قراءة في كتاب”فرضية التربية Nurture Assumption” لجوديث هاريس

قبل أن نتصفح معا هذا الكتاب الجميل ، دعوني أنبهكم يا أصدقائي إلى أن كتاب نظرية التربية كتابا صادم بمعنى الكلمة ، فمؤلفته طرحت طرحا جريئا للغاية يضرب بعرض الحائط بكافة كتب علم النفس _التي تتحدث عن دور الأب و الأم في تربية أولادهم_ و تنشئتهم بالصورة التي يصبحون عليها عندما يكبرون ، و ترى المؤلفة أنه إلى جانب الجينات الوراثية ، فإن اللاعب الرئيسي في تربية الأولاد و نمو شخصياتهم ليس الأباء أو أي شخص آخر من الاسرة ، و لكنه الرفاق و الأقران من حولهم. 

أولادكم ليسوا أولاداً لكم .. إنهم أبناء وبنات الحياة المشتاقة إلى نفسها .. فهم بكم يأتون للعالم ولكن ليس منكم … ومع أنهم يعيشون معكم فهم ليسوا ملكاً لكم ، فأنتم تستطيعون منحهم محبتكم ، ولكنكم لا تقدرون أن تغرسوا فيهم بذور أفكاركم ، لأن لهم أفكارهم الخاصة”  النبي، جبران خليل جبران

بهذه الأبيات عميقة الدلالة للشاعر العظيم جبران خليل جبران نقلا عن كتابه ” النبي”، افتتحت عالمة النفس الأمريكية الشهيرة جوديث ريتش هاريس ( Judith Rich Harris كتابها ” نظرية التربية : The Nature Assumption: Why Children Turn out The  way they do ، و الذي نشرت أول طبعة له في عام ١٩٨٩، بتقديم عالم اللغويات و النفس الشهير ستيفن بينكر.

الان ، هلموا معي لنتعرف على كتاب ” فرضية  التربية ” و الذي تبلغ عدد صفحاته الورقية ٤٦٢ ورقة .  و لقد استهل الكتاب  بمقدمة رائعة بقلم عالم اللغويات الشهير ستيفن بينكر ، يتبعها ١٥ فصل (و ملحقان) اشتملوا على شرحا مطولا لمعنى فرضية أو نظرية التربية أو التنشئة التي يتحمل مسؤلياتها الأهالي ، ثم استعراض أدلة هذه النظرية و تفنيدها بكل الوسائل العلمية، و صولا لفرضية ” الأقران Peer ” التي تبنتها المؤلفة .

و تجدون، فيما يلي ، بين يديكم أهم النقاط الرئيسية بهذا الكتاب ، و أنني على يقين أنها ربما تدفع الكثير منكم للبحث عن هذا الكتاب وقراءته، وإن كنت لا أدري هل له ترجمة بالعربية أم لا ؟

(أ) نظرية التربية التقليدية
إلى جانب دور الوراثة الذي لا ينكره أحد، و الذي يحلو لعلماء النفس تسميته ( nature ) ، في نشأة الطفل و نمو تكوين شخصيته ، تأتي البيئة أو التربية (nurture ) . و عند ترجيح كفة على أخرى نميل دوما إلى ترجيح النقطة الثانية أو ما يعرف بفرضية أو نظرية التربية، حيث يميل الناس إلى الاعتقاد بأن الأباء و الأمهات يساهمون بدور محوريا فيما يصبح عليه الأولاد ، والواقع أنه على مدار عقود طويلة ظل الناس يعتقدون أن شخصية الطفل هي نتاج لعاملين : الطبيعة (الوراثة) والبيئة ( كيف رباك ابوك و أمك ). و تمثل هذه القناعة جزءًا عميقا من ثقافتنا لدرجة أن علماء الإجتماع و النفس لم ينتابهم أدنى شك فيها.

إعلان

(ب) طرح جوديث هاريس
ترى جوديث أن النظرية التي تنسب الدور الرئيسي في التنشئة إلى الأب و الأم هي مجرد أكذوبة كبرى و اسطورة آمن بها الناس ، وأنه على الرغم من أن الأطفال يتعلمون أشياء من آبائهم ، فإن أكثر ما يتعلمونه يكون من رفقائهم من حولهم . و الحقيقة أن العالم الذي يتشارك فيه ابنك مع نظرائه و أقرانه هو الذي يشكل سلوكه ، و يعدل من سماته التي قد ولد بها، و يحدد أي شخص سيُصبِح عندما يكبر . و تتنبأ هاريس بان الطفل سيُصبِح ذات الشخصية التي هو عليها عندما يكبر اذا تركنا عالمه الذي يحيا فيه خارج بيته دون تغيير- نفس المدرسة و نفس الحي و الجيرة – و استبدلنا فقط آبائهم.

( ج) أدلة جوديث التي اعتمدت عليها في دحض نظرية التربية

اعتمدت جوديث على عشرات الدراسات و الأبحاث و المراجع و الإحصاءات التي تتحد نظرية التربية الأسرية ، و التي تتمثل اختصارا فيما يلي :

١- دراسات التوائم :
تعد الدراسات التي أجريت على التوائم المتطابقة التي تربت في بيئات مختلفة هي مصدر رئيسي للأدلة التي  استخدمتها المؤلفة لدحض فكرة أهمية الآباء والأمهات. و لقد اثبتت التجارب التي أجريت على التوائم المتطابقة التي تم فيها الفصل بين التووائم عند الميلاد ، و تم تربية كل غرد منهما  عند  أسرة منفصلة ، أنهما يظهران سمات مشتركة كثيرة متشابهة بشكل منها ، و الذي يعكس التشابه في الجينات الوراثية . و الغريب أن التوائم التي يتم تربيتها في نفس البيت و مع نفس الأسرة لا تظهر سمات متشابهة بصورة أكثر .

٢- أطفال المهاجرين و تعلم اللغة :
تمثل خبرات أطفال المهاجرين تعزيزا هاما  لطرح هاريس حول أهمية الأقران و الصحاب. على سبيل المثال، تشير هاريس إلى قصة عائلة بريطانية انتقلت إلى إيطاليا. نشأ الأبن لا يتحدث الإيطالية فقط مثل أي مواطن إيطالي ولكنه ، لشقاء أبيه، تبنى الثقافة الإيطالية. وهناك حالة أخرى تتعلق بالأسرة التي انتقلت من بولندا إلى الولايات المتحدة. وعلى الرغم من أن العائلة لم تتحدث إلا باللغة البولندية في المنزل، إلا أن ابنها تمكن من يتحدث الإنجليزية في وقت قريب كما لو أن أسرته كانت تسكن في الولايات المتحدة لأجيال.

تشير هاريس إلى انه “إذا كانت ثقافة مجموعة الأقران تختلف عن الأهل، فإن مجموعة الأقران تفوز دائما. و يتعلم -الطفل من الآباء الوالدين أو الآباء الصم يتعلم دائما لغة أقرانها وتفضل ذلك على اللغة التي علمها والديها. تصبح لغتها الأم .

٣- مجموعات الرفاق و الأقران peer group
أظهرت الدراسات الخاصة بنمو الأطفال و مجموعة الأقران و الرفاق أن تتباين سمات هذه المجموعات عن بعضها البعض ، و يختلف أعضاء كل مجموعة عن أعضاء المجموعات الأخرى. و عندما يبلغ الطفل سن السابعة أو الثامنة يبدأ في تكوين صورة لنفسه بالمقارنة بالرفاق و الأقران ، و يتبنى دورا قد يستمر في لعبه طوال عمره.و الحقيقة أن الطفل لا يتعلم في منزله الصورة التي سيكون عليها ، لكنه يتعلم من المجموعة التي ينتمي لها ، و قد يتعلم من البيت هذه الأشياء التي لا تتعارض مع مفاهيم الأقران ، و تكون هامشية بالنسبة لاهتمامه .

٣– انحياز الدراسات السابقة:
– كشفت هاريس عن أن النتائج التي طرحتها أبحاث علماء نفس نمو الاطفال ، و التي تؤيد نظرية الدور الرئيسي الأب و الأم في تنشئة أولادهم أغلبها منحازة ، و أن نتائج علاقات الارتباط بين شخصية الطفل و تربيته لا يمكن الوثوق بها حيث لا يمكن أن ينتزع على سبيل المثال العلماء ٥٠٠ طفل مثلا من آبائهم ليجروا عليهم التجارب.

– لم يتمكن الباحثون من إيجاد أي ممارسة تربوية للأطفال (من قبل الاباء) يمكنها التنبؤ بسمات شخصية للأطفال أو انجازاتهم أو مشاكلهم خارج البيت، فضلا عن أن الآباء ليس لهم أسلوب محدد في تربية الأولاد فتعاملهم مع الطفل مرتبط باستجابة الأطفال.

– نسبة الارتباط صفر بين صفات الأبناء الذين يتم تبنيهم ، و الآباء الذي تبنوهم.

لعلك تتسائل الأن ماذا نفعل إذًا كأباء و أمهات ؟

والحقيقة فإن هذا سؤال في محله ، فإن العرض السابق يترك انطباعا لدى العديد منا كآباء بأننا أصبحنا على أيدي السيدة جوديث مجرد ديكور أو ورق حائط أو ” كيس جوافة” كما نقول في القاهرة وصفا للأشخاص الذين لا يعطي لهم الآخرون وزنا. بدايةَ، كما اتضح لنا، فإنه لايوجد من هو أعظم تأثيرا على طفلك من شخصية و سلوك الرفاق و الأقران من حوله، فضغوط الأصحاب على ابنتك المراهقة مثلا أقوى بكثير من اي نصيحة أو عظة أو زجرة توجهها الأم لها. و لهذا عليك أن تساعد في إيجاد الصحبة الطيبة للابن، فإلحاقه بالأنشطة الرياضية ، على سبيل المثال، في النادي أو المدرسة من صغره يضعه وسط أشخاص يسعون لتحقيق البطولة و الفوز ، مما يحسّن من فرص تعلمه المثابرة و الطموح الإيجابي . و لكن يجب أن تبدأ هذه الخطوات مبكرا سن العشر سنوات ، لانه لن يكون راغبا في الانضمام إلى مجموعات جدد، و ستظل لمجموعته الأولى من الرفاق الأثر الأكبر .

نقد الكتاب
أُستقبل كتاب نظرية التربية بمزيج عجيب من المدح و الهجاء الشديد من قبل علماء النفس و الأعصاب. على الجانب الإيجابي، وصف ستيفن بينكر أستاذ اللغويات و علم النفس الشهير بجامعة هارفارد كتاب جوديث هاريس بأنه يمثل نقطة تحول في تاريخ علم النفس. و أشاد الدكتور روبرت سابواسكي أستاذ علم الأعصاب في جامعة ستانفورد بصلابة الحجج و الأسانيد العلمية التي اعتمدت عليها دكتور جوديث. على الجانب السلبي، وصف الدكتور فرانك فارسي من جامعة تميل اراء الدكتورة جوديث بالتطرف الشديد حيث اعتمدت على نطاق محدود من البيانات، معبرا عن خشيته من الأثر المحتمل لتصديق الأهالي لآراء جوديث. و أضاف دكتور وندي ويليامز بجامعة كورنيل المتخصص في دراسة اثار البيئة على معدلات ذكاء الأطفال أنه يوجد العديد من الدراسات الجيدة التي تقدم براهين صلبة على التأثير للآباء على القدرات المعرفية .

ختاما
شخصيا ، أصدق كثيرا ، و ليس لدرجة التطرف ، أطروحة جوديث هاريس حول دور الرفاق خاصة مع كبر عمر الأولاد ، فعند سن معين تشعر أنك كأب أو أم فقدت كل سلطانك و تأثيرك على أولادك و هناك حالات كثيرة تجد أن نصائح عام و توجيهات شعور يطيح بها نصيحة أو حركة من أحد أصدقاء أبنائك قام ابنك فقط بتقليده. و و لهذا فانني أرى أن الدور الأكبر لنا كأباء يكون قبل سن المراهقة حيث نحرص على توجيه الأطفال نحو جماعات الرفاق الجيدة .

و الخلاصة ، احبوا أطفالكم لأنهم يستحقون الحب و ليس بسبب نصيحة احد الخبراء ، و عليكم ان تؤمن بمحدودية دوركم كأب و أم فإنكم لا تستطيعون ان ترفعوا ابنائكم الى درجة الكمال،و لا أن تنزل بهم إلى درجة الحضيض.

لينك الكتاب على جودريدز

في حالة أعجبك المقال، ربما ستعجبك مقالات أخرى للكاتب، نرشح لك

قراءة في كتاب …” صدمة التربية: فكر جديد عن الأطفال “

التعلق بالأشخاص ونظرة العلم

وهم الأنتباه “حاسب الغوريلا” !!

 

إعلان

اترك تعليقا