كيف وجدت الحداثة طريقها إلى مجتمعنا الشرقي؟
توطئة لمفهوم الحداثة:
يعتقد الكثير من المفكِّرين أنَّ الأيديولوجيا السائدة في العصر الحالي هي العلمية-التكنولوجية؛ والتي كان سبب ظهورها الرئيسي هو الثورة الصناعية الرابعة التي نشأت في هذا القرن. فقد شهد العالم ثلاث ثورات صناعية سابقة، أثرّت كل منها على المجال الاقتصادي والاجتماعي بشكل كبير. أدخلت الثورة الأولى الآلة إلى العالم الصناعي في القرن الثامن عشر، وجسدها محرك البخار. وبدأت الثورة الثانية في القرن التاسع عشر، وجعلت الإنتاج الضخم ممكنًا، وميزها ظهور الكهرباء. أما الثورة الثالثة فقد بدأت في ستينيات القرن الماضي مع اختراع الحواسيب.
الآن نحن في مرحلة ثورة صناعية جديدة، قوامها الانتشار الواسع للتكنولوجيا، واستخدام الانترنت، مع وسائل التواصل الاجتماعي. وتتمثَّل في التقدُّم المتسارع للذكاء الاصطناعي، وزيادة تصنيع الإنسان الآلي، والقدرة على التعديل الجيني. هذه الثورة تمثل الرقمنة الإبداعية القائمة على مزيج من الاختراقات التقنية المتفاعلة تكافليًا عن طريق خوارزميات مبتكرة. لكن ما سر هذه الثورات التي لا يتوقَّف الإنسان عن افتعالها؟ وما علاقتها بحركة الحداثة؟
إنَّ الصفة الأساسية التي تجمع هذه الثورات هي محاولة التحرُّر من القيود التقليدية المفروضة على الحياة آنذاك، وإرادة الجديد والطلائعي. وهذه هي المبادئ الأساسية لفكرة الحداثة.
فالحداثة في أبسط صورها هي مواكبة البنية الحديثة في العالم، وترك ونسيان الماضي وهدم الأصنام الفكرية القديمة التي لا تخضع للمنطق. ويعد العقل الحسابي والنقدي مرجع ومعيار الحداثة الأوَّل في فهم الكون ومكوِّناته، وتساهم هذه الحركة في انتشار العقلانية التي تعني فهم ما حولنا باستخدام العقل والمنطق، وعدم الرجوع إلى المعايير الحسية أو الخضوع إلى الإيمان والغيبيات. وتؤمن بالمستقبل فقط؛ أي أنها تنكر الماضي وتعترف بالحاضر كأرض للمستقبل لا غير، فيحظى تابعوها بمحاولات إبداع واختراع موافدةً سير المجتمع الحديث.
صدمة الحداثة في المجتمعات التقليدية:
برزت الظاهرة الحداثية بشكل واضح في الغرب، فابتدأت بالحركات الفنية، ومرت بكل من المجال الصناعي والاجتماعي وحتى الروحاني، وانتهت في مطلع القرن الحادي والعشرين لظهور حركة أخرى تنافي وجودها. ولكن في المجتمع الشرقي أخذت تتضح تدريجيًا مع بداية هذا القرن، ويبدو أنها لم تصل إلى ذروتها بعد.
المثير للانتباه هو أنَّ هذه الحداثة ارتحلت من المجتمع الغربي إلى مجتمعنا عبر التقنية، والإعلام، والتجارة، والغزو، وعبر كل أساليب وأدوات الانتشار. وهي بدورها تُحدِث انتكاسات، بل إن تسرّبها إلى مجتمعنا الشرقي جعلته يعيش مخاضًا عسيرًا يدعى بـ «صدمة الحداثة». فالمجتمع الشرقي الذي تعرَّض لهذه الصدمة يشهد اهتزازات وتحولات في كل مستويات نسقه الاجتماعي، إما في اتجاه التكيف مع الحداثة أو في اتجاه رفضها، فأطلقت في مجتمعنا صراعًا عسيرًا بين مقومات التقليد، ومقومات الحداثة. وهذا الصراع ليس اختياريًا أو إراديًا، بل هو ألم موضوعي ناتج عن مظاهر تقدم الحداثة التي تتحول إلى تيار يغزو كل الآفاق والفضاءات بمختلف الوسائل والآليات. كما أنه صراع مفتوح لأنه يقحم مجتمعنا في مرحلة من التغير الجذري الطويل المدى.
النشآت الإيمانية للحداثة:
كانت الحداثة متمِّمة لِما حصل من الحركات الاجتماعية التي كان منها الثورة الأميركية والفرنسية، والثورات الصناعية، وإنشاء الوطن القومي، وغيرها. فلها أساسيات، أهمها: النشآت الإيمانية التي أثّرت، ولا زالت تؤثّر على فئة عظمى من المراهقين الناشئين والباحثين في الفكر الغربي والمتأثرين بحركة الهواتف الذكية التي سيطرت بشكل كامل على تشكيل شخصية الفرد ونمط حياته. من هذه النشآت نجد:
-الإيمان بالعالم الحقيقي:
يقتضي هذا الإيمان ترك اعتقاد أنَّ هذا العالم مجرد جسر للعالم السرمدي، بل يحرٌّض على النظرة الدنيوية فيه، والسعي لفهمه دون قوة عظمى، وتحمُّل آلامه، ومحاولة تحقيق السعادة الإنسانية المجردة فيه.
-الإيمان بالإنسان:
حجة أنَّ الإنسان هو، دون كل المخلوقات، أهم كائن في العالم الطبيعي ومعيار الأشياء جميعًا تحفِّز على التطلُّع الفوقي واحتقار كل ما لا يفكِّر موضوعيًا، ولا يملك القدرة، كالإنسان، على أن يكون الغاية والعامل معًا.
-الإيمان بالعقل:
إنَّ العقل هو الذي يجعل الإنسان متفرِّدًا ومتفوِّقًا وفقًا لمنهجيته الفريدة، فهو معيار التوصل إلى الحقائق، ولا يكترث للتعاليم الاجتماعية كونه عقلًا أداتيًا، وكان هو الدعوة للاستقراء والتجربة.
نتيجةً للمعتقدات الثلاثة السابقة فالإيمان بالقوى والعلاقات الإنسانية هما أساسان لبناء المجتمعات الحديثة وتكوينها؛ إنه إيمان ناتج عن التحول من العالم الآخر إلى هذا العالم، ومن اعتماد الإنسان فاعلًا أصيلًا في تعيين مصيره، ومن السعي العقلاني إلى فهم سنن التنظيم الاجتماعي والتطور الحضاري. فيمكننا أن نرى الأفكار التي تطرحها هذه الاقتناعات على المجتمع الشرقي وعلى الناشئين بشكل خاص، ففي عصر الحداثة الذي نمر فيه استحوذت الأجهزة الذكية على حياة الفئة الناشئة، وتعرّضهم إلى محتويات فكرية مختلفة، أهمها الغربية، أثّر تأثيرًا كاسحًا على تأسيس شخصية الواحد منهم.
لهذا نرى الاستخدامات الطائشة وغير العقلية لمواقع التواصل الاجتماعي من قبل المراهقين وفئة المقتبل البالغية؛ قد يكون السبب هو إفاضة المعلومات المتاحة للفرد، فينتج عن ذلك عدم تأسيس نظم فكري خاص بالشخص، أو يتم تأسيس نظم عشوائي مبني على تعاليم غربية وأخرى شرقية تجعل المراهق يميل إلى الأفكار التي تروق له، وفي حالتنا هذه يميل معظم المراهقين إلى تصديق واتباع العديد من الأنظمة الفكرية الغربية بحجة أنها تتيح لهم الحرية الشخصية المفقودة في بيئتنا هذه وتساعدهم على الدنو من حلمهم وأهدافهم؛ بعبارة أخرى، يميل المراهقون إلى اتباع نزعاتهم ورغباتهم المراهقية بشكل كبير، وبما أنَّ الثقافة الغربية توفِّر أفكارًا وسنن تتطابق هذه النزعات، فينحدر المراهقون إلى اتباع نزعاتهم وبالتالي الثقافة الغربية التي تفتقر إلى أسس القيم الأخلاقية وتنعدم فيها المبادئ الإنسانية التابعة للمنطق.
المدلول الملموس للتحديث:
من أهم مطالب الحداثة هو انتشار الصناعة وجعلها مصدر دخل أساسي، ويؤدي هذا إلى تقليل الأيدي العاملة؛ لأنَّ الصناعة المرادة لا تتطلَّب أيدي بشرية بل تكتفي بالخدمة الآلية التي تقدمها الروبوتات المصنوعة. وعَمِل التحديث في العالم العربي على هيمنة الدولة القُطْرية بحيث تستولي على الأنظمة السياسية والاقتصادية، وتوسيع مجال التعليم ليتوافق مع الفكر الحديث العقلاني، وانشار العوائل النووية بشكل هائل لأسباب عديدة، أولها وأهمها:
ادعاء مساعدة الشخص على اتخاذ قرارات فردية دون الرجوع إلى التقاليد أو العادات التي تتمثَّل في النظرة الاستشراقية الغربية بالرجوع إلى الأهل، أو الالتزام بالتعاليم الشرقية والدينية. ومن المطالب أيضًا: الاستخدام الواسع لكل منتجات التكنولوجيا، لأنها في النظرة الحديثة الطريقة الجديدة في العيش ويجب العمل بموجبها وإلا اختلّ تكوين النظام الحداثي.
ومن أكبر المشاكل التي أحدثتها الحداثة، بعد تحكم الحكومات بجميع جوانب الحياة، هي التباين بين الطبقات الاجتماعية، خاصةً في نظر الأنظمة الحكومية. فإن الدولة الحديثة بالفعل، ليست دولة مؤهلة لتمثيل مصالح طبقة مضطهدة، بل هي دولة تسعى إلى إبعاد مظاهر الخلل التي تلحق بالنظام الصناعي؛ لأنها تضر في صورة الدولة والإفادة القومية التي تكتسبها. أمّا السمة السائدة في هذا النظام فهي إنتاج العقلنة ذاتها، متجسدة في الحواسيب.
نهاية حديثة:
كانت فكرة «التغيُّر الدائم هو الملك» هي التي سارت عليها أسس الحداثة، لذا رأينا هدف الثورات الصناعية وغيرها من الثورات، هو التغير لما كان الحال عليه. فلا يتقبَّل الإنسان فكرة وجود شيء لمدة طويلة، خاصةً إن كان وجود هذا الشيء يؤثِّر سلبًا في حياة هذا الشخص.
ولأنَّ لكل بداية نهاية، انتهت حركة الحداثة في الغرب مع ظهور حركة أخرى؛ حركة «ما بعد الحداثة». كانت نهاية الحداثة بداية انتقالها لعالمنا وتوسع انتشارها. ويمكننا نقد الحداثة بأنها حركة إنسانية سعت لفهم الكون بالعقل البشري المحدود، وتناست الجانب الإيماني والإلهي وعظمت فكرة وجود الإنسان. لذا، أتت ما بعد الحداثة لتقدم فكرة أكثر إنسانية عن الحداثة؛ لأنها يئست من عجز الإنسان عن فهم الكون، وبدأت تشكك في مبادئ الحداثة والثورات الساعية للتغيير، فأيقنت الدونية الإنسانية وبدأت تعود إلى نظرة الماضي التي تتيح لها التأمل في فكرة الوجود، ودمجتها مع التطورات التي وصل إليها عالمنا اليوم، دون التخلي عنها.
نظرًا للحالة التي نمر بها، يمكننا أن نستنتج أننا في بداية الحركة الحديثة، وأننا سنمرُّ بكل المراحل التي مر بها المجتمع الغربي. إلَّا إذا سعينا إلى إحداث تغيُّر جذري بتوعية الأفراد حيال خطر هذه الحركة والأفكار المنتشرة، لكن كثيرين حاولوا قبلنا، وفشلوا. لذلك، لا جدوى من المحاولة؛ لأن المرور بهذه الحركة ليس إراديًا كما ذُكر. لكن ما إن تعدينا هذه الحركة سنصل، حسب التوقعات والتحليلات، إلى ما هو أسوأ؛ «مجتمع مَرَضي». يمكن تعريف الفرد في هذا المجتمع ببساطة أنه شخص تتحكَّم فيه غرائزه البشرية، فلا يتبع أي نهج أخلاقي، ويتمرَّد عن المجتمع بحجج الحريَّة والتفرُّد والانفتاح. كل هذا كي يلبي رغباته بحثًا عن اللذة والمتعة المؤقتة.
فإذا قررت أن تعيش حياة مَرَضية، سوف تصيب مجتمعك بالمرض نفسه. وإذا قرَّر أناس عديدون أن يعيشوا حياة مَرَضية، عندها سيصبح المجتمع جحيمًا حقًا. أكثر مما كان.