الفضاء الجامع قراءة في كتاب ” أندلس الشعراء” لـ محمد بنيس
انتخب الشاعر والناقد محمد بنيس مجموعةً من المقطوعات الأندلسية شعرية ونثرية، في إخراج بديع تحت مسمى «أندلس الشعراء، منتخبات أندلسية في الشعر والنثر»، عن المركز الثقافي للكتاب بالمغرب.
وطأ بنيس هذا المجموعَ الشعريَّ الذي يصل عدد صفحاته إلى ست عشرة وثلاثمائة صفحة بعتباتٍ متنوعةٍ كالإهداء، وهو موجه للأستاذ محمد بنشريفة رائد الدراسات الأندلسية، وكذا التنويه بالذين يرجع إليهم الفضل في اقتراح فكرة الكتاب، وأيضا الذين ساعدوه في إنجازه، ثم أورد بعد كل ذلك نصّاً لابن دحية يترجمُ النظرَ الذي انطلق منه هو أيضا -أقصد محمد بنيس- في انتخاب الأشعار وهو نظرٌ ينبع من وازعٍ ذوقيٍّ في التبويب والتهذيب والانتخاب.
ما يثيرنا بداية في هذا الكتاب هو الصور التي تتمثل في غلافه والتي تتخلل ثناياه، وهي بشكل عام مرتبطة بالمعمار الأندلسي وزخارفه وأسواره وحدائقه الرائقة، والتي تترجم أصالة وحيوية هذه الثقافة في كلتا الضفتين: الأندلسية والمغربية.
بعد العتبات الثلاث، استهل بنيس هذا العمل بمقدمةٍ أبرز فيها الخصائص الحضارية للأندلس في أبعادها التاريخية والجمالية والقيمية، والتي يرى أنه «يلزمنا استحضارها في زمننا الذي طغت فيه مقولة صراع الحضارات، وبخاصة أطروحة الصراع بين الحضارتين الإسلامية والغربية، فيما تدوس اليوم ربيعَه العربيَّ سنابكُ الخراب»، وفي سياق حديثه عن الأبعاد القيمية للأندلس يقول: «ما جعل من الأندلس تجسيداً لقيمٍ عليا كانت البوصلة التي وجهت الحداثة الغربية، فهذه القيم تبقى حلماً مستقبليّاً لعلاقات السلمِ والحوارِ والإبداعِ المشترك بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط».
لماذا الشعر؟
بحكم الباع الطويل الذي حققه الأستاذ محمد بنيس في ميدان الشعرية العربية الحديثة إبداعاً وتنظيراً، ها هو ما يزال ينبري إلى قراءة وإمعان النظر في تراث الحضارة العربية الباذخ انتصاراً لعناصرها الهويَّاتِيَّة الكبرى التي منها الشعر في امتدادته المختلفة مؤكداً على مركزيته في حضارة الأندلس، يقول في هذا الصدد: «ولأن الشعر كان في الأندلس نسج الحياة؛ فنحن نختاره لنقترب من الأندلس في هذه المنتخبات».
وإلى جانب الشعر يلفي القارئُ بعضَ النصوص النثرية التي «ترتفع إلى كثافته» حسب قول الجامع.
المنتخبات الشعرية والنثرية
تنتمي النصوص المختارة إلى شعراءَ كثرٍ: رجال ونساء، من المتصوفة ومن غيرهم، كما تتوزع أصنافها حول القصيد والموشح والزجل، لكن ما يلفت الانتباه هو الافتتاح بالشاعر الكبير أبي بكر ابن عربي والاختتام به، على أن بنيس قدم لنا مسوغاته في ذلك إذ يقول: «فهو الذي غاد الأندلس إلى المشرق واستقر في دمشق وتوفي بها، يظل الوفي للأندلس، منها يطل -شعراً وكتابة- على العوالم اللانهائية، والأندلس في كلماته تجيء دائما، نشيداً بأصوات الأزمنة».
تبويب خاص
لم ينحُ بنيس منحى التبويب العلمي الذي تحذوه غايات تحقيقية لنصوص غابرة أو إحصائية لأكبر عدد من الشعراء أو جمع ما تفرق في الكتب، بقدر ما أطرَّه منطلقاً جماليّاً يروم تقديم عمل فني يشج بين الأدب والموسيقى والمعمار؛ لإبراز أهم معالم الثقافة الأندلسية التي تجرع نسغَها منذ زمنه الأول بمدينة فاس الوارتة لسر حضارة مدن قرطبة وإشبيلية وغرناطة بنتاجاتها في شتى المجالات المعمارية والثقافية.
يقول محمد بنيس: «ما أقدمت عليه في هذه المنتخبات يصدر عن قراءة شخصية لأعمال شعراء وكتاب تتجاوب في رصد ما أسميه بـ(أندلس الشعراء)، وأقصد من هذه العبارة معنيين متلازمين: الأول هو أن هذه المنتخبات ترمي إلى تقديم لقطات منفصلة، نصل من خلالها إلى تركيب صورة وضعها شعراء عن الأندلس، فالقصد هو الأندلس مرئية ومسموعة ومغناة، والمعنى الثاني هو أن مصطلح الشعراء يتسع لكل كاتب استطاع أن يصل بالنص إلى لغة مكثفة شعراً ونثراً».
ويضيف: «وضعت للكتاب تبويباً مستوحى من سهرة موسيقية أندلسية متخيلة، تقرأ فيها النصوص حسب النوبات التي تفتتحها شذراتٌ من بيتين إلى ثمانية أبيات، استقيتها من ديوان الموسيقى الأندلسية، فكل شذرة نغمةٌ لنوبةٍ موسيقية، واقتصرت في تقسيم متتاليات السهرة على ست نوبات -مما تبقى اليوم من نوبات محصورة في احدى عشرة نوبة- هي: الاستهلال، الماية، غريبة الحسين، عراق العجم، رصد الذيل، والعشاق. كان طبيعيا أن أفتتحه بالاستهلال؛ لأنها نوبة مغربية بخصائصها اللحنية، وأختم بالعشاق. ومن لحن إلى لحن، ومن مشهد إلى مشهد، تنظم المنتخبات، حتى لا نهاية للسهرة ولا نهاية للأندلس. ويأتي اعتمادي هذا الإخراج لأقسام المنتخبات من أن أندلس الشعراء هي بالأساس أندلس الموسيقى والغناء، مثلما هي أندلس الزخارف والنقوش».
مفهوم جديد للنوبة
تعرف النوبة في ميدان الموسيقيات بأنها معمار فنيٌّ متكاملٌ تكونه مجموعة من الميازين التي تتألف بدورها من مجموعة من القوالب (البغية والصنعة والتوشية والإنشاد وغيرها)، حيث تشتغل هذه الأخيرة وفق منطق معين.. ولكل نوبة من نوبات الآلة الأندلسية الإحدى عشرة وظائف نفسية وزمنية محددة يمليها مضمونها الشعري وتكوينها الفني المؤسَّس على نظم حكمية قديمة.
يرى محمد بنيس أنه ذهب إلى أبعد من ذلك؛ إذ قدم قلْباً لمفهوم النوبة من خلال نظرته الشعرية؛ فأصبحت النوبة تمثل: «مجموعة من النصوص لخمسة شعراء (أو شعراء كتاب)، تتفاعل فيما بينها عبر بناءٍ داخليٍّ يكسبها وحدة ويمنحها انفتاحاً، وحصر عدد الأسماء في خمس متطابقات مع عدد موازين كل نوبة موسيقية هي البسيط، القائم ونصف، البطايحي، الدرج، القدام».
ويضيف مستطرداً في شرح مقاصده ومراميه: «كل هذا قد يبدو غريباً على الخبير في الموسيقى الأندلسية؛ ذلك أن النوبة في المعنى المتداول اليوم: اسم يطلق على اللحن الموسيقي، وتظل النصوص الشعرية المتصلة به تابعة للموسيقى، أما المعنى الذي أبني عليه هذه المختارات فهو قلب للمتداول، الأسبقية فيه للنص الشعري وليس للموسيقى. النوبة هنا نصية تقوم على تركيب نصوص مختلفة تستقل بذاتها، وتتوجه نحو قارئها بما هي نصوص مختارة للقراءة لا للإنشاد، لكنها نوبة مفتوحة على فنون الموسيقى والمسرح والرقص. معنى جديد للنوبة، يصبح فيها للشعر ما كان لها في الموسيقى، ما دام معنى الكلمة تبدل من بغداد العباسيين إلى قرطبة الأمويين ثم في المراحل اللاحقة. بل إن وضع نصوص تحت اسم نوبات بعينها يفترض أن هذه النصوص تبنِي بخصيصتها النصية ألحاناً موسيقية، وفي ائتلاف -أي ألفة- النوبات الستة تظهر أندلس مركبة من نصوص وألحان، أبدعها أبناؤها وعاشقوها من الشعراء».
وإذا ما ولجنا الديوان الشعريَّ المنتخب، و في إطار هذا القلب الذي أحدثه محمد بنيس إزاء مفهوم النوبة، سنجده يعنون النصوص الشعرية بنفس شعري متميز كـ: نخلة مهاجرة، كون، وطن في القلب، ألذ من الخمر، أنا لك، زادك الله، ما أحلاك، وغيرها. وهذا يعكس العناوين التقنية التي كنا نلحظها في المجاميع الشعرية للآلة الأندلسية كالحايك ومختصر الجامعي وغيرهما كأن يكتب: صنعة، موشح، شغل، أو ما شابه ذلك.
ويوطئ بنيس لكل نوبة بصنعة من صنعاتها في موسيقى الآلة، فدونك الصنائع التي انتخبها المؤلف:
الاستهلال:
ماكنت أدري ما الحب لولاكم علمتموني من طيب معناكم
أنتم في قلبي وذكركم في فمي فكيف أسلو أم كيف أنساكم
الماية:
يا أملح الناس يا من سبى عقلي
يا قضيب الياس يا نسمة الخيلي
أورثتني الواسواس من خدك العسلي
سألتك بربي لا تطرد اللهفان
تائب يا حبي شاين مضى لا كان
غريبة الحسين:
مليح المحيا بوصف حسن
كوى القلب كية قتلني عيان
بالنغمة الذكية وحلاوة اللسان
في لسانه عثرة حين يذكر حديث
ونقنع بنظرة في من قد هويت
عراق العجم:
طب وانشرح واغتنم غفلة الرقيب هاني والله لا غنى عن وصل الحبيب
قم وانتبه وانظر إلى ذاك العذار كيف كساه الخجل
صنعة مولى الموالي المتعال
ومن معه بهج السنا غنج الشفار والمراشف من عسل
شادنا من يلتقيه بلغ الآمال
يا عذول كف الملام على اختيار ونجد في العمل
لأنني وقت السرور عندي حصل
ومعي كاس ونديم وخمر عجيب هاني والله لا غنى عن وصل الحبيب
رصد الذيل:
يا قلبي بشرى هنيا شملي اجتمع بالحبيب
وحبي اعطف عليا غيطا لكل رقيب
شكلي اجتمع بحبيبي غيطا لكل عذول
والحب صار فيه نصيبي ولست عنه أحول
بهذا نبكي رقيبي ونخلي من قال يقول
يوفي لروحي مزيا ونا في عيش خصيب
وحبي اعطف عليا غيظا لكل رقيب
العشاق:
ثغر الزهر باسم من بكا الغمام
وبالسحر ناسم مزهر الأكمام
هذا الصبح حاسم جحفل الظلام
والأطيار تغني بصوت رخيم
صاح هات دني وحي النديم
يتضح من خلال جردنا لهذه الصنعات أنها من الوجهة الشعرية تطرق دلالياً موضوعات الحب والغزل ووصف الطبيعة والخمر ومجالس الأنس والشراب، وتتوزع أنظامها على الشعر الموزون الفصيح والتوشيح، سواء العروضي منه أو الحر، أقرعاً كان أم تاماً، أما من الوجهة الموسيقية فهذه الصنعات على تعددها واختلافها تنتمي إلى ميزان البسيط باستثناء صنعة «يا أملح الناس» التي توجد بانصراف القدام، ولكن تبقى كل الصنعات صنعاتٍ انصرافية، أي في المرحلة السريعة من مراحل الميزان.
على أننا في النتائج التي أوردناها أعلاه نستبعد أيَّ مسوغ تقنيٍّ في اختيار بنيس لصنائع الآلة، لكننا نرى في إيراده لها رغبة تطمح لتقديمها باعتبارها من أبرز معالم الثقافة الأندلسية الحمالة لدلالات كونية تعبر عنها قيمها الوجودية.
في اعتقادي أن هذا الكتاب لا يمكن أن يكمل تمثله إلا إذا تم تأديته في شكل مسرحية ينتسج فيها كلٌّ من الأدب والموسيقى والمعمار، ويبقى المجال مفتوحاً لمتلقٍ آخر يملأ هذا البياض الفني المكمل.
لقد جاء هذا العمل الأدبي والفني محكم البنى والأركان، واضح المقاصد والأهداف، وهو بكل هذا يترجم وجهاً من وجوه الاهتمامات الجمالية والفكرية للشاعر الكبير محمد بنيس والتي بها تظهر خصوصياته وميزه حيث تنبغ على سطح الشعر والنقد معا، متجذرة في أعماقهما المتاحة والعصية.
نرشح لك: الشعر الجاهلي قَيْدَ المُحَاكَمَة: كيف كان يرى طه حسين شِعْرَ الجَاهِليِِّين؟!