ثلاثة منعطفات في تاريخ الفلسفة ومناهج التفكير

مدخل:

لئن حُق أن الفلسفة ما سلكت طريقا مقدَار سلكها “طريق العقل” منذ نشوءها، فإن هذا الطريق يبدو حتى الآن أنه يسمح بالمرور، غير أنه لا يسمح بالوصول إلى وجهة محددة. إنه كـقمة جبل لا يزيدها شموخها سوى مزيد اكتساء بضباب السحاب. ذلك ما يرتفع به حاجب الدهشة و يشتجر عنده الخلاف، سواء عند المُقبلين أو المُدبرين عن الفلسفة. لكنهم جميعا ما دروا ولا علموا أن في هذه النقطة بالضبط تتمثل جلالة قدرِ وعظيم منزلةِ الفلسفة. أي تتجسد في ذلك الدافع اللانهائي الذي يدعوا الإنسان باستمرار إلى التساؤل عن الوجهة التي تركن “بعد” ما اعتقد أنه وجهته الأخيرة. وحضّه على مسائلة أصول ما دَأبَ على اعتباره أصولًا نهائيةً، وحفزه على نَبْشِ الجذور الأرضية لما تمادى في الإيمان بمنشئه السماوي. وكذا مراودته على البحث عن البواعث اللاأخلاقية لِما ظل يعتقد بأنها قيَماً ساميةً، نقية الطبع سليمة الطوية، دون الشك في أخلاقيتها الكاملة القتل، أو في أحسن الأحوال النفي.

غير أن هذه الطبيعة اللاَّموصلة إلى شيء نهائي وقطعي ومطلق للفلسفة، تَفتقُ رتقاً لا يَرقع عند من تطمئن نفوسهم إلى التابث والدائم. لذلك يصدون عنها بأنكر أشكال الجهل، الباعثة على أتبث اليقين وأدوم الجازم. بئس المُنقلب و البَديل. فرغم أن هذه الطائفة لا ترى مغرز إبرة من فائدة لعقل الفلسفة، إلا أن معرفتها بالأشياء والعالم والتاريخ ضخمة إلى درجة تصيب بالذهول. إنه جهل لا محالة، غير أنه “جهل واسع المعرفة“، جهل يفهم كل شيء. ليس في الحقيقة غير الفلسفة أقدر على النجاة بنا من أضراس منيّـته. من جهة أخرى فإن بعض أعلام هذا الموقف (اللاهوتيون خصوصا) ما استفادوا في صنعتهم من قوم نظير استفادتهم من الفلاسفة، غير أنهم ما تفوقوا على أحد في الحطِّ مِن قدر فكرِ من أخذوا عنهم. إنهم بذلك يضربون مَثلا شرودا في نكران الجميل. فلا هم تفلسفوا حق التفلسف، ولا هم تمسكوا دون تحريف بالعَور الذي عندهم.

أما أتباع المذهب الثاني ممن تربكهم طبيعة الفلسفة هذه، فشأنهم أن تطرفوا في الجهة المقابلة، لسانُ حالهم يقول: إذا كان طريق عقل الفلسفة لا يوصِل إلى شيء، فلنطلِق العنان إلى الشكِّ الأرعن، الذي لا هدف له ولا غاية، ولا بناء يهمهُ، بل كلُّ الهدم يُغريه(1). وهو مذهبٌ يناقضُ روحَ الفلسفة المتطلعة إلى اكتشاف ما يعد حقيقةً و وصواباً منذ أن أشرقت شمسها في سماء الإنسانية.

عقِب تصوري كلا الفريقين يمكن القول: إذا كان قصد المرء شريفًا، و مثار بحثه عن الحق أصيلًا، وكان سويّ الطبع بعيدًا عن التكلُّف؛ صنعتْ الفلسفة في حياته -وليس فقط في طريقة تفكيره- صُنع الغيث في التُربة الكريمة.

إذا كان الأمر كذلك، أليس حري بالمرء أن يتسائل في الظروف التاريخية الراهنة: ما الحاجة إلى قراءة تاريخ الفلسفة في الوقت الحاضر؟ أليس العلم هاديًا لنا اليوم فيما توهتنا فيه الفلسفة لقرون؟ أفي هذه الفلسفة بقية باقية من سديدِ رأي وحكيمِ فكرٍ ورصين نظر؟ أليس حريًا بنا ترك ما تركه العلم؟

إعلان

جوابًا عن هذا نقول: إننا لا نقرأ تاريخ الفلسفة بحثًا عن الصحيح من آراء الفلاسفة وأفكارهم ونظرياتهم، كلَا، إذ لا يذهل أحد عن سواد غث أفكار هؤلاء عن سمينها في ظل التراكم المعرفي، فليس ذلك هدف قراءة تاريخ الفلسفة. وإنما قصده الأسمى وهدفه الأبعد هو تتبع مسار تطور لا الأفكار، بل “طرق التفكير“، أي “مناهج قيادة العقل” كما وصفها “ديكارت“.

وهذا دأبُ قراءة الفلاسفة المتخصصين لتاريخ الفلسفة، فلم يهتم السكولائيون في القرون الوسطى بتصورات “أرسطو” عن الكون أو الطبيعة، قدر اهتمامهم بـ(المنطق) الذي اعتدّ به المعلم الأول حتى انتهى إلى صياغة مثل هذه التصورات. كما لم يُعنَ “ديفيد هيوم” و”إمانويل كانط” في القرن الثامن عشر “بشيطان ديكارت” الذي ما فتئ يفسد عليه يقينه، قدر عنايتهم بالقلب الذي أحدثه “منهج ديكارت” لمساقات التفكير في فلسفات القرون الوسطى. على نفس المنوال نسج كوجيف (Alexandre Kojève) في القرن العشرين، الذي لم يبقَ عنق اهتمامه بـ”هيغل” مشرئبًا إلى أحكامه على الشرقيين والسود والهنود، بل ما اهتم بشيء أكثر من “السيستيم الهيغيلي”، أي التجديد المنهجي الذي أضافه هيغل إلى النَظر الفلسفي عامةً، الذي تقصَّد المزيد من إحكام قيادة العقل آناء مزاولته وظيفة التفكير. وعندنا، ما اهتم الجابري و العروي بمخاريق المتصوفة والمتفلسفة المسلمين، بل تمعَّن الرجلان في مُنقلب العقل ومآلاته إذا ما انتهج مناهج التفكير التي ابتدعها القوم.

* * *

في الحقيقة لن نحاول في هذه القراءة -الإجتزائية- لتاريخ الفلسفة سوى تتبع تطور طرق التفكير التي نستعملها هنا كمرادفٍ لمناهج قيادة العقل. إذ للمنهج في الفلسفة -كما هو معروف- عدة معاني تبعًا لتعدد المدارس الفلسفية، ونحن نقضي غرض تحديد هذا المفهوم بترك هذا النقاش الذي لا ينتهِي، باعتبار أن المنهج ببساطة: طريقة منظَّمة في التفكير. فكيف تطورت طرق التفكير المنظّمة هذه داخل الفلسفة تاريخيًا ؟

إن أي استقراء لتاريخ الفلسفة يُظهر أن تطور هذا النمط المميز من التفكير هو نتيجة لبروز “إشكالات” فكرية أمام ذهن الإنسان. إذ أن تاريخ الفلسفة ليس شيءا آخر غير كونه تاريخ إشكالات، وبحث لها عن حلول ومخارج. هذه المخارج أو الحلول الفلسفية هي التي تتبلور على شكل “أنساق“، أي نظرية في المعرفة تلخص منظورًا بشأن العالم، حيث تصبح فيما بعد موجِّهة لتفكير الإنسان نحو الإشكالات التي تقفز أمام عقله. الشيء الجميل أن هذه الأنساق هي نفسها تتحول فيما بعد إلى “إشكالات جديدة”، هي الأخرى تقفُ منتظرةً حلولاً فلسفية متجددة (2). ذلك ما يمكن اعتباره الأساس الأصيل لتطور مناهج التفكير في الفلسفة.

إن البحث عن حلٍ لإشكالية فلسفية قد يدوم قرونًا، لذلك عندما ينجح فيلسوف ما في إيجاد هذا الحل ترتفعُ قيمتهُ وتعظُمُ قدر ما أبدعه من منعطفٍ في طريقة تفكير البشر بشكل منظم وعقلاني. نحن هنا لن نهتم سوى بثلاثة منعطفات في تاريخ الفلسفة، نظن أنها تسمحُ برسمِ خط التطور -أو هكذا يبدو على الأقل- في مناهج قيادة العقل فلسفيًا.

المعجزة اليونانية:  العالم – الإنسان – الإله

إن الشيء الذي أقضَّ مضجعَ فكر اليونان هو (الفوضى) التي تعمُّ الوجود، لذلك راهنوا على إيجاد شيء يتميز بأقصى درجات التنظيم وعدم التغيّر، فوجدوه في (الأعداد) أي الرياضيات التي تتميز -في الظاهر- بإحكامٍ منطقيةٍ لا نظيرَ لها. سيخيبُ هذا الأمل بعد اكتشاف اليونان لـ(إشكالية الأعداد الصماء) التي ليس لها معادل نهائي، كما أن لها هوية مزدوجة: فردية و زوجية في نفس الوقت، أي أنها منطقيًا: متناقضة (3) . لذلك تساءلَ اليونانُ بإحباطٍ: هل بالإمكان بناءُ علمٍ على التناقض؟ إنها كارثة! وتلك في الحقيقة أول (إشكالية) ربما في تاريخ الفكر البشري بالمعنى العلمي والفلسفي للكلمة.

بقيَ البحثُ مفتوحًا على أساسٍ محكمٍ لإطارٍ مُنظِّمٍ للعالم، العالم الذي يَظهر للإنسان اليوناني متغيرًا و متنوعًا ومتناقضًا. سيتساءلُ “أفلاطون” مندهشًا لماذا لا يوجد للعالم أي (Forme) إطار منطقي يُفهم على أساسه؟. في الحقيقة، كان للرجلِ موعدٌ مع التاريخ إذ انتدبَ نفسه لإيجاد هذا الإطار الذي تلخصه (نظرية المُثل). استشعرَ “أفلاطون” الحاجةَ إلى تحديدٍ فلسفيٍ للعالم الذي على أساسه سَتُحَدد قيمة الإنسان ومعناه في الوجود، إذ أن الإنسان عند اليونان يُحدد من الخارج كما تُحدد أشياء العالم، لا يوجد شيء مميزٌ فيه حصرًا. التحديدُ الفلسفيُ للعالم يحتاج إلى نظرية في (الكوسمولوجيا)، أي علم الفَلَك، هذا التحديد بإمكانه فهم العالم عبر تقسيم وجوده إلى: ما دون الفَلك وهو علم الطبيعة أي الفيزيقا، وما فوق الفلك أو علم ما بعد الطبيعة أي الميتافيزيقا.
إن كل تفكير في الوجود محكوم حسب “أفلاطون” بـالمبادئ التي تضعها هذه العلوم أساسًا، من الشِعر والأخلاق حتى الذّرة والكواكب.

إن منهج التفكير عند اليونان يتأثر بما يطرأ داخل هذه العلوم الثلاثة من تغيُّر، إذ أن الفلك (العالَم) يحوزُ على أكبر قدر من التأثير على علم الطبيعة (الأرض-الإِنسان) ومابعد الطبيعة (الإِله)، حيث كانت الميتافيزيقا تابعة لما يقرره علم الفلك من مبادئ. إذ كان العالم هو مركز المنظومة النظرية اليونانية، إنه عالمٌ واحدٌ وهو الوحيد الممكن ولا يوجد لغيره نظير، وبالتالي فإن الحقيقة والوجود شيءٌ واحد، حيث يعكس عدم تعدد العوالم عدم تعدد مكونات الحقيقة(4). يظهر جليًا كيف تحدد قيمة (النظام) غاية هذه الخطاطة من التفكير، حيث يتم تجنب التجزيء والتشتيت والتنويع كمبدأ فلسفي يميزُ العالم، وليس كظاهرةٍ من ظواهرهِ الطبيعية، فالتنوع (الفوضى) إنما يعزى عند اليونان إلى مبدأ موحّد ومنظّم.

يتضح هذا في (نظرية المُثل) الأفلاطونية حيث يعود تعدد مظاهر مكونات العالم إلى أشكال موحدة وأصلية، قرارها المكين تتحصّله في عالم غير مُشاهد، إلَّا أنه مدرك ومستدل على وجوده فلسفيًا، إنه (عالم المُثُل) المستقر والدائم، الذي يتسامى فوق عالم الوقائع المتغير والزائل. ما هي المُثل؟ و ما الفرق بينها وبين امتداداتها الوقائعية في العالَم المُشاهَد؟. إن المِثَال هو الشيء قبل أن يتجسد في الواقع ويتحقق بـالفعل، الأول واحد أما الثاني فمتعدد. مثلًا قبل أن أكتب هذه المراجعة أمتلكتُ في ذهني فكرة المراجعة (يسميها أفلاطون: Eidos)، وحينما كتبتها على الشكل الحالي (Eidolon) أصبحتْ مجرد تجسيدٍ واقعي لما يمكن أن يتخذه شكل هذه المراجعة من ناحية المضمون وأسلوب الكتابة من قوالب متعددة. فلو حصل وانتهيت من كتابتها (الشكل1) وقرأتها ولم تعجبني، فسأقرر كتابتها من جديد (الشكل 2)، وقد أضيف إليها تعديلات بعد شهر أيضًا (الشكل 3)، وهكذا.. إن الأشكال الثلاثة للمراجعة هي تجسيدات (متعددة) لتصوري عما أردتُ أن أكتبَه (فكرة/شيء واحد: المِثال) قبل أن أكتب أي حرف (5).

ولنُضف مثالًا آخرًا، لو شاءَ أحد منا أن يبني بيتًا متواضعًا في غابةٍ مثلًا؛ لامتلكَ في ذهنه قبْليًا (فكرة البيت)، إذا حصل وبَناه بطريقة ما ثم تبيّن بعدها أن شكل البيت مُنفر؛ لاندفع إلى هدمه وإعادة بناءه مرةً أخرى، وقد يستمر في تعديل البيت وفق أشكال جديدة. هكذا يصبح لدينا عدة أشكال للبيت (آيدلون Eidolon) نابعين من تصور ذهني واحد عنه (المِثال: آيدوس Eidos). لو بحثنا عن فكرة البيت الأصلية في الواقع لما وجدنا سوى تجسداتها المتعددة، والتي ليست سوى شبيه للفكرة “المِثال” التي لا توجد في الواقع، بل تستقر في عالم غير وقائعي (Le Monde des non-faits)، أي مِثالي idéal. وعلى عكس الصورة النمطية التي تكتسيها كلمة (مِثالي, وفلسفة مثالية) باعتبارها شيء غير واقعي؛ فإن “أفلاطون” يجعلها مرادفًا لكُنهِ مظاهرِ الوجود، إذ أن المِثالي هو أقرب تعيين لما يتجاوز الواقعي، أي لـ(الحقيقي) الأصيل والدائم (6).

وحسب “مارتن هايدغر” فإن نظرية المُثل بقيت ماشية على رأسها إلى أن أتى “أرسطو” فقلَبَها لتمشي على رجليها، بإضافةٍ لا تقل أصالةً وإبداعية عن نظرية “أفلاطون”، تتجسد هذه الإضافة في كلمة واحدة هي: “الحركة” (7). فكما ذكرنا سابقًا كان العقل اليوناني لا يصبر على تمثّل مكونات العالم في سيولتها الدائمة، فشأنه كان أن يدرس الموضوعات وقد اكتمل تشكّلها وتوقَفَ تكوّنها. إضافةُ “أرسطو” تمثلت في النظر إلى موضوعات التفكير وهي في حركةٍ وتبدلٍ دائمين. بهذا الإبتداع الجديد ستنفتحُ لـ”أرسطو” وللعقل البشري آفاقاً معرفية جديدة، و من هذا بالضبط تتأتى عظمة الرجل. فهو لم يحاول ابتكار واقعٍ جديد، وإنما سعى إلى تغيير إطار النظر الذي كان يتمثل اليونانُ من خلاله العالمَ بشكل محدود وحصري. فلنقل إنه استبدلَ صندوقَ تفكيرهم الضيق بآخر أكثرَ اتساعًا.

هكذا أصبح للعالم إطار (Forme) تنتظمُ داخله فوضاهُ وتعدديته، أي إنه أصبح مفهومًا. فما من مظاهر مربكة للعقل سوى أعراض شبيهة بعالم أكثر انسجامًا ومعقوليةً (عالم المُثل). الذي بقي هو تحديد العلاقات بين مُثل idéaux هذا العالم وأشباهها في الواقع العَيني المتموج بالحركة، وتلك مهمة العلوم الأخرى. غير أن هذه العلوم لن تشتغل سوى على أساس هذه الإبستيمولوجيا، أي على أساس هذا التصور المعرفي للعالم الذي يضعه فيلسوف، وليس عَالِم. إذ للعِلم -على عكس ما يعتقد الناس- أساس غير علمي، بل إن أقوى أسسه فلسفية وميتافيزيقية.

بناءً على ما سبق، نرى أن ليس الإنسان و لا الإله مَن طرحَ إشكالية الإشكالات عند اليونان، وإنما (العاَلم). فالإنسان لا يعتبر مشكلة عند اليونان لأنه جزءٌ من العالم، وهو يُعرَف كما تُعرَف أشياءُ العالم: أي بالمادة والصورة. فالإنسان: حيوان (مادة) ناطق (صورة)، كما هو الحال مع الحجر: جماد (مادة) صلب (صورة). بالتالي فمعرفة الإنسان ليست إلا امتداداً واجباً لمعرفة العالم. أيضًا فإن الإله هو الآخر ليس بالإشكالية: لأنه يمكن الوصول إليه منطقيًا، كما أنه ليس بمفسرٍ للعالم، حيث كان يعتقد اليونان أن العالم يُفسر نفسه بنفسه، وأنه ليس بحاجة إلى كائن ليس له نفس جوهر العالم كي يفسر وجوده. الإله عند “أرسطو” له دورٌ ثانوي، إذ أنه لا يَعرف حتى أن الوجود موجود، فهو ليس بخالق وليس بمُعدم للخلق والوجود. الذي طرحَ مشكل حقيقي لليونان هو العاَلم (8). لذلك انطلقوا من بحثه أولًا ثم فرضوا على الإنسان والإله ما استنتجوه من دراستهم للعالم. إن هذه الخطاطة أو المنهج في تنظيم عناصر التفكير تترجمُ أهم مكونات الوجود على الشكل التالي: العالم أولُا- الإنسان ثانيُا- ثم الإله، أي إننا لا نفهم الإنسان والإله إلا على ضوء فهمنا للعالم. على هذا الأساس انتظمت طريقة تفكير اليونان.

سيختلُّ ترتيب مكونات هذه الطريقة في التفكير في القرون الوسطى، التي بقدر ما شكلت حلًا لإشكالات اليونان فإنها ستتحول إلى إشكالية جديدة بسبب ظهور الأديان التوحيدية. الشيء الذي سيعيد ترتيب مكونات هذه الخطاطة بالشكل الذي يعطي الصدارة للإله- ثم العالم – وأخيرًا الإنسان. فبدل ما كنا ننطلق من العالم مع اليونان لفهم الإنسان (من عرف عَـالَمَهُ فقد عرف نفسه)، سننطلقُ مع ظهور الأديان من الإله كي نفهم الإنسان و العالم (من عرف ربـَّـه فقد عرف نفسه). هكذا ستنتظم مكونات الطريقة الجديدة في التفكير. فكيف حصل هذا التحول؟ وماذا أضاف إلى المعرفة الإنسانية؟

المنظومة الفكرية للقرون الوسطى: الإله – العالم – ثم الإنسان

عندما تلتقي الفلسفة اليونانية -خصوصًا في حلتها الأفلاطونية والأرسطية- بالأديان التوحيدية -خصوصًا مع المسيحية والإسلام- سيحدث بينهما تصادم سوف يخلّفُ إشكالات جديدة سيعتمدها المؤرخون لتحديد متى بدأت القرون الوسطى ومتى انتهت، فالقرون الوسطى ليست متميزة بأكثر من إشكالات فلسفية. فما هي هذه الإشكالات؟

لقد ورثَ أتباع هذه الأديان تصورًا عن الكون من إبداع “أرسطو” باعتباره كونًا أزليًا (ليس له بداية من ناحية الماضي) و أبديًا (ليس له نهاية من جهة المستقبل)، ليس له خالق، كما أن العلم به بالكليات لا بالجزئيات. وعلى هذا الأساس فالأرض مركزُ الكون: ما دون القمر فيها متغير، وما فوقه ثابت لا يعتريه التغير. فضلًا عن هذا فإن أهم كائن فيها هو الإنسان: له “نفسٌ” وهي فانية بفناء الجسد. هذا التصور للوجود الطبيعي والبشري هو ما سيخلق كارثة بالنسبة للاعتقاد الروحاني الجديد (9).

كانت الأديان الوثنية -التي ازدهرت في حضنها فلسفات بديعة-غير شمولية، بمعنى أنها لم تهتم بإعطاء الإنسان تصوراً كلياً للوجود، هذا الفراغ هو ما دفع الإنسان الوثني إلى التفكير والتفلسف بحثًا عن أجوبة جديدة. أما حينما يؤمن الإنسان بدينٍ يقدم له كل الأجوبة؛ حينها لا يصبح للتفكير وللعقل أي قيمة، وما يبقى هو الصراع -ولا أقول الحوار- مع منظومات عقائدية أخرى هي بدورها مغلقة، غاية هذا الصراع هو إثبات عقيدة دوغمائية (Un Dogme) بالعنف. هكذا كان موقف المسيحيين والمسلمين من الفلسفة اليونانية، اللاهوتيون منهم خصوصاً. ذلك أن التصور الجديد الذي جاءت به هذه الديانات نحو الكون والإنسان يتناقض؛ بل يتصادم مع التصور الذي قدمته الفلسفة اليونانية عن العالم-الإنسان-الإله. هكذا مست الحاجة إلى فلسفةٍ جديدة: أي إلى طريقةٍ جديدة في التفكير.

عادة ما يقال أن مدار الفلسفة المسيحية والإسلامية في القرون الوسطى كان حول التوفيق بين (الأرسطية) و عقائد هذه الديانات. في حين أن قراءةً حصيفة للتراث الإسلامي مثلًا تظهر أن المسألة لم تكن بهذه البساطة. إن الرهان في الحقيقة كان الإنطلاق من قضايا فلسفية واستنباط موجبات دِينية منها. أي قراءة لـ(علم الكلام الإسلامي) -خصوصًا المعتزلي- توضح هذا الأمر. إذ أن القوم لا يبحثون عن مشروعية فلسفية للأحكام الدينية، بل على العكس؛ لقد سَعوا إلى إثبات أن الإنطلاق من التفكير العقلي وحده يسمح بالإنتهاء إلى تقرير موجبات عقدية وشرعية. فالدين هنا هو الذي يؤوّل على أساس العقل وليس العكس. ألم يقل “ابن رشد”: “محالٌ أن يمنحنا الله عقولًا و يُرسل لنا شرائع مخالفة لها”. 

توسلًا بهذا المنهج في التفكير ستحاول فلسفات “ابن سينا” و”الفارابي” و”ابن رشد” تقديم تصور فلسفي حول الكون والإنسان والإله يستجيب لمعايير العقل أولًا وإلى بعض أحكام الدين ضمنيًا. لهذا جاء التصور مناقضٌ لبعض التأويلات الدينية التي كانت و لازالت سائدةً بفضل الإكراه السياسي. والقصد يتصل أساسًا بقضية: خلق الكون-علم الله بالجزئيات إلى جوار الكليات-ثم فناء النفس بفناء الجسد. ففي عُرف من يؤمن بالإسلام والمسيحية فكل من يقول بأزلية الكون، أي عدم خلقه من طرف إله، وأن هذا الإله لا يعلم سوى الكليات، وأن النفس الإنسانية تفسد بفساد الجسد، إنما هو كافر كفرا مُغلظًا (10). لقد تم جر النقاش من: هل فكرة (فساد النفس الإنسانية حادثة بفساد الجسد) عقلانيةً أم لا، و مقنعة بناء على براهين وحجج منطقية أم لا، إلى: هل المسألة حرام أم حلال؟! لهذا فإن حضور الدين كحاكم في ساحة الفلسفة مَفسدة، لم يجد لها الإنسان -المسلم خصوصاً- حلًا حتى اليوم.

المهم أن أعلام الفلسفة الإسلامية كان إيمانهم بالعقل يسامي، و ربما يتجاوز، إيمانهم بالمعتقدات الدينية التي ورثوها عن أجدادهم. لهذا انتهوا إلى تقرير ما انتهت إليه مسالكهم في التفكير العقلاني. هكذا مال بعضهم إلى تأكيد مذهب “أرسطو” في مسائل كعلم الإله بالكليات حصرًا، وفساد النفس بفساد الجسد، فضلًا عن أزلية الكون، وإن قال جل المتفلسفة المسلمين بأنه مَخلوق. وهذا ليس من دون إضافات جوهرية من ابتكار فلسفة القوم، مثل تقرير ثنائية الروح والجسد فلسفيًا وليس عقديًا، فضلًا عن ثنائية الماهية والجوهر (التي ستستمر حتى “كانط”). بالإضافة إلى تحويل الإله إلى علّة فاعلة بعد أن كان علةً غائيةً عند “أرسطو”. أي تحويل مقولة طبيعية في عُرف اليونان إلى مقولة مابعد طبيعية، ميتافيزيقية، وهو إبداع سيناوي (ابن سينا) أصيل (11).

هكذا لم يعد العالم كافيًا كي يفسر نفسه بنفسه كما كان عند اليونان. لقد أصبح في حاجة إلى شيء من خارجه كي يفسر وجوده. هذا الشيء هو (الإله). وإذا كان هذا الأخير خالقًا للكون فإنه قادر كذلك على خلق (الحقائق) التي يسعى التفكير البشري إلى بلوغها. هكذا سينطلق هذا النمط من التفكير في القرون الوسطى من الإله لفهم العالم والإنسان، بل وكل شيء. لا أدلُّ على ذلك من مقولة القديس “أوغسطين” والقديس “آنسيلم”: “أنا أؤمن لكي أفهم Je crois, pour comprendre” (ر12). بذلك أُعيدَ ترتيب مكونات خطاطة التفكير الفلسفي من تقديم العالم-الإنسان-الإله، إلى الإنطلاق من الإله أولًا ثم العالم وأخيرًا الإنسان. إن هذا التأخير للإنسان أطفأ شعلة عقله، وأيقظ فيه نعرة الحيوانية وهو ما أعطى للقرون الوسطى صبغتها الكئيبة. فكيف خرجنا من هذه الكآبة الفكرية؟

الحداثة: الإنسان أولا- فالعالم – ثم الإله

كما انطلقت “المُعجزة اليونانية” من علم الفلك، فبالمثل سينطلق كل العصر الحديث من فلك “نيكولاس كوبرنيكوس”. فرغم التطورات التي أحدثها العلماء والفلاسفة المسيحيين والمسلمين في شتى المجالات، إلا أنهم في الغالب ظلوا في العمق قابعين داخل جبة “أرسطو” لم يستطيعوا عنها استقلالًا، خصوصًا في تصورهم الفلكي عن العالم.

من بطليموس إلى كوبرنيك، مرورًا بـأبي إسحق البطروجي

 بزغت في هذه الفترة نظرية “بطليموس” التي سوف توثّن أسس فيزياء “أرسطو” في علم الفلك القروسطي باختراعها تصوراً للكون يموقعُ الأرض في المركز وتدور كل الأجرام الأخرى في محور هذا المركز. أي ما يسمى في تاريخ علم الفلك بنظرية مركزية الأرض Géocentrisme (ر13). حسب بعض المؤرخين والفلاسفة فإن فلك “بطليموس” لم يتأسس على فيزياء “أرسطو” بل انحرف عنها، هذا ما دعا في الواقع ابن رشد مثلًا -حسب ما يقرره الجابري- إلى محاولة مراجعة هيئة “بطليموس” بالعودة إلى “أرسطو”. الحاصل أن بين فيزياء المعلم الأول وفلك بطليموس قرابة لا يمكن إنكارها، غير أن هذا لا يجب أن يحملنا على اعتبار أن أفكارهما عن هيئة الكون متطابقة.

يقوم فلك “أرسطو-بطلموس” على أربعة أسس، أولًا: للعالَم حدود معينة وهو على شكل كُرة. ثانيًا: مركز العالم هو الأرض. ثالثًا: تدور الكواكب في السماء بشكل دائري. رابعًا: العالم قسمان، عالمٌ علوي فيه الكمال و”الثبات”، والآخر سفلي فيه الكون والفساد. أما الفاصل بينهما فهو القمر (14).

هذا التصور للعالم باعتبار الأرض مركزًا له يبدو أنه لا يتنافى مع العقيدتين المسيحية والإسلامية، فبما أن هذا الكوكب وطأته الأقدام المقدسة للسيد المسيح والنبي محمد وسائر الأنبياء؛ فلا ضير إذن أن يكون هو محور الكون ومركزه. هكذا تعاضد العلم والدين حول تصور خاطئ بشأن الكون، ما جعل مهمة تصحيحه شاقة، بل مُميتة. ذلك أن هذا التصور لم يبقَ في حدود العلم بل أصبح جزءًا من عقيدة هذه الأديان، وبالتالي صار التفكير بعدم صحته مؤديًا إلى الـكُفر، وبالتالي إلى الموت (15). وما حالة حرق العالِم الإيطالي “جوردانو برونو” سوى خير شاهد على ذلك. ألم نقل أن مغبة العلم والفلسفة في مزج استنتاجاتهما بالدين !

هذا عن الموحدين. أما اليونان فقد كانوا يعتبرون أن الأجرام السماوية إلهيةً ومقدسة، ولا بد من أن تكون حركاتها دائرية، لأن الدائرة في عُرفهم أكملُ شكل هندسي، فلا بداية لها ولا نهاية. هكذا تصوروا كل ما هو سماوي مساميا لما هو إلهي، وبالتالي لا يليق بجلاله التغير. فالسماء إذن مجال الكمال والثبات، لا الكون والفساد.

في الحقيقة، قد تبع السواد الأعظم من فلكيي القرون الوسطى، مسلميهم ومسيحيهم، أفكار بطليموس بشأن (هيئة) العالم. غير أن أنظار بعضهم كـالبيروني ، وابن الهيثم في كتابه (الشكوك على بطليموس)، وابن ميمون في كتابه (دلالة الحائرين)، وأبو إسحق البطروجي في (كتاب الهيئة)، وابن رشد (كما يشير الجابري في: ابن رشد، سيرة وفكر، الفصل 12) و نصير الدين الطوسي وأبو الحسن الشاطر، بل وقبلهم جميعًا أرسطرخس اليوناني كلها تثير تساؤلات وشكوك عديدة حول هيئة “بطليموس” و”أرسطو” بشأن الكون. إلا أن هذه الأنظار والملاحظات لم ترتقِ الى نظرية في علم فلك سوى مع رجل واحد هو: “نيكولاس كوبرنيك“.

 من بين أشياء عديدة قادت “كوبرنيك” إلى استكمال ما بدأه بعض الفلكيين المسلمين، كانت مسألة “الكواكب المتحيرة” أبرز الإشكالات. إذ كانت هذه الكواكب تسلك مسارات غير منتظمة، أي غير مفهومة في إطار نظرية “بطلموس-أرسطو”. لم يجد “كوبرنيك” حلاً لهذا الإشكال سوى بزحزحة مركز الكون من الأرض إلى الشمس، وبهذه الزحزحة سيزلزل تصور الإنسان عن الكون وعن نفسه وعن الإله و عن المصير، بل حتى عن معنى وجود الإنسان في العالم.

لقد تضاعف حجم العالم مع نظرية كوبرنيك أكثر من 2000 مرة، مقارنة مع حجمه الصغير في هيئة “أرسطو وبطليموس” (هُدم الأساس 1). كما أن حدوده انفجرت، وإذا افتقد الشيء حدوده فإن الحديث عن مركز له يصبح بلا معنى بالمرة (هُدم الأساس 2). أضف إلى ذلك أن علماء الفلك منذ القرن الثاني عشر قد سجلوا أن دوران الكواكب ليس دائري إنما إهليليجي، كما قال أبو إسحق البطروجي وتبعه في ذلك كوبرنيك، وسيؤكد الأمر فيما بعد “جاليلي” بدقة (هُدم الأساس 3).

أما (الأساس 4) من هيئة “أرسطو -بطليموس” فسيُهدم بطريقة فيها من الفزع والجمال ما ليس للغة بـقبل برسم عمق ما أحدثه في نفوس وعقول علماء وفلاسفة تلك القرون. إنه ظهور نجم Stella Nova في سماء العالم سنة 1572م. يا لها من فاجعة! أليس العالم العلوي عالم ثابت لا يُزاد فيه شيء، كما أنه مكتمل لا شيء حادث فيه حسب تصور اريسطو. فكيف ظهر نجم بعد ان لم يكن؟ الكل حبس أنفاسه، أتباع أرسطو تمنوا لو أن النجم الذي ظهر تحرك، وإذا ما تحرك فإنما هو “مُذنب”، ولأرسطو قول في ذلك، حيث صنّف المذنب كظاهرة جوية أرضية وليست سماوية. الغريب أن Stella Nova لم يتحرك بل ظل في السماء نحو 18 شهر، حتى طفئ وهجه بعد مدة من ظهوره. هكذا سقط آخر أساسات الهيئة البطلمية-الأرسطية، و ثبت أن السماء متغيرة ويحدث فيها ما يحدث في عالم الفساد الأرضي. هذا ما سيثير إشكالات فلسفية ودينية وعلمية لم تحل في نظري إلى يومنا هذا. خصوصًا الإشكالات الوجودية منها.

 إن هذا السقوط المدوي لتصورنا القديم عن العالم لم يمر ببساطة وإنما استوعِبَ بصعوبة وبـعنف، لأن الإنسان في تلك الفترة أسس عليه تصوره لنفسه، وللإله، وللمصير، والأخلاق، والعلم، وكل شيء. إن هذا السقوط لهيئة العالم إيذان بسقوط معنى الإنسان والإله والعالَم الذي دانت به تلك القرون. هكذا مست الحاجة إلى بناء تصور جديد حول الإله والعالم والإنسان من جديد، على ضوء المستجدات المعرفية التي كشفتها الكوبرنيكية. هذا التصور الجديد هو أفرد ما تتميز به ما نسميه “الحداثة La Modernité“.

أهم التطورات الإبستيمولوجية للعِلم عَقِب الثورة الكوبرنيكية

العجيب في نظرية “كوبرنيك” أنها لم تقدم معادلات فلكية جديدة أو رصداً لظواهر لم يسبق رصدها، بل إن أبسط -وبالتالي أعظم- ما قامت به هو قلب “طريقة تفكيرنا” مزحزحة إياها من الإرتهان للموضوع، إلى العودة إلى الذات. فالمشكل لا يوجد في مسارات “الكواكب المتحيرة” (الموضوع)، وإنما في ذهن العالم الذي يحاول أن يفهم (الذات). أي ببساطة في طريقة تفكير معينة كانت سائدة آنذاك (16).

سيضع ديكارت -ومن هنا مَأتى عظمته في تاريخ الإنسانية وليس فقط في تاريخ الفلسفة- قطار العلم على سكة جديدة، تتأسس بفضلها الممارسة العلمية على “الذات” وليس على المواضيع. بل لن تصبح الأشياء المدروسة معينة على شكل مواضيع إلا لأنها تتضع أمام ذات مُفكرة.

من جهة أخرى سيبتكر “ديكارت” ثنائية عبقرية تعزز التصور الجديد للعلم، وهي “ثنائية الفكر والإمتداد“. فعلى عكس التصور القديم للعلم الذي كان يعتقد بقدرة تأثير اللامادي (الفكر) في المادي (الإمتداد)، كما هو الحال مع التنجيم والخيمياء. صار مع “ديكارت” لا يؤثر الفكر إلا في الفكر، والإمتداد لا يؤثر إلا في الإمتداد. ذلك ما سيعزز الطابع العقلاني للعلوم، وينزع عنها الكثير من السحر و الشعوذة والخرافة (17).

فضلًا عن هذا سينتهي “ديكارت” بفضل ثنائية الفكر والإمتداد إلى اكتشاف مذهل، وهو: “الهندسة التحليلية La Géométrie Analytique“. حيث خلَّص الرجل الهندسة من امتدادية محتواها، وارتقى بها إلى محتوى نظري عقلاني. ذلك أن الهندسة اليونانية -كما معلوم- كانت تشتغل على أشكال، ومن خصائص الأشكال الإمتداد، هذا بالضبط ما تجاوزه “ديكارت” بفلسفته التحليلية الجديدة، فانفتحت بذلك آفاق معرفية جديدة أمام العلم بشكل عام، إذ لم يكن بإمكان الرياضيات والفيزياء أن تتطورا بالوتيرة التي تطورتا بها منذ القرن 17م دون الهندسة التحليلية لـ”ديكارت”.

بفضل هذا المسلك، سيتطور النظر المنهجي حتى ينتهي إلى سقوط “التطابق بين الشيء والفكرة عن الشيء” كما كان يعتقد اليونان. لقد أصبح الفكر تَمثُّلًا للعالم، وليس إدراكًا نهائيًا وتطابقيًا معه. هذا ما أعطى للعِلم أحد أهم محركات تطوره ألا وهو: نسبيّ Relative (ر18). الأمر الذي أبعده عن طبيعة الأنظمة الدوغمائية سواءً كانت دينية أم فلسفية.

التطورات الفلسفية عَقِب الثورة الكوبرنيكية

كما قلنا سابقاً فإن مفهوم الإنسان والإله كانا قد ارتبطا بتصورنا عن (هيئة العالم)، وبسقوط هذه الأخيرة يسقط المعنى الذي اتخذ لوجود البشر في العالم حتى تلك اللحظة. هكذا مست الحاجة إلى بناء تصور جديد بشأن الإنسان والإله والأخلاق. هذه المهمة العظيمة سيقوم بها العظيم “رينيه ديكارت”.

تأسيسًا على ثنائية الفكر والإمتداد صنّف الرجل الموجودات إلى ممتدة: كالحيوانات، ومفكرة: كالإله. وعلى أثر ذلك سيكتشف أن “الإنسان” هو الكائن الوحيد الذي تجتمع فيه خاصيتي الفكر والإمتداد معاً. فهو كائن مُمتد بما أن له جسد مادي، ومُفكر لأن لديه وعي. وهو ما لا يتميز به أي كائن في الوجود. هكذا سيتبلور للمرة الأولى مفهوم جديد للإنسان عقب المفهوم القديم الذي انقرض بسقوط الهيئة الفلكية القديمة للعالم.

الحاجة الماسة إلى تصور جديد للإله قادتْ ديكارت إلى بناء براهين جديدة حول وجوده. قد يتسائل البعض ما الداعي إلى اقتراح براهين _فلسفية، لا دينية_ جديدة حول وجود الله؟. ألم يُسرِف القدامى في استحداث واختراع كل ما يمكن تخيله لإثبات وجوده؟ في الحقيقة، انقطع المحدثون إلى تصور جديد للعالم، بلور “تيخو براهي” (عالم فلك دنماركي) في أثر الكوبرنيكية فلك جديد، كما سيصوغ “جاليلي” فيزياء جديدة، إنها فيزياء الأرض المتحركة. وسيلزم ذلك ابتكار ميتافيزقا جديدة، وضمنيًا: تصور جديد للإله. إذ أن تصور القدامى القاصر لم يعد يُلائم معطيات العلم الجديد، وبالتالي لا بد من تحيين (Actualiser-Mise à jour) هذا التصور حتى يتوافق مع فهمنا المستحدث للعالم. هكذا اقترح “ديكارت” براهين ستصبح أشهر من نار على عَلم، وهي: “برهان الكمال”، “برهان الخلق”، “البرهان الأنطولوجي”. المهم في هذه البراهين تحويلها الإله إلى مقولةٍ فكرية وأخلاقية، وليس كائنًا ممتدًا، له من النظائر مع البشر ما يصيب بالذهول! (19) .

أعاد “ديكارت” صياغة تصور الإنسان والإله، وأثبت وجودهما معًا. لم يتبقَ سوى صوغ وإثبات وجود العالم. وقد يتساؤل المرء: يا للحماقة! إثبات وجود العالم! أيحتاج وجود العالم إلى إثبات؟ لو كان “ديكارت” هنا لأجابَ منتقِصًا من قدر السؤال: “نعم يحتاج وجود العالم إلى إثبات”. ألم نقل أن كل شيء قد اختلَّ مع الكوبرنيكية؟ لم يعد معها أي شيء في مكانه. نحتاج إلى ترتيب كل هذه الفوضى من جديد بـ(الفِكر) أي بنسَقٍ فلسفي جديد، لا قيمةً له إذا لم يتضمن مفهوماً وتصوراً جديدا للعالم. هذا التحديد سيصطدم مع أسئلةٍ وجودية لم يستطع تجنبها كل الفلاسفة والعلماء منذ القرن السادس عشر حتى اليوم. لنا معها برهة تأمل ونقاش في الفقرة القادمة.

المشكلة التي لم تحل: ما الذي يبرر أن نعيش حياةً لا نعرف معناها؟

أفرزت الكوبرنيكية مشكلةً كبيرةً جدًا وهي “مشكلة شساعة العالَم“(20) . كان يعتقد اليونان بمبدأ “المعقولية الكافية” أي أن الطبيعة لا تزيد على سبيل الخلق شيءا ليست في حاجة إليه كي تشتغل بمرونة. أما التوحيديون فأتت إليهم أديانهم بأن الله قد خلق السماوات والأرض وسخّرها للإنسان. المثير في الأمر أن الكوبرنيكية قد بيّنت لنا أن الكون شاسع من دون حدود ودون أي مركز، كما أنه لا يَسمَح بالحياة -كما سنعرف لاحقًا- سوى على بقعة صغيرة جداً (الأرض) تكاد تكون عدماً مقارنة مع حجم الكون. لقد علمنا بأنه توجد عوالم شاسعة ومظلمة لا أثر للحياة فيها. كواكب عملاقة لا يعيش فيها أي كائن. ما معنى كل هذا؟! أي معقولية في عالم مثل هذا؟ ما معنى أن لا يعيش أي كائن في المشتري وهو كوكب ضخم، وبالمقابل تعيش مليارات الكائنات الحية على الأرض وهو كوكب يصغر المشتري بأكثر من 30 مرة؟ كيف يُقال أن كل هذا مُسخّر للإنسان رغم أنه عاش آلاف السنين دون أن يدري بكل هذه العوالم أصلاً؟ هل يُسخَّر معلوم لمجهول أو مجهول لمعلوم؟ أي معنى لهذا وأي قيمة غير أنه “عبث” كما تلمسه برعب غيرما فيلسوف منذ القرن 17م؟!

لقد تساءل الفلاسفة بعد “كوبرنيك”: ما هو الإنسان؟ وتحت ضغط “حقيقة شساعة العالم” فهموا أن الإجابة عن سؤال: ما هو الإنسان؟ غير ممكنة إذا لم نجب عن سؤال: أين هو الإنسان أولًا ؟ أين يتموقع في الوجود وفي الكَون؟ هل لا زال في مكانه الذي وضعته فيه الفلسفة اليونانية والتوحيديات الدينية؟ أي حيز يتجسد فيه؟ وأي قيمة لوجوده؟ من أين جاء إلى العالم؟ ماذا يفعل هنا؟ وأي قيمة لما يفعله هنا؟ وإلى أين سيذهب بعد الموت؟ ما معنى أن يوجد الإنسان في كَون مظلم ولا نهائي؟

كل هذا يَجرُّ إلى سؤال يُجنِّن: ما الذي يبرر أن نعيش حياةً لا نعرف معناها؟ أو لا يوجد لها أي معنى موضوعي لا تترك معقوليته أي فرصة للاختلاف بشأنه؟

هذه الأسئلة تجسد الذُّعر الذي ارتمت فيه البشرية منذ الكوبرنيكية. إذ لم يستطع أي إنتاج ثقافي إنساني حتى الآن سواءً كان فلسفةً أم دينًا أم علمًا أم فنًا، أن يقدم أجوبة تنتزع الإقناع التام حول معنى وجودنا.

في الحقيقة، سيقدم الكوجيتو الديكارتي بكبرياء مُخادع حلًا لهذا الإشكال. شكَّ ديكارت في كل شيء، بما في ذلك وجود العالم، ولم يشك في “ذاته” التي اعتبر وجودها يقينًا بفضل “تفكيرها” (أنا أفكر إذن أنا موجود). أما العالم الشاسع الذي يشي بأن لا قيمة لوجودنا؛ أعدمه ديكارت في سبيل إعادة بنائه، حيث لا يُثبَت وجوده إلا بعد إثباتِ وجودِ الذات أولا. أي بطريقة لا تترك أي معنى لوجود العالم إلا بعد وجود الذات الإنسانية ابتداءً. وكأن العالم عَدمٌ “من دون الوعي به“. الوعي الذي لا يمتلكه سوى “الإنسان”. وكأن ديكارت يقول للعاَلم: “رغم شساعتك وعظمتك؛ إلا أن لا قيمة لك، لأنه لا “وعي” لديك كي تدرك هذه العظمة أصلا”. إن العالم من دون وعي يشبه إنساناً حياً في غيبوبة؛ أي إدراكه لوجوده مهما تعظم أمره في خبر العدم. بالتالي لا معنى لشساعة العالم إلا بوعي الإنسان بها. بهذا امتلك الإنسان عظمة وقيمة تُسامي بل تُجاوِز عظمة العاَلم، لأنه يفكر ولأن له وعي يدركُ به القيمة والمعنى. وأي قيمة وأي معنى سيدركه العالم وهو لا يمتلك لا وعيا ولا عقلا؟! هكذا أعاد “ديكارت” فلسفيًا الذاتَ أو الإنسانَ إلى مركز و مقدمة منهج التفكير الحداثي، الذي يسبق العالم والإله. الإنسان صار هو المركز.

بعد “ديكارت”، سينقطع “بليز باسكال” إلى تأمل معنى وجود الإنسان في عالمٍ لا نهائي. وذلك في كتابه (Pensées)، الذي تثير قراءة ما يتضمنه من تأمُلات الإحساس بالجلال. فإذا كان العالَم قد أغمي عليه -دون أن يموت- لإصابته برصاص الكوجيتو الديكارتي؛ فقد اعتصمَ “باسكال” كذلك بحبل الوعي والأخلاق كمميزات للإنسان مقابل العالم. يقول الرجل في الشذرة 347 من كتابه هذا: “الإنسان ليس سوى قصبة، لا يوجد شيء أضعف منه في الطبيعة، إلا أنه رغم ذلك قصبة مُفكرة. يجب ألا يكلف الكون كل طاقته لسحقه: مجرد بخار، أو قطرة ماء تكفي لكي تقتله. ولكن حتى عندما يسحقه الكون، يكون الإنسان أكثر نبلاً من ذاك الذي يقتله. لماذا؟ لأن الإنسان يعلم أنه يموت، أما الكون فلا يدري أي شيء. هكذا فإن كل كرامتنا إنما مأتاها من هذا الفكر أساسا. ومن هناك يجب أن نتعافى، وليس من الفضاء والزمن الشاسع الذي لا يمكننا ملؤه. إن كان كذلك فدعونا نعمل لنفكر مليًا: ذلك ما يجب أن نعتبره المبدأ الأصيل للأخلاق” (21).

عمقُ موقف باسكال لا يكمن فقط في اعتباره “الفكر” و”الوعي بالموت” ميزات استثنائية للإنسان مقابل الكون او العالم. بل في مزجه لهذا الفكر بالأخلاق، ودلالة الأخلاق مميزة للغاية هنا. إذ لا يمكن أن نتحدث عن (الأخلاق) من دون (حرية)، نحن كائنات أخلاقية لأننا كائنات حرة. نختار أن نسامح في وقت يمكننا فيه أن نعاقب. نختار أن نعطي أشياءً في وقتٍ نحن في أمس الحاجة فيه إليها. الكَونُ لا يستطيع أن يكون كذلك، لأنه ليس حراً. غذًا صباحًا لن تقفَ الشمسُ في كبدِ السماء وتقول لا أريد أن أغرُب. غصبًا عنها ستغرُب! لأنها لا تملك حرية الاختيار. عكس الإنسان الذي يملك هذه الإرادة لأنه كائن أخلاقي، (وما إنه كذلك إلا لأنه حر). هذا ما يعطي لوجود الإنسان قيمة لا تتأتى للكون بأي وجه.

رغم ذلك، ومهمها قرأنا أجمل وأروع ما كتبه الفلاسفة في مشكلة معنى وجود الإنسان في عالم لانهائي كالذي نعيش فيه؛ إلا أن شعورًا بالغصة يلمَُ بالنفس جراء الإحساس -بتلمس ما تحت السطور- برغبةٍ في إيجاد تفوقٍ للإنسان على الكون مهما كان هذا التفوقُ واهيًا حتى نقدم لأنفسنا عزاءً كَاذبًا. فأن يكون الإنسان عاقلًا، وواعيًا، وحرًا، وأخلاقيًا، لا يعطي لوجوده أي معنى نهائي. كل ما يمنحه له هو إدراكه لـملكاتٍ تميزهُ -كإنسان- عن باقي الكائنات التائهة مثلنا في هذا الكون الفسيح والمرعب. وهذا ما قاله فلاسفة آخرون كانوا أقدر على مواجهة هذا العبث بواقعية، مثل: نيتشه ومارتن هايدغر، و جون بول سارتر(22) .

 إن ما تخشاه هذه الفلسفات هي الاستسلام للفكرة التالية: ما البشر سوى كائنات تعيش في طرف مجهول من الكون، من دون موجّهٍ وبلا غايةٍ ولا مقصد ولا معنى. هذه هي الحقيقة التي يعتبر “هايدغر” أننا نسيناها أو نأبى إلا أن نتناساها بأوهى وأعبط الأكاذيب الفلسفية والروحانية. فيا ترى هل باستطاعة حقيقة أقوى منها أن تجبَّها في مستقبل الأيام!

خاتمة: ما بعد الحداثة أو العالم وقد جن جنونه

إن التطور الفكري الذي شهده تاريخ الفلسفة يوضح أن أعظم أنساق هذا النمط من التفكير كانت تتحرك داخل ثلاثة محاور هي: الإنسان-الإله-العالم. حيث كانت خصوصية كل فترة من هذا التاريخ الشيق تفرض على الإنسان أن ينطلق في تفكيره من العالم (اليونان) أو من الإله (القرون الوسطى)، أو من الذات الإنسانية (الحداثة).

أما الفترة المعاصرة أو كما تُكنى بـ “مابعد الحداثة La Post-modernité” فإن خيبة أمل فلاسفتها دفعتهم إلى مهاجمة صلاحية العقل من الأصل في أن يفكر، شاكّين في قدرته على النهوض بهذه المهمة ابتداءً. لهذا دعوا إلى “تفكيك” أسسه بداعي أنها ميتافيزيقة. ونادوا بالإعتصام بالكتابة بدل الصوت الذي ارتبط في عرفهم طول تاريخه بـ(اللوغوس: أي العقل الفلسفي المريض)، الذي أصبح عند بعضهم لا يمثل سوى أطلالاً من عهد بادَ وفنِيَ وانتهى. بل وصل الأمر بأشرسهم (ريتشارد رورتي) إلى الدعوة إلى ترك حلم الفلسفة التاريخي الساعي إلى الوصول بنا إلى حقيقة العالم والمعنى النهائي لوجودنا فيه. إذ لم نعد بالنسبة إليهم في حاجة إلى فهم العالم وقد فشلنا في هذا المَسعى منذ بدأنا نفكّر. وبوصولنا إلى مرحلة اختيارنا الإضراب عن التفكير، يٌجَنُّ جنوننا، ونستسلم إلى العبث الذي نعيش فيه. بذلك لم يعد للفلسفة من دور سوى تعليمنا كيف نتعايش مع هذا العبث، كما هو الحال مع كتابات “لوك فيري Luc FERRY (23)” وغيره من مدّعي التفلسف في زماننا الراهن.

   مراجع

(1) كما هو حال ريتشارد رورتي في كتابه: “الفلسفة ومرآة الطبيعة“، ترجمة حيدر حاج اسماعيل، المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2009، ط1.

(2) Alexandre Koyré, (1973). “Études d’histoire de la pensée scientifique“, Paris, Gallimard.

(3) كريستيان دولاكومبان، “تاريخ الفلسفة في القرن العشرين“، ترجمة حسن أحجيج، مؤمنون بلا حدود- جداول، الرباط 2015، ص 32.

(4)  أ.هـ. آرمرسترونغ ، “مدخل إلى الفلسفة القديمة” ، ترجمة سعيد الغانمي، مركز كلمة بشراكة مع المركز الثقافي ، الطبعة الأولى 2009.

(5)  محمد الشيخ، “نقد الحداثة في فكر هايدغر“، الشبة العربية للأبحاث والنشر، بيروت 2008، ط1، ص 350.

 (6)مونيك ديكسو، “أفلاطون- الرغبة في الفهم“، ترجمة حبيب الجربي، المركز الوطني التونسي للترجمة، تونس 2010، ص 248 وما بعدها.

(7)  Martin Heidegger, “Interprétation phénominologiques en vue d’Aristote: Introduction au cœur de la recherche phénoménologique“, Paris, Gallimard, p 33.

(8) Danielle Jouanna, (2018). “Le Monde comme le voyaient les Grecs“, Paris, Les Belles Lettres.

(9)  أبو حامد الغزالي، “تهافت الفلاسفة“، تحقيق سليمان دنيا، دار المعارف، القاهرة 1966، ط1.

(10) Bertrand Russell, (1971). “Science et Religion“, Paris, Gallimard. pp 16-32.

(11) Ernst Bloch, ([1949] 2008). “AVICENNE Et La Gauche Aristotélicienne“, Traduit par Claude Maillard. Paris, Saint-Maurice, p 43

(12) Alexander Baumgarten, (2004). “Le concept de la foi dans la pensée de saint Anselme et ses sources dans l’antiquité tardive“. Revue: Le Philosophoire, 1/ (n° 22), pp 113 à 130.

(13) Jean Heidmann, (1973). “Introduction à la cosmologie“, Paris, Presses Universitaires de France.

(14) Comte Domet de Vorges, (1894). “La Cosmogonie d’Aristote“, Revue Philosophique de Louvain,  N04,  pp 307-321. & Jean Brun, (2004). “Aristote et le Lycée“, Paris, PUF, pp 69 -73. 

(15) J. W. DRAPER, (1976). “Les conflits de la science et de la religion“, Paris, Essai (broché).

 (16) رينيه ديكارت، “مقال عن المنهج” ، ترجمة محمد محمود الخضيري ، دار الكتاب العربي ، القاهرة 1968، طبعة 2 ، ص 130-131-132.

(17) رينيه ديكارت، “تأملات في الفلسفة الأولى” ، ترجمة عثمان أمين، المشروع القومي للترجمة، القاهرة 2009، ط 2.

(18) غاستون باشلار: “تكوين العقل العلمي” ، ترجمة د.خليل احمد خليل ، المؤسسة الجامعية للداراسات والنشر و التوزيع ، بيروت ، ط1 ،1981 ، ص 8.

(19) رينيه ديكارت، “تأملات في الفلسفة الأولى” ، مرجع سابق الذكر، ص 199-220.

(20)  Claire Schwartz, (2014). “La question de l’infinité du monde et ses réponses cartésiennes“, Revue: Les Études philosophiques, 1/ (n° 108), pp 99-114.

(21) Blaise Pascal, ([1669] 2000). “Pensées“, Paris, édition de Brunschvicg, fragment 347.

(22) Jean-Paul Sartre, (1976). “L’être et le néant“, Paris, Gallimard.

(23) Luc FERRY, (2015). “Apprendre à vivre“, Paris, Champs Essois. & Luc FERRY, (2016). “7 façons d’être heureux ou les paradoxes du bonheur“, Paris, XO Editions

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: مهدي جعفر

تدقيق لغوي: جاد قرموشة

تحرير/تنسيق: هاجر عمر

اترك تعليقا