أسس الحداثة في الخطاب الفلسفيّ الديكارتيّ.

إذا كانت الحداثة تقوم على أسسٍ ثلاثة تُعتبر بمثابة اللبنة الأساسيّة لها وهي الذاتيّة، العقلانيّة والحريّة. بهذه الأسس الثلاثة تم الإعلان عن بداية التّخلي عن الموروث الفكريّ للعصور الوسطى ووضع منهجيّة جديدة للتفكير، ولا عجب في ذلك فديكارت هو  كاتب مقال في المنهج حيث يُعتبر من أهم الكتب الفلسفيّة في العصور الحديثة وذكر ديكارت فيه الأسس والقواعد التي يتحتّم على الباحث عن الحقائق اتباعها أثناء بحثه الفلسفي، والقواعد هذه هي

أولاً: عدم قبول أي شيء على أنه حقيقة ما لم يكن واضحًا وبديهيًا كوضوح الشمس في النهار. وهناك تَبِعات تترتب على هذه القاعدة منها أن للعقل استقلالية تامة عن أي سُلطة أُخرى وبهذا يكون لدينا ما يشبه الحدس العقل؛ ذلك من شدة وضوح الفكرة فتصبح واضحة وكأن هناك حدسًا عقليًا يجعلنا نقبل بها.

ثانياً : قاعدة تقسيم المشكلة إلى أجزاء فأعود بها إلى الأجزاء أو العناصر الأولية كنوع من التحليل.

ثالثاً : أبدأ من جديد وأعيد ترتيب وتركيب أفكاري فأبدأ من الجزء الأبسط وأتدرج شيئًا فشيئًا إلى الأجزاء الأكثر تعقيدًا.

رابعاً : أخيرًا أقوم بعملية قريبة من الإحصاءات الكاملة ونوع من الجدولة وتقديم تغذية راجعة كي لا أكون قد غفلت أو نسيت شيئاً  فيصبح لديّ ثقة كبيرة بعد أن قمت بمراجعة أفكاري وبهذا تكون منهجية ديكارت تعطي للعقل مساحة كبيرة في التفكير بغضّ النظر عن موضوع البحث.1

إعلان

وبهذه القواعد الصارمة سار ديكارت يبحث عن الحقيقة وذلك من خلال عملية الشك؛ لكن كيف؟ يبدأ ديكارت يشك في كلّ شيء أي كلّ المعارف؛ لكنّه أقرّ بأنه من الممكن أن أشك في كل شيء إلا أنني لا يمكنني أن أشك بأن هناك ذاتًا تشك وتفكر وبهذا يكون ديكارت أثبت وجود الذات ووصل إلى ما يسمى بالكوجيطو

“أنا أفكر إذن أنا موجود”

ولا بد لي من التأكيد على  أن الشكّ الديكارتيّ هو شك منهجي وليس مطلق ويتّصف بكونه شك مؤقت وإرادي أي أنه بإرادة من الذات الشاكة وهادف فهو يهدف إلى الوصول إلى الحقيقة، وبالكوجيطو يكون ديكارت مؤسسًا لحضور الذات في الخطاب الفلسفيّ الأوروبيّ في العصر الحديث حتى أنّه توصّل إلى وجود الله بعد إثبات وجود ذات تفكر وذلك لكون الإنسان كائن شاك، إذن فهو كائن ناقص ولو أنه كان كائنًا كاملاً لما احتاج أن يشكّ وبالتالي فلا بد من وجود الكمال في مقابل النقص ومن المستحيل أيضًا أن يكون كائنًا ناقصًا سببًا لوجود نفسه إذن فهو بحاجة إلى سبب لوجوده وهو الله.

كما أنّ ديكارت يُعتبر الممثل الأكثر بروزًا للاتجاه العقلاني في (الفلسفة الحديثة) ولا عجب في ذلك، فهو رياضيّ منطقيّ ذو خلفيةٍ رياضيةٍ بحته، ومن خلال الفكر المجرّد لوحده كخاصية للعقل (بعكس الامتداد الذي يعتبر خاصية للمادة) استطاع أن يبرهن على الذات والله والعالم وينبغي الإشارة إلى أن الاتجاه العقلاني مُمَثلاً بكل من ديكارت واسبينوزا ولايبنتز هو اتجاه سرى في العصور الحديثة كتعبير عن اتجاه وضع العقل على رأس الهرم المعرفي فالتقسيم عقلانيّ/تجريبيّ هو تقسيم أبيستيمولوجي بالدرجة الأولى أما التقسيم مادي/ مثالي هو تقسيم أنطولوجي. ( وجودي)

وإذا كان العقل كما قلنا يتربّع على عرش الخطابات الفلسفيّة آن ذلك؛ إلا أنّ ديكارت لم يستطع التخلي بالشكل المُطلق عن الإرث الكنسي؛  وذلك ببساطة لأن الكنيسة كانت لا زالت تسيطر على مناحي الحياة، صحيحٌ أنها كانت في نهايات سيطرتها وتودع نفوذها؛ لذلك يرى البعض أن ديكارت كان يمتلك في كتاباته بعدًا لاهوتيًّا فكان متأثرًا القديس توما الإكويني ودليل ذلك أنه أقر بأنه إذا حدث تعارضًا بين العقل والنص الديني تكون الأولويّة للنص الديني والإيمان على العقل، ولذلك وصفه البعض بأنه قد كان جبانًا بعض الشيء، لكن هذا لا ينفي أنه كان مفجّرًا لخطاب فريد من نوعه في الخطابات الفلسفية (الكوجيطو) حيث يقول ديكارت: “أن العقل هو الأعدل قسمةً بين الناس”

إذن بحث ديكارت عمّا هو جوهري في الإنسان وما يكون مشتركًا بين البشر فكان الجواب هو العقل، وهو أساس الخطاب الحداثي، ولقيمته جعل من الفكر ديكارت أحد الجوهرين الأساسيين وهما: جوهر الفكر والمادة عند ديكارت؛ فالمادة تشغل حيزًا أما الفكر هو الجوهر اللا مادي من خلاله فقط توصل إلى الكوجيتو وإذا كان ديكارت خالق الثنائية في الخطاب الفلسفي الأوروبي فهذا يعني أنّه أحدث زلزلة في التاريخ الفلسفي، لكن لماذا أحدث كل هذا التغيير والتحول الجذري؟

يكون الجواب لاحقًا لحياة ديكارت فبعد رحيله وإن خلّف لنا هذا الإرث الفلسفيّ وتحديدًا فكرة الثنائيّات مثل ثنائيّة الروح والجسد، الفكر والمادة، العقل والحواس، أحدثت إنجازات ديكارت عملية انفصال  وانقسام في التيارات الفلسفيّة بعده وانقسم الفلاسفة إلى عقلانيين وتجريبيين وكان هو الرائد للفلاسفة العقلانيين، وهذا لا يعني أبدًا أنه نفى وجود المادة أو قلل من مشروعيتها، لكن العقل كان هو الفاصل والأساسي لتشكيل الكوجيطو وليس التجربة.

أما في ما يخص فلسفة الحرية عند ديكارت فإنّه قد أقرّ بأنّ الله قد منحه الحرية لكن كيف، ولماذا؟ يؤكد ديكارت في تأملاته أن الحرية مرتبطة رأسًا بعملية إصدار الحكم على مدى تميُّز الأفكار ووضوحها، فإذا كان لدى ديكارت مجموعة من القواعد -والتي ذكرتها سابقًا- فإنه يؤكد بأن للباحث عن الحقيقة حرية الحكم على أفكاره، أو تعليق الحكم، في حال لم تكن الفكرة واضحة، وذلك بحسب القواعد المذكورة، إذن أمامه خياران، وله حق الاختيار، وبهذا المعنى فهو يقرّر إما أن يحسن اختيار هذه الحرية أو أن يسيء اختيارها ويخون مبادئ وقواعد المنهجية التي ساقها.

وبهذا يكون ديكارت قد نقلنا من الأنطولوجيا والميتافيزيقا إلى الفلسفة الأخلاقية واكتمال الذات الإنسانية، فالله قد منحها الوسيلة أو الطريقة التي من خلالها تمارس حريتها، لكن سرعان ما يضع ديكارت الأفكار الخاصة بالإيمان المسيحي خارج هذا الإطار، فيجب أن نصدق بهذه الأفكار أولًا، وهي لا تحتاج إلى وضوح وبراهين، وفي حاله حدوث تعارض بينها وبين العقل فإن العقل يكون على خطأ وتم تضليله، لكن تخيلوا أن الفيلسوف ابن رشد وهو سابق لديكارت بما يزيد على أربعة قرون،2 أقر بأن الفلسفة والشريعة أختان رضيعتان، وأن العقل هو الأساس وهو والوحي من نفس المصدر إذن لا خلاف بينهما، فالحق لا يُضاد بالحق، وإذا حدث تعارض بين النص الديني والعقل فإن النص الديني الذي مصدره الوحي يتم تأويله تأويلًا عقليًّا يقوم به أهل البرهان فقط.3

السؤال الذي أطرحه عندما أقف مذهولة أمام فكرة كهذه قدمها فيلسوف وفقيه وقاضٍ كابن رشد هو: أين نحن من فكر ابن رشد وفلسفته؟ وهل نحن فعلًا من ورث فلسفة ابن رشد؟
واقعيًا وللأسف أحرق العرب والمسلمون كتب ابن رشد في القرن الثاني عشر، لكن أوروبا أفادت بترجمات كتبه قبل إحراقها وكان له دور كبير ومؤسس لنهضتها.

المصادر:
1) غادة الإمام وبدر الدين مصطفى، الميتافيزيقا، صفحة 92-93 دار المسيرة  عمان الأردن، 2012.
2) الموسوعة الفلسفية، تأليف مجموعة أكاديميين سوفياتيين، صفحة 8-9، دار التقدم، موسكو- الاتحاد السوفيتي سابقًا،1974.
3) أبو الوليد ابن رشد، فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، صفحة 22، منشورات الجمل، بغداد العراق،2009.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: فرح يوسف عبد الغني

تدقيق لغوي: بيسان صلاح

تدقيق علمي: سارة عمري

اترك تعليقا