، وتزينه في قلوبنا. والسلطة المطلقة على رأس هذه الأشياء.

وإنه لتتراءى لي دائمًا إحدى المفارقات البليغة في حياة هتلر؛ فقد حدث وهو لا يزال بعد عضوًا عاديًا في حزب العمال الاشتراكي أن رأى كتابًا معروضًا في إحدى المكتبات، واستهواه الكتاب، لكنه لم يمتلك وقتها ثمن الكتاب، ولندعه يكمل القصة بنفسه، فيقول: “مضيت أبحث عن صديق يقرضني ثمن الكتاب، فلم أجد. وفي هذا الحين وقد تفتحت شهيتي للكتاب بشكل لا يُحتمل، فتمنيت أن أكون أحد الرأسماليين ساعة واحدة أصدر فيها أمرًا بوضع كل ثروتي في خدمة العلم وإباحة فرصته للجميع.

أرأيتم الروح النبيلة المتبدي في هذه الكلمات؟

إننا لا نشك في أن هتلر كان يعبر عن إحساس كريم صادق يومذاك، ولكن انظروا ماذا حدث بعد ذلك حين دَبَّ دبيب السلطة المطلقة في ضمير الرجل.

لقد انقلب عدوًا لدودًا للعلم والعلماء، وأنزل برُوَّاد المعرفة في أمَّتِه أمثال (فرويد) و(لودفيج) و(كريزلر) أقسى أنواع الاضطهاد، حتى أُضطروا للهجرة من وطنهم.

ووضع الجامعات وحركة التأليف والنشر تحت رقابة صارمة مبيدة، بل إن اشتراك العلماء في المؤتمرات العلمية الدولية صار خاضعًا لرقابة بوليسية مزعجة.

وفي (براغ) جرَّد جميع مكتباتها العامة من ذخائرها. وأغلق أقدم جامعات أوروبا، جامعة (براغ)، وأعدم ألفًا وسجن سبعة آلاف من رجال الثقافة.

ودبَّر لأساتذة جامعة (كراكاو) خدعة تشبه مذبحة القلعة، إذ دعاهم لمحاضرة، وبعدها كدَّسهم جميعًا في عربات إلى السجن!

وهكذا بدأ هتلر الإنسان يهيم بالعلم، وانتهى هتلر الديكتاتور إلى مقت العلم، وتشريد العلماء.

وهذا المثل يرينا كيف أن السلطة المطلقة لا تُتلِف وطنية صاحبها فحسب، بل وتُتلِف فطرته أيضًا”([6]).

ويقول (إتيان دو لا بويسي): “إن البؤس الذي ليس كمثله بؤس هو خضوع الشعب لمستبد لا يمكن أبدًا الاطمئنان إلى صلاحه؛ فبمقدور المستبد دائمًا أن يكون شريرًا متى أراد”([7]).

وقد تساءل أرسطو: ما الأنفع للدولة؟ أن يحكمها رجل فاضل أم قانون عادل؟ ورجَّح القانون العادل. وقد كان موفقًا في ترجيحه؛ لأن حضارات الدول تقوم على قوانين عادلة شاملة، ولا تقوم على الرهان على أشخاص يصيبوا مرة ويخطأوا مرات([8]).

مثال: القذافي .. من الشاب الثائر إلى ملك الملوك المجنون!

في سن الرابعة عشر آمن الطفل القذافي وردد أفكارًا أكبر من سنه، مثل: القومية العربية، ومقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وإلغاء المَلَكية، ونَظَّم مظاهرات تطالب بهذه الأفكار، حتى طُرد من مدرسته.

ونَظَّم القذافي مجموعة الضباط الوحدويين الأحرار، وتبرع لها بمرتبه، وأطلق عليهم: (الضباط الأحرار)، تيمنًا بحركة عبد الناصر في مصر. وفي عام ١٩٦٩م قامت هذه المجموعة بانقلاب عسكري على الملك إدريس الأول، وألغت الملكية.

وبعد تولِّيه السلطة أغلق القواعد العسكرية الأمريكية والبريطانية. وأعاد كتابة العقود مع شركات النفط الأجنبية ليزيد من حصة ليبيا من ٥٠ إلى ٧٩٪.

حتى هنا كان القذافي هو نموذج للطفل الواعي، والشاب المثقف، والجندي البطل، والثائر الجريء، والرئيس الرشيد، لكن عام ١٩٧٥م انقلب على مجلس قيادة الثورة، وتفرَّد بالحكم، ولم يعد يثق في أي أحد، فأمر بحل الجيش الليبي، وكوَّن كتائب أمنية يقودها أولاده وأقاربه.

ومن هنا كانت نقطة انقلاب في شخصية القذافي؛ فتفرُّدِه بالحكم، وعدم وجود رقابة تردعه، أو صحافة تفضحه، أو معارضة تقاومه، جعل هذه الشخصية تتحول وتتبدل، ويطغى عليها النرجسية، ولا يرى إلا رأيه، ولا يسمع إلا صوته، حتى صدر عنه بعد ذلك حفنة من القرارات الغوغائية، مثل:

– حين علم بمؤامرات ضده من أقاربه، قتلهم وعلَّق جثثهم على الأشجار، كما ربط جثث بعضهم بالسيارات وسحلهم في الطرقات([9])!

– وحين أخبروه بتمرد إسلاميين مسجونين، أمر بقتل ١٤٠٠ سجين، فيما عُرف باسم مذبحة بوسليم([10])!

– وعقب مشادة بين القذافي وولي عهد السعودية الملك عبد الله بن عبد العزيز، قرر القذافي اغتياله، وبالفعل أرسل اثنين للتنفيذ في السعودية، لكن فشلت المهمة([11])!

– وعام ١٩٨٦م أمر القذافي بتفجير مقهى في روما لقتل أمريكيين، كما أمر بتفجير طائرة أمريكية فوق الأراضي الاسكتلندية (لوكربي)، ففُرضت على ليبيا عقوبات، وتكلَّفت دفع تعويضات لأهالي الضحايا!

كما أمر بتفجير طائرة (يوتا) فوق النيجر لظنه بأن أحد قادة المعارضة على متنها([12])!

– وكان يسعى ليكون زعيم القارة الأفريقية، ولقَّب نفسه (ملك ملوك أفريقيا)، في حين أنه يحتقر قادة أفريقيا، فكان يقول: “هات العبد” ويقصد الرئيس الأفريقي الزائر([13])!

– في الثمانينات ابتدع بدعة ظالمة، وهي إعدام المعارضين في ساحات الجامعات والمدارس، حتى يرعب الأطفال والشباب قبل تفكيرهم في التظاهر ضده!

– غيَّر التقويم الميلادي، وأعاد تسمية الشهور، فمثلًا سمى شهر أغسطس: هانيبال، وسمى يوليو: ناصر!

– كما ألغى التقويم الهجري والميلادي، وتبنى تقويمًا جديدًا وفريدًا لليبيا فقط يبدأ من وفاة الرسول!

– واشتهر القذافي بوجود حارثات نساء كثيرات حوله دائمًا!

– وأعلنت وكالة Auto Leitner الهولندية أن القذافي طلب منهم سيارة تُصنع له خصيصًا تكلفت ١.١٧ مليون دولار([14])!

– وطبقا لتقرير أعدَّته قناة هولندية، فقد نقلت ١٧٩ طائرة ليبية ١٢ مليار دولار من ممتلكات القذافي إلى جنوب أفريقيا عام ٢٠١١([15])!

وقد شهد بهذا التحول الانقلابي في شخصية القذافي أصدقاؤه المقربون، فيقول صديقه عبد السلام جلود: “ما لا يعرفه الناس أن القذافي قبل ١٩٧٥ شيء، وبعده شيء آخر؛ فقد كان منضبطًا وحسن السلوك، لكن بعد هذا التاريخ انقلب على الضباط الأحرار، وأصبح أكثر عنجهية وتعاليًا، ولا يثق في أحد، وعيَّن أقاربه في وحدات الجيش والأمن. انتقل القذافي من ثوري إلى ملك ملوك، وهذا معناه أنه فقد عقله”([16]).

ويقول صديقه عبد المنعم الهوني: “القذافي وهو شاب في الكلية كان شخصًا مثاليًا، شديد التأدب في حديثه، شديد البساطة في عيشه، يكره البهرجه في اللباس، وكان شديد التمسك بمواقيت الصلاة.

أما بعد ١٩٧٥ كان القذافي يعتقد أن العناية الإلهية أرسلته. أنا لا أبالغ، هذه حقيقة مشاعره، فقد كان يضرب مثلًا شديد الدلالة، فكان يقول: المشركون كانوا يهزأون من نوح وهو يبني السفينة، لكنهم غرقوا، ولم ينجو إلا من ركب معه.

الحقيقة أن السلطة مفسدة، خصوصًا حين يقبض شخص واحد على كل الخيوط، ولا يكون هناك ضوابط أو مؤسسات أو محاسبة”([17]).

3. أحيانًا الاستبداد ينجح!

يستشهد البعض بحالات نجح فيها مستبدون في تحقيق نهضة اقتصادية!

نفترض وجود “حاكم مستبد، أسود اللون، اكتشف آبار بترول، في ظل زيادة سكانية، ونجح اقتصاديًا”.

هذه الحالة يسهل على أي أحد أن يدَّعي علاقة سببية بين أي صفة ويلصقها زورًا بالنجاح الاقتصادي؛ فقد يقول البعض: هذا الحاكم نجح؛ لأنه أسود اللون! ويقول آخرون: نجح؛ لأنه مستبد! وآخرون: نجح؛ بسبب الزيادة السكانية!

كل هذه الادعاءات بلا قيمة؛ لأنها لا تستطيع البرهنة على ربط السبب بالنتيجة، فحين نسألهم: كيف سبَّب سواد البشرة النجاح؟ كيف سبَّب الاستبداد النجاح؟ كيف سبَّبت الزيادة السكانية النجاح؟ لا يستطيعون بناء سلسلة من الأسباب والنتائج، لذلك فهي ادعاءات كاذبة.

أما المنهجية الصحيحة:

– بعض الصفات كان سببًا في النجاح، مثل اكتشاف آبار بترول، ودليل ذلك: أن اكتشاف البترول سبَّب بيعه للخارج، مما سبَّب زيادة الاحتياطي الأجنبي، مما سهَّل بناء بنية تحتية، مما شجَّع الاستثمار الأجنبي، مما فتح فرص عمل جديدة، فأدى إلى انخفاض الأسعار، فنتج نجاح اقتصادي.

هذه السلسلة تثبت أن اكتشاف آبار البترول هي فعلًا (سبب) النجاح.

– وبعض الصفات كان عائقًا أمام النجاح، مثل الزيادة السكانية، ودليل ذلك: لولا الزيادة السكانية، لقلت تكلفة البنية التحتية، ولزاد نصيب الفرد من الناتج المحلي.

كذلك الاستبداد كان عائقًا أمام النجاح، ودليل ذلك: لولا الاستبداد، لاستطاعت المعارضة تقديم حلول بديلة أفضل مثل تنقية البترول في الداخل، ثم بيعه كمنتج نهائي بدلًا من بيعه كمواد خام، ولولا الاستبداد لاستطاع الاعلام والسلطة الرقابية من كشف الفساد ومنعه.

وهنا يُطرح سؤال: كيف تكون هذه عوائق أمام النجاح، رغم أن النجاح تحقق بالفعل في وجودها؟

صحيح الزيادة السكانية والاستبداد كانت عوائق، لكنها لم تمنع النجاح تمامًا، بسبب قوة أسباب النجاح: آبار البترول.

من هذه المنهجية نستنتج أن الصياغة العلمية الدقيقة: هذا الحاكم نجح اقتصاديًا، بسبب اكتشاف آبار بترولية، ونجح رغم استبداده.

ومن هنا لا ننكر وجود مستبدين حققوا انتصارات، لكن الوضع الحقيقي أنه نجح (رغم) الاستبداد، وليس (بسبب) الاستبداد.

وكي يثبت أحد أن الاستبداد هو سبب النهضة، عليه أن يقيم علاقة سببية مطردة بين مقومات الاستبداد والنهضة، مثلًا يخبرنا أن الاستقلال بالرأي، وقمع المعارضة، وتسييس القضاء، وتزوير الانتخابات، وحجب الحريات، ومنع تداول السلطة، هي أسباب فعَّالة ومضمونة للنهضة الاقتصادية!

ليست المسألة أننا نلتقط خطأً أو إنجازًا لمستبد، ولا اقتناص خطأ أو إنجاز للديمقراطية، المسألة بشكل أعمق وأدق هي: أي المنهجين أقرب للصواب:

– أن نضع البلاد كلها في يد رجل واحد، بلا حساب، ولا معارضة؟

– أم نضع البلاد في يد سلطة تنفيذية منتخبة، وسلطة تشريعية ممثِّلة للشعب، وسلطة قضائية مستقلة، وصحافة حرة، وأجهزة رقابية كاشفة للفساد؟

أي المنهجين أقرب للصواب؟

حتى لو نتج عن المستبد إنجاز، فهي نتيجة شاذة واستثنائية، والأصل فيه الفساد. كذلك لو نتج عن الديمقراطية خطأ، فهي نتيجة نادرة واستثنائية.

المسألة أشبه بدجَّال نجح مرة في علاج مريض، وطبيب فشل مرة في علاج مريض، فيريد البعض إقناعنا بأن الدجل أفضل من علم الطب!

لكن يظل علم الطب كمنهج هو الأصح، حتى لو أخطأ مرة. والدجل لا ثقة فيه حتى لو أصاب مرة!


[1]. (الأمة هي الأصل) ص50

[2]. (الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية) ص532

[3]. (الديمقراطية أبدًا) ص69، (كلمتي للمغفلين) ص50

[4]. (الطاغية) ص63

[5]. (مسلمون ثوار) ص403

[6]. (الديمقراطية أبدًا) ص79

[7]. (العبودية المختارة) ص22

[8]. (السياسات) ص164، نقله (الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية) ص105

[9]. (في خيمة القذافي) ص٥٣

[10]. (في خيمة القذافي) ص٥٢

[11]. (في خيمة القذافي) ص١٨٥

[12]. (في خيمة القذافي) ص١٩٥

[13]. (في خيمة القذافي) ص١١

[14]. نورهان مصطفى، صُنعت خصيصًا له وسعرها 1,17 مليون دولار.. سيارة طلبها القذافي قبل مقتله معروضة للبيع، جريدة المصري اليوم، 26/1/2021

[15]. محمد موسى، أين ذهبت مليارات القذافي؟.. تحقيق هولندي يكشف أسرارًا لافتة عن الأموال الليبية المسروقة، موقع الجزيرة، 3/12/2020

[16]. (في خيمة القذافي) ص٧٩، ص٨٤، ص٨٩

[17]. (في خيمة القذافي) ص٩٧

إعلان

اترك تعليقا