رواية التحوُّل لفرانز كافكا كما يقرأها نيتشه والمسيح: عندما تتحوَّل العائلة والقارئ

رغم أنّها تعدُّ قصةً طويلة أو روايةً قصيرة، لكن سنشير إلى هذه القطعة الأدبيّة بكلمة رواية، ولا نعلم إذا ما يجوز نعتها كذلك بالرعب فهي لا تقدِّم لنا أشباحًا بل تفاصيلًا واقعيَّة ونفسيَّة ستشعر قارئها بالذعر، حيث سيلتف به الظلام منذ الكلمات الأولى التي تنزلق منها بعض من التساؤلات المحيِّرة.

فهل يمكن لعقلك على سبيل المثال تَحمُّل فكرة الاستيقاظ يومًا متحولًا إلى مخلوقٍ غريب وآخذًا صورة حشرة أو الشعور بجسدك وهو ينزوي وحيدًا في الغرفة منهكًا ومجروحًا؟. ستلاحظ بأنَّ الجميع يفر منك بعد أن يرمقك بنظرةِ تقزُّز ونفور، وربما ينتظرون موتك، بالإضافة إلى عجزك عن المشي كما كنتَ والذي هو أبسط عملية يقوم بها البشر.

يُقدَّم لك الأكل يوميًا في غرفةٍ تُحبَس فيها كمجرمٍ محكوم عليه بالمؤبَّد، وتتدهور فيها حالتك وأنتَ تجهل ما سوف يحدث لك في المستقبل القريب. هل ستنتهي مصيبتكَ على يد الموت أم ترجع مثلما كنتَ آدميًا من جديد؟ أم ستعيش بصورةٍ جديد مع أشخاصٍ تعرفهم سيتقبلونك؟ .ما هي التغيُّرات التي ستطرأ عليك وهل ستؤثِّر في الآخرين؟ كان هذا السؤال الأخير هو أهم ما في هذا النص الأدبي الذي سيُسرَد باختصار، ويُلحَق بقراءتين متخيَّلتين لنيتشه والمسيح من منظوريهما الفلسفيّ واللاهوتيّ مع تفكيكِ هذا التحوُّل.

 

في هذه الأسرة المجهدة، المرهقة بالأشغال من ذا الذي كان له الوقت للاهتمام بغريغور؟
-التحوّل،فرانز كافكا

التحوُّل

-البدايات:

استيقظ غريغور يومًا من نومه ليجد نفسه قد صار حشرة، ذاك الإنسان حسن التصميم كما يُخيَّل إلينا قد وجد نفسه على شاكلةِ مخلوقٍ غامض من صنف الحشرات رغم بقاء وعيه وذكرياته التي ظلَّت مثل الأطعمة المعلّبة سالمةً. إنّ غريغور الآن في وضعٍ قد يبدو أسوأ من حالِ رجل فيكتور هوغو: أحدب نوتردام بمسافاتٍ بعيدة.

إعلان

التحوُّل هو عنوانٌ لرواية كافكا بترجمةٍ عربية للشاعر إبراهيم وساط الذي رأى أنَّ عنوانه أنسب وأدّق من كلمات أخرى مثل المسخ أو الانمساخ، فغريغور لم تمسخه ساحرةٌ شريرة، ولا لعنة حلَّت عليه ولا حتى غضب إله عنيف. لقد كان نائمٍا مثل أيِّ إنسان ليكتشف عند استيقاظه تبدُّله إلى الشكل المذكور سابقًا. أليس هذا محض عبثٍ أم حقيقة علينا الإقرار بها منذ الكلمات الأولى للرواية حتى يتسنَّى لنا بذلك رؤية آثارها الجانبيّة مستقبلًا؟

بطنٌ منتفخ بخطوطٍ مقوَّسة وظهر قاسي كالمعدن وقوائم نحيفة لا تكاد تناسب هيكله الجديد. كان هذا هو ما صار عليه غريغور، وأثناء تلك اللحظات لم يجد أفضل من النوم كأفضلِ حلِّ لمأزقه، وقد اعتقد بأنَّ ذلك مجرد تخيِّلات فحسب يرافقها رشح، غير أنَّ الحقيقة هي تغيُّر هيئته إلى حشرة، وهكذا فلم يعد النوم على الجانب الأيمن يسعفه كما رغب فالحشرات لا تنام على جنبها، على الأقل كما نحسِب فإذا فعلتْ ذلك فستكون إما في مأزقٍ أو أنَّها ماتت ولقد مرَّ غريغور بنفس بالكارثتين معًا.

ورغم إدراكه ما حصل، فنحن نراه منزعجًا، ليس من هيئته الجديدة أو عدم قدرته على النوم وإنَّما من عمله المنهك الذي يتذمَّر منه في صورة تحسبه فيها وكأنَّ منظره لا يهمه على الإطلاق بل يهمنا نحن، نحن من نفكِّر به الآن وليس غريغور، نحن هو غريغور، الشخصية الأساسية في عملِ كافكا فهل هذا ما أراده من قرَّاءه؟.

يفكِّر غريغور مجددًا حول عمله، الشغل الذي ينسيه وضعيته المأساوية، فقد بقي فيه لخمس سنوات كاملة لم يتغيَّب فيها إطلاقًا وهو التاجر المتنقّٓل فيه. وأثناء تفكيره العملي هذا يمكن لأيِّ قارئٍ أن يلعن كافكا ويتساءل في صخب “أما يهم هذه الشخصية غير العمل؟”. وبسبب العمل أو تبعاتِ شكله لم يتفطَّن غريغور لصوت المنبه على ما جعله يفوت موعد القطار مرتين، لكنَّها الآن الساعة السابعة إلَّا ربع ولم يغادر مخدعه أيضًا، أثناء ذلك يحاول غريغور النهوض من السرير غير أنَّ العملية ترهقه فما بالنا بالمسير.
لقد كافح في مغامرته مع السرير لينهض قبل مجيء السابعة والربع، أو وصول موظَّفٍ ما من العمل ليستفسر عن تفويته القطار، وقد أتى فعلًا في تلك الدقائق مدير الشركة، وحينذاك لم يجد غريغور طريقة أنسب غير الخروج بسرعة مرتميًا على الأرض بعد ارتطامه بالسرير وإصابته.

يدور حوار بين العائلة ومدير الشركة الحاضر، وغريغور وراء باب غرفته من دون فتح الباب الذي تعوَّد على قفله كلّ ليلة، إنَّ المشكلة الآن هو غياب غريغور عن العمل، مشكلة تبدو وكأنَّها نكبة وجوديّة متعلِّقة به، فلماذا فوّت موعد قطاره؟ هل هو مريض؟ لما لا يتحدَّث عن السبب؟ ولما لا يفتح الباب لمدير الشركة؟ ناهيك عن بكاء أخته غريتا وذعرها من فكرة طرد شقيقها من عمله الشيء الذي سينهك الأسرة بتسديد الديون لرب عمل غريغور وبأزمةٍ مالية تقصم ظهورهم.

-التحوّل الفعليّ:

يبدو كل شيء إذن متعلِّق بعائلة غريغور أكثر منه. فيعد ما وقع يمسك المسيِّر أطرافَ الحوار ويوجِّه كلمات قاسية لابنهم وهو يؤنبّٓه على صمته، ثم يتوغَّل في الحديث عن عمله ونشاطه الأخير الذي يصفه بالضعف وغريغور يصغي بصمت، “هذا العمل اللعين مجددًا”. -نقول نحن والقارئ-.
يدافع غريغور عن نفسه لكن لا أحد يفهم ما يخرج من فمه بسبب ما صار عليه، فالكلمات تنهمر على نحوٍ مشوَّه وناقص وغامض، أما المسيِّر فيخاطب العائلة قائلًا: “لقد كان ذلك صوت حيوان”.

إنَّ حلّ الورطة إذن لن يكون إلَّا باحضار طبيبٍ كما اعتقدتا لأم، بينما رأى الأب الحازم ضرورة إحضار فاتح أقفال، فالحشرة لا يمكنها فتح الباب كما نعلم وغريغور الآن حشرة، لكنه رغم ذلك ليس بحشرةٍ عادية، ولو كان قفل الباب صعب عليه جدًا إلا أنّه استطاع فتحه في الأخير بعد أن أذى فكه من دون إحضار الرجلين. فهل حقًا هو حشرة الآن، حشرة تستطيع فتح الأقفال!.

بعد لحظة من خروجه وسط تعجُّب الجميع، خاطب غريغور في تلك اللحظة المسيِّر حول رغبته في اللحاق بالعمل وكأنّ المشكلة الآن عملية وهي كذلك عند بطل كافكا. كانت كلماته غير مفهومة مجددًا، ولم يصغي إليه حتى المسيّر الذي فرّ هاربًا، ولا أحد الآن غير غريغور من تدور في ذهنه أفكار العمل، ويبقى غريغور مع العائلة المذعورة من تحوُّله المرعب، التي أقحمته مباشرةً وبعد فترةٍ وجيزة من خروجه إلى غرفته مجددًا مع دهشةٍ ممزوجة بالخوف، على يد الأب الذي أذى جسد ابنه وهو يحشره فيها.

في الأيام التي لحقت بتحوُّله المفاجئ، لم يكن بوسع أيِّ أحدٍ وقتها التجرأ على دخول غرفة غريغور باستثناء أخته التي اهتمت به وبغرفته مع تغيّر في تصرُّفات العائلة التي أصبحت هادئة على عكس ما كانت، وتغيَّر روتينها وما كانت تفعل سابقًا، كما لم يغب عن لسانهم موضوع الابن، وأما الخادمة فتم تسريحها وجُلِبت خادمة غير مقيمة بسبب مشكلتهم الماديّة ورجوع الأب إلى العمل كعامل في البنك.

ما وقع هو وضعٌ محرج للجميع وأوَّلهم الأب، فما زال عليه تسديد الدين لرب عمله الذي كان يدين له به بعد إفلاس مؤسَّسة الأسرة منذ خمس سنوات. وإلى حدِّ اللحظة لا يزال الشغل الشاغل لابنه غريغور التفكير في هذا الموضوع.

لقد أصبح يقضي يومه بعدها في الإصغاء إلى عائلته ومراقبة ما يحصل في المنزل. فلا يزال لدى الأب مثلًا مبلغًا مخبأ من السنوات السابقة غير أنَّه متروك للمستقبل فحسب احتياطًا، والحلُّ هو العمل من جديد وتغيير حياتهم من الاقتصاد في النفقة والتخلُّص من الملابس المكلفة والحليّ التي تمتَّعت بها نساء البيت.
ومن خلال كلّ ما سبق، لاحظ غريغور تغيُّر ميوله نحو الطعام بما في ذلك ذوقه الذي بات يفضِّل الأطعمة الفاسدة، وهجر الحليب الذي كان يحبُّه مع اشتهاء وتوقٍ غريب لطعام مجهول ظلَّ يلازمه، ناهيك عن المتعة التي يجدها في تسلُّق الجدران وتحكُّمه بجسده الحشري لكن مع خفوت نظره، فما الذي تغيَّر فيه عدا هذه المسائل التافهة. لا شيء!. فهل نحن البشر مُصمَّمون حقًا لفقدان انسانيتنا بمجرَّد اختلافنا عن الآخر ظاهريًا؟.

كانت أخت غريغور هي المسؤولة عنه رغم اشمئزازها منه فلم يكن في وسعها حتى النظر إليه، أما هو فقد أدرك الأمر ولذلك نراه وهو يخبِّئ نفسه تحت الأريكة.

في أحد الأيام ارتبك الأخ مما فعلته أخته حين قرَّرت تفريغ غرفته من الأثاث حتى يتسَّنى له تسلّق الجدران بارتياح وقتها. غير أنَّ الحقيقة تتمثَّل في كونها انتهاكًا له ولتاريخه البشريّ. فهل يمكن أن يفقد فيها غريغور إنسانيته؟ وهو يرى غرفته تُفرَغ من أثاثه، ماضيه الذي كان يعيش معه داخل الغرفة منذ أيام دراسته وذاته وبسبب هذا التهديد وفي حركة سريعة ستكتب له بقاء ذكرياته وهويته لم يجد غريغور حلّاً إلَّا في الالتصاق بإطار صورة معلَّقة على الحائط كآخر غرضٍ في الغرفة حتى لا تمس، ولسوء حظَّه فقد تلقَّى في نفس اليوم عنفًا سببه والده نتيجةَ تركه لغرفته بعد اقتحام الأخت والأم لها، حين رماه الأب بعدها بحباتٍ من التفاح ظلت إحداها مغروسة في جسده.

استبدِلت الخادمة بخادمة أخرى متسلِّطة وأكثر قوَّة، وقد اكتشفت غريغور في غرفته حيث صار ساكنًا أكثر وقابعًا في مكانه بسبب جروحه، واستمَّرت في ازعاجه بدخولها غرفته كلً يوم وتوجيه كلماتٍ مهينة إليه مثل “اقترب قليلا يا خنفس الروث”. لقد عاملته ببساطة كحشرة.

-النهايات:

لا أود من هذا العنوان الفرعي القول بأنّ التحوّل سيختفي، إنّه تحول آخر يبشِّر بأوضاع جديدة لا غير لكلِّ فرد في العائلة بما في ذلك غريغور الذي وجد غريتا، تلك الأخت التي أحبَّها، وكان يخطِّط لأجل إلحاقها بأحد المعاهد الموسيقية لعزف الكمان كما تمنَّت، ثم إعلامها بذلك لولا ما حصل له، كانت قد قررت أن تعمل كبائعةٍ مع والدتها التي أصبحت تخيط الملابس. ما جعلها يوما بعد يوم تهمله بل وتملُّ من وجوده. وما جعل الأمر أسوأ هو قدوم مستأجرين صارمين عوملوا وكأنَّهم أسياد وتمت المبالغة في إعلاء شأنهم. فتحوَّلت غرفتها مثله إلى مكان يرمى فيه الأثاث القديم أو غير المستعمل في غرف المستأجرين من دون أن يكتشفوا غريغور.

وجاء اليوم الذي انطلق فيه لأوَّل مرة صوت كمان في البيت، مصدره غريتا وموسيقاها التي أعجبت المستأجرين مؤقَّتا فسرعان ما شعروا بالملل عكس غريغور الذي كان سعيدا بها حتى النهاية.. النهاية التي تجعل غريغور يترك غرفته، ويتقدَّم إلى غرفة الجلوس ليصغي أكثر لعزف أخته إلَّا رؤيته صدمت المستأجرين الذين قرَّروا الذهاب وعدم دفع المال لقاء بقاءهم في البيت بل الشكوى بعائلتهم.

لقد أفسد غريغور كل شيء بعدما كان الوضع فاسدًا مسبقًا، قالت الأخت مكتفية “أنا لا أريد أمام هذا الوحش أن أتلفَّظ باسم أخي لذا أكتفي بأن أقول علينا التخلُّص”.
كما لم تعثر الأسرة على أيّ حلِّ باستثناء تكرار كلمات تعبِّر عن تمنياتها في أن يدرك غريغور لما يقولونه وما يعانونه. فعائلة غريغور لم تعلم أنّ ابنها يفهم كلماتهم بالفعل، وقد فعل واستوعب أنَّه ما من حل إلا بموته لإنقاذهم ونيل رضاهم.

لقد أصبح جسده هزيلًا ومريضًا، والجروح تشتدُّ عليه أيضًا، وقد عاد في تلك الليلة إلى مكانه بعد أن أنهكه الزحف والدوران مرات عديدة لأجل دخول الغرفة التي سارعت شقيقته إلى قفل بابها بعنف شديد، كان ذلك آخر صوت سمعه غريغور.. بابًا يُغلَق بشدَّة حيث يُظهر غضبًا مسلّطا عليه مع جوعٍ يلاصِق جسده، ورغم الألم شعر غريغور بالارتياح وهناك لفظ آخر أنفاسه بعد أن قتلته الموسيقى.

“تعالوا لتروا ما وقع ، لقد نفق، إنّه هناك على الأرض نافق تمامًا”.  ما سبق ذكره هو أولى كلمات الصباح من خادمة المنزل للعائلة، فبإمكانها أخيرًا أن ترتاح، حيث  شكر أفراد العائلة الربَ وهم يرسمون اشارة الصليب وكأنّهم تخلّصوا من شيطان كان يرمي لعناته عليهم، قبل أن يجتمعوا في أحد الغرف ويذرفوا الدموع على ابنهم ثم يخرجون في نزهة، وأثناء ذلك كان الوالدان يرمقان ابنتهما غريتا التي تكبر يومًا بعد وتزداد نشاطًا وحيويةً، بنظرات إعجاب، لقد رأيا فيها شابة قد وصلت إلى عمر الزواج الذين هم في حاجة إليه، رجل يحملها ويحمل عائلتها كما كان غريغور يفعل فهي البطل الجديد!.

هناك من لم يوفَّق في الحياة: في قلبه دودة سامة تنخره، فليعمل إذًا على أن يكون أكثر توفيقًا في مماته.
-فريدريك نيتشه (1)

نيتشه يقرأ كافكا

كان بودنا من نيتشه قراءة رواية التحوُّل التي كُتِبت تقريبًا قبل سنة [1913م] ونُشرت سنة [1915م] لولا أنّ الحياة لم تفارقه، وهذا ما يجعلنا نرغب باختلاق قصةٍ يكون نيتشه قارئها وهو يقرأ لـ كافكا. بوسعنا تخيَّل نيتشه وعدَّة تساؤلات تخنق ليس عقله فحسب بل جسده. فهل يمكن على سبيل المثال لمحبة الأم أن تتعلَّق بمجرد شكل خارجيّ أم هي أعمق من مجرد غريزة بيولوجيّة أو عاطفة اجتماعية حتميّة، أمومة مطلقة تتحدَّى الأشكال المشوَّّهة وتدوس على كلِّ تنميط للمظهر الإنسانيّ وسلطة مفاهيميّة تتحكم في تعاملنا مع الغير؟. وكيف نشرح الإنسان أمزيج من مادة بشريّة وذات لا يمكن فصلهما؟ أم كل الإنسانية تكمن في الأنا نفسها حتى لو أصبحنا على شاكلة حيوانات وعفاريت ألف ليلة؟.

هذا إذا اعتبرنا وجود الأنا من أساسه التي ينكرها نيتشه على الأقل مثلما قدِّمت إلينا مع الذات. فما هو الحب حقًا؟ الحب الذي لم نجده في هذه الرواية نقيًّا مثله مثل الأمومة، حب ملوثٌ وناقصٌ يفضِّل الراحة والجاه والمظهر الآدميّ، أما الأبوّة التي تحتَّل مرتبةً أقل من الأمومة ولا أوّد إهانتها فهي الأخرى في شكلها الجديد في التحوُّل أكثر صرامة وقساوة، ولنتحدَّث عن الأخوة التي تتأرجح دوما بين دفَّتين، تتناقض وتمزِّق نفسها ووجودها كآخر حدث عظيم. فالأخت لا تريد أن تنطق اسم أخيها أمام الوحش بلسانها متقمِّصة بذلك روحها مع روحيْ الأم والأب في جملة واحدة تنذر باكتفائهما من غريغور بل وبموت غريغور وبقاء مجرَّد وحش قابع في غرفته يحمل اسمه وإنكار كونه هو مع علمهم بأنّه هو/هو.

ربما سيستبدل نيتشه مقولته “موت الإله“. وينادي بموت غريغور، نعم لقد قتلوه بنكرانه وإزاحته عنهم ومعاملته كشيءٍ ينحرف عن الطبيعة البشرية، وفي النهاية سيموت غريغور لتحيا عائلته.

وحتى اللّغة ستستحوذ على نيتشه هنا، هذا الأخير الذي كان يراها دومًا ترافق السلطة التي تتحكَّم بها وبنا. وتكرّس لثنائيات الخير والشر، تحقير الآخر، وإلباس المرء شخصية تتماشى مع بلده وهويّته. سيسعد محطِّم الأصنام من دون شكّ وهو يرى في غريغور كائنًا لا يقدر على التحدَّث بها والتخاطب مع عائلته التي هي بدورها تظنّه قد أضحى غير مدرك لمعنى أيِّ حرف من كلماتهم. لا يوجد معرفة، لا يوجد اتصال فلا يوجد أي زيف إذن.

لاحظنا كذلك في أنّه ما من إرادة هنا. ولا حتى إرادة حرَّة رفضها نيتشه وتصوَّرها مجرًد كذبة ومبرِّر لمعاقبة الإنسان على ما اختار. فرغم ما حاولت الأسرة بذله في سبيل الاستمرار في الحياة بعد هذا التحوُّل إلَّا أنَّ شيئًا أعظم من الإرادة كان يقهرها على مواصلة ذلك فالحياة تجبرنا على فعل أشياء من دون إرادتنا، إنّ كافكا يُنكِّل بالإرادة إذن وبكل قيّم الأسرة التي تدعي الصدق والإنسانيّة.

ربما سيلحظ نيتشه غرائز العائلة تتصارع من دون إمكانية تصالحها حيث تغلب واحدة على أخرى، لتُحقِّق إرادة الاقتدار التي تجسِّد الصحة والنمو متخلّصةً بذلك من غريغور الذي كان أيام مجده أشبه بتابعٍ وعبد يخدم أسياده -والديه-. أما الآن وإضافة إلى ضعفه في الماضي فهو أضعف، كما أنَّه قد صار منبوذًا، بصرف النظر عن أخلاقه التي لا تزال نفسها أخلاق العبيد الارتكاسيّة.

وعن مرض غريغور والجروح التي بجسده، فربَّما سيدركها الفيلسوف الألمانيّ الذي كان يشكو من آلام جسديّة عديدة وأمراض أرهقته، فـ كَم رفض نيتشه قابلية أن يكون عالة على الآخرين مثله مثل غريغور فهو يقول: تلك الصرامة مع النفس التي جعلتني أرفض أن أكون مكفولًا ومخدومًا ومطبَبًا. (2) وربما كان سيشفق على غريغور ولو كان يحتقر “الشفقة” ويراها من أخلاق العبيد.
لقد كان غريغور يتناول الطعام مثل أيّ شخص غير أنّ نظامه الغذائيّ قد تغيّر بعد تحوُّله وصيامه عن عدة أطعمة، وتركِ نفسه للجوع مرات عديدة وقد اهتمت الرواية بموضوع الطعام ومعدة غريغور بصفة بالغة.
أما نيتشه فقد تحدَّث لنا عن التغذية في آخر كتبه، وما يُحِبُّ من الطعام، لقد قال أنه كان يتناول الطعام بشكل غير صحيّ لسنوات قبل تغيُّر عاداته الغذائيّة وابتعاده عن عدَّة مأكولاتٍ وأطعمةٍ.

إنَّ غريغور الأخ المسيحيّ التقليديّ كان محبًا للعمل لأجل أسرته رغم صعوبته عليه و نفوره منه، وللمسيطرين عليه غير أنّه كان راضيًا بالركض وراءه ومن خلال الركض وراء العمل هو يفعل كذلك مع عائلته كعبدٍ لهم. هذا الإنتاج العمليّ الذي أفرزته الحداثة التي احتقرها نيتشه وكان ناقدًا لها. يقول: “نطري على الشاب الذي هلك في التفاني في عمله ونتألم له، (..) وهكذا فإنَّنا لا ناسف لهلاك ذلك الشاب أسفًا لحياته، بل لأنَّ أداة طيعة لا تتدَّخر نفسها (..) قد خسرها المجتمع من خلال ذلك الهلاك”. (3) وكذلك يكتب عن إيثار النفس الذي يجده في ذاته رغم فكره النقدي: “إنَّ حب ذوي القربى والعيش من أجل خدمة الآخرين… إنها الحالة الاستثنائية الوحيدة التي انتصرُ فيها خلافًا للقاعدة ولقناعاتي إلى الغرائز الغيرانية إنّها هنا تخدم إيثار النفس”. (4)

سيتذكَّر نيتشه شقيقته إليزابيث التي اعتنت به في آخر أيام حياته حين كان عليلًا ومريضًا، وإقدامها رغم ذلك على تعديل كتاباته فنتج عن ذلك أنَّه قدِّم بصفته عراب النازيّة وملهم أتباعها. لقد أمكن لنيتشه الشعور بأنَّ غريغور قد خاض الصعاب التي خاضها هو، فها هي شقيقة غريغور التي رعته في البداية قد خذلته متخلِّية بذلك عنه، فهل نيتشه هو غريغور أيضًا؟. نيتشه الذي كان منذ أيام طفولته طفلًا حسن السلوك، مطيعًا للجميع وللقوانين بشكل مذهل وكأنّه رجل بالغ. الطفل الصغير الذي تمنحه والدته قصاصةً ورقية بأهم القواعد التي ينبغي فعلها وعدم فعلها مثل رسالتها هذه: “احرص على أخذ مظلتك في حال أمطرت… وإذا حصل وتبلَّلت، قم بتبديل ملابسك فور عودتك إلى المنزل” و كذلك: “احمل هذه الصفحة معك وضعها في مكتبك واقرأها بين حين لآخر.. هذه هي قواعد السلوك”. (5) ألا يمكن أن يوازي في ذلك غريغور المطيع لعائلته والوديع قبل وحتى بعد تحوله؟
ولكن، ودومًا توجد -لكن- على ما يبدو وكأننا نصِّر على الثنائيات دومًا، فرغم حب غريغور لشقيقته إلا أنّ أسرته قد قامت قوائمها ربما على تسلّط الذكر ومركزه المهم في العائلة منذ أولى الخطوات التي خطاها رب الأسرة.
هل ما ذُكر آنفًا سيعجب نيتشه الذي يوصم أحيانّا بالميسوجينيّة؟ سواء رأينا ذلك سوء فهم أم حقيقة. أم أنّه مجددًا سيقف ضد هذه العائلة ويصيح: لا أحد منكم يفهم فلسفتي أيّها الحمقى.
أمَّا شخصية الأب الذي صُوِّر بمنظر قاسٍ ومع ذلك خصصت لشخصيته الرواية حصة كبيرة من الحديث عن تعبه وإرهاقه ومعاناته بسبب الذي حصل، فأؤكِّد عن يقين من دون أن محبة اليقينيات شفقة نيتشه على هذا الرجل الصارم وهو يقرأ معاناته، وهو الفيلسوف والشاعر الذي كان يحب والده ويحترمه لدرجة لا يمكن تصوُّرها على حساب والدته وأخته كما يظهر في كتابه الأخير.

لقد أحبَّ غريغور الموسيقى، ومثله نيتشه الذي عِرِف عنه أنَّه كان موسيقيًا أيضًا، ناهيك عن أنَّه كتب عنها واعتبرها خلاصًا للانسان فهل موسيقى غريتا خلَّصت أخاها من المعاناة؟.
في النهاية لا يجب علينا قراءة نيتشه أو أفكار ما بعد الحداثة وهو عرَّابها إذا كنا نود تحطيم القيّم السائدة، فـ قراءة واحدة لرواية كافكا ستجعلنا نهزأ بكل ما قدَم لنا بل ونشكّك ونتخوَّف من عائلاتنا ومن أجسادنا أيضًا. سيفتح نيتشه فاهًا ويقول عن كافكا: لقد تغلَّب عليّ اللعين. لقد دمَّر البشر، ليس القيم فحسب.

ادخلوا من الباب الضيق، لأنّه واسع ورحب الطريق الذي يؤدي إلى الهلاك.
-يسوع المسيح (6)

المسيح يقرأ كافكا

المسيح، عدو نيتشه، ذاك الرجل والمؤمن السماويّ الذي تحدَّاه الملحد الأرضيّ -نيتشه- ، لَكَم وددنا لو قرأ هذه الرواية باللغة العبرية أو الآرامية ولما لا تكون اليونانيّة فالرب يعرف جميع اللغات. لكنّه الآن قد مضى على صلبه أكثر من 2000 سنة، وهو فوق، على يمين الأب، فهل يمكن للسماء أن تقرأ الكتب كما يفعل سكان الأرض؟
لقد حلّ المسيح وهو الكلمة في جسدٍ مولود من مريم العذراء، في جسدٍ كُتِب له فقط، لكن ليس جسده الحقيقيّ مثلما كان غريغور قد وجد نفسه في جسد غير الذي كان به ولو بالأمر اختلاف؛ فالمسيح هو الكلمة الذي لا ينتعل أي جسد مدنّس، لكن على الأقل سيستطيع تقدير شعور غريغور وما تعرَّض له في محنته تلك.
لم يعبأ المسيح بجسده البشري الضعيف وتواضعه ذاك الذي أنزله إلينا متخليًا عن مجده، فقد أخذ صورة إنسان وهو الإله، وحافظ رغم ذلك على طبيعته اللاهوتيّة وقدرته، فاللاهوت كان يعمل فيه مثلما كانت تعمل ذات ووعي غريغور البشريّ في جسده الجديد.
سنفترض أنَّ المسيح كان نجارًا مثل والده ربَّما، على عكس غريغور الذي يُعتَبر بائعًا، لقد كان المسيح متنقلًا ينشر كلمته ومعجزاته مجانًا أما غريغور فيبيع السلع متجوّلّاً لأجل أسرته.
سنقول أنَّه لو حضر المسيح بيننا لنصح كل يهوديّ وأمميّ، عاقلًا أو مجنونًا بقراءة رواية التحوّل أو سماعها على الأقل. فلا أحد يحبك حقًا سوى الله، هذا ما سيقوله، أما البطل فهو مخلِّص العائلة والشخص الذي سيرى فيه المسيح شيئًا من اللاهوت يعمل فيه ولا يمكن بتاتًا أن يكون منا نحن الخطاة الناقصين؛ “فالجميع زاغوا وفسدوا”. (7)

سيتغاضى المسيح أثناء مطالعته لكافكا عن ارتجاج القيّم والتشكّك من الأمومة وسيهم بالقول أنَّ الحب المطلق فقط نابع من اللاهوت، ولا أحد يستطيع تحمُّل التعب ومسؤولية أحد غيره هو، فلا بأس بما فعلته العائلة فما أفرادها إلَّا بشر من آدم فساده فيهم. والمسيح نزل من السماء من فرط محبته وسعيه للمصالحة بيننا وبينه، ورغم الجسد الذي كان فيه، فقد ظلَّ يواصل نشر كلمته ورسالته بل هو الكلمة والإنجيل الحقيقي الذي له قَدَمان. لم يعبأ المسيح بشيء، وهو الأمر نفسه الذي فعله غريغور في محاولةٍ لإسعاف أسرته كما كان يفعل دومًا متناسيًا حالة شكله وجراحه حتى لحظة موته.
لن يعبأ المسيح بالأبوة البشرية أساسًا فهو الإله الظاهر في الجسد المولود من امرأة لا من أب، وأنّ الأب الحقيقي والكامل هو الإله فقط. كما بوسعه كذلك تقدير ما كانت تبذله غريتا وهو يراها تخدم أخاها مثل والدته مريم أو مريم المجدلية مع مريم أخت لعازر وأختها مرثا، غير أنَّه ربما سيتذكَّر تذمرها منه أو وصفه بالوحش وصفقها الباب بعنف ويردِّد مكرِّرًا كلماته التي قيلت يومًا على الجبل: “أما أنا فأقول أنّ كل من يغضب على أخيه باطلًا، يكون مستوجب الحكم”. (8)

لقد قدَّس المسيح الأخوَّة التي ذكرها بكافة أشكالها حتى عديمة النسّب، فهل سيرى أنّ غضب غريتا، الأخت الحقيقية بالدم، له ما يُبرِّره، أم أنّه قد بُني على باطل؟ كون أخاها لم يفعل شيء غير الاستيقاظ على هيئة حشرة في أحد الصباحات. أو هل سيتجسَّد له حين يقرأ عن خذلان شقيقها، يهوذا الإسخريوطي؟ تلميذ المسيح الذي خذله وسلَّمه إلى الجنود، أم نقول الرسول بطرس الذي ادعى عدم معرفته بمعلّمه خوفا من اعتقاله. -سرعان ما ندم هذا الأخير من شدِّة حبه الصادق للمسيح يتعقَّبه ويرجع لدعوته- إنَّنا من دون شكٍّ لا نرى في غريتا غير يهوذا آخر في جسد امرأة وربما هذا ما سيراه المسيح، لقد تركه الجميع بمن فيهم شقيقته الوحيدة.

ربما سيقول المسيح أيضًا أنَّ غريغور لم يمت كما تخيَّلوا بل سيقوم في اليوم الثالث ويصعد على يمين الآب مثله حتى وقت الدينونة، وسيعجبه لو كان قد استخدم بعض كلمات كافكا في عظة الجبل. سيستعد المسيح لعودة آدم آخر جديد، آدم الذي تناول التفاحة وعوقب بقسوة فحُرِم من الخلود، سنجد روحه الخاطئة دخلت غريغور الذي انغرست الفاكهة في جسده الجريح بعد هروبه من أخته ووالدته. وحتى المسيح كان آدم جديد يخطِّط لمسح آثار خطيئة آدم الأول.
سيصرِّح المسيح وهو يرى غريغور الصامت الهادئ والمطيع وهو يتناول الأطعمة الفاسدة بأنّ “ليس ما يدخل الفم ما ينجس الإنسان بل ما يخرج من الفم… ما يخرج من الفم فمن القلب يصدر وذاك ما ينجس الإنسان لأنّ من القلب تخرج أفكار شريرة… هذه هي التي تنجس الإنسان”. (9)

المسيح الذي كان يترك نفسه لساعات جائعًا وعطشًا ولا يملأ بطنه بكل ما يشتهي الإنسان، (10) ويعيش مكتفيًا، ومهتمًا بأحوال اليهود والأمم وتلامذته، الرجل الإله الذي صام عن الطعام في التجربة، والمتجوِّل الذي بوسعه تحويل الحجارةِ إلى خبزٍ ومضاعفة الطعام لنفسه لكنه لم يفعل فالخبز وحده لا يحيي الانسان كما ذكر يومًا.
ألم يكن غريغور مثله يأكل قليلًا ويترك أيضًا نفسه للجوع مفكِّرًا في أمر أسرته أكثر من ذاته. فهو قد نفق وهو جائع لذلك الطعام الذي كان يجهل كنهه وكان يتوق إليه، طعام أو رمز أراد كافكا ارساله إلى لاوعي كل قارئ منا.
أما المسيح فمات وهو عطشان من دون أن يشرب ماءً مثلما لم يأكل غريغور طعامه الغامض ذاك، غريغور الذي احتقروه بوصفه حشرة ونفروا منه بل وتعرَّض لعنف وأذى بسببهم، أليس المسيح مثله وهو القائل في المزمور قبل تجسّده: “أما أنا فدودة لا إنسان، عار عند البشر ومُحتَقر عند الشعب”. (11) فكلاهما ماتا وهما يريدان شيئًا بعد أن نالا سخطً واحتقارا من الناس الذين أرادوا وكتبوا لهم الموت.
توفي غريغور بعد أن أراد ذلك كـ حَلٍّ لمساعدة أسرته في الساعة الثالثة صباحا بعد أن “استمر في حال من السكينة إلى أن أعلنت ساعة البرج الثالثة ثم هوى رأسه رغما عنه ومن منخريه انطلق في وهن آخر أنفاسه”.  أما السيد المسيح فتوفي أثناء الساعة الثالثة* ظهرًا  و“قال: قد أكمل”. كما سكب المسيح لنفسه الموت بإراداته بعد أن “نكس رأسه” و“سلَّم الروح” (12)

مقابل المسيح الكلمة الخالق والناطق العاقل، سنعثر على غريغور الأخرس لكن العاقل على الأقل، فليس لغريغور كلمات كي يفهمه البشر، فحتى كلامه وإشاراته غير مفهومة للحشرات مثله ربما، إنّه يفتقد إلى الكلمات الحكيمة أو حتى السخيفة إلَّا أنَّه على الأقل سيجد المسيح وعيه وصمته كنزًا يسمح له بدخول الملكوت.
سيتذكَّر ربما ما ورد في سفر أيوب بأنّه يا “ليتكم تصمتون صمتا فيكون ذلك لكم حكمة”. (13) فكم من مرَّةٍ صمت المسيح والعذراء لما رأوا في ذلك كل الحكمة “فالقديسون الذين أتقنوا الصمت ومنهم العذراء، صمتوا مع أنّ كلامهم منفعة ونحن كثيرا ما نتكلم ولا منفعة من كلامنا بل قد يعثر وقد يضر”. (14)
ثم ألم يقل الوحي بلسان بولس الناطق به: “لأنّه مكتوب سأبيد حكمة الحكماء وأرفض فهم الفهماء”. (15) أو قوله أيضا: “وأنا لما أتيت لكم أيها الاخوة أتيت ليس بسموِّ الكلام والحكمة، كلامي وكرازتي لم يكونا لكلام الخدمة الإنسانيّة المُقنِع بل ببرهان الروح والقوة”. (16)
أضف إلى ذلك أنّ غريغور يصغي للأسرة دومًا والإصغاء وليس السمع فحسب شيء طلبه المسيح وكان يمتهنه “فمن له أذنان للسمع فليسمع”. (17) فهو نفسه الذي قال: من أجل هذا أكلمهم بأمثال إلا أنّهم مبصرين لا يبصرون وسامعون لا يسمعون. (18)
لم تسمع أسرة غريغور له ولا حتى أبصرته وهي تبصره، وهذا ما حدث مع المسيح “فقلب هذا الشعب قد غلظ وآذانهم قد ثقل سماعها وغمضوا عيونهم لئلا يبصروا بعيونهم ويسمعوا بآذانهم ويفهموا بقلوبهم ويرجعوا فأشفيهم”. (19)

هل أحبَّ غريغور المال؟ لم يحب غريغور المال إلَّا في كونه وسيلة تساعد أسرته، أما المسيح فلربما سنراه يلوم نمط حياة هذه العائلة البرجوازيّة ويعيب عليها حب المادة، فهو الإله الإنسان الذي عاش متواضعًا مكتفيًا بما لديه وهو نفسه القائل “لا يقدر أيّ أحد أن يخدم سيديّن لأنّه إما أن يبغض الواحد ويبغض الآخر، أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر، لا تقدرون أن تخدموا الله والمال”. (20)
وهو القنوع الذي سيقول: “لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وتشربون ولا لأجسادكم بما تلبسون أليست الحياة أفضل من الطعام والجسد أفضل من اللباس… لا تهتموا قائلين: ماذا نأكل، ماذا نشرب أو ماذا نلبس. فهذه كلها تطلبها الأمم …” (21)
وعلى كل حال ثمة مسيح آخر في النهاية سيبدو غنيًا ويتجسَّد بهيئة امرأة، وهي العزيزة غريتا، البطل القادم للعائلة الذي سيجلب لها الثروة عن طريق عقد زواج، ولا نظن أنّ المسيح سيقبل بهذه النهاية فغريتا هي يهوذا مثلما أدرك، كما لا يجب على المسيح أن يكون امرأة حسبه حتى لو رأى في الحشرة مسيحًا غيره لكن امرأة مسيح!
من دون شكٍّ كان على المسيح بسبب ما سبق، القيام بمهمة نسخ إنجيل جديد من وحي كافكا، ووضع عنوان يدعى “انجيل التحوُّل” مع بعض التعديلات التي تختص بالنهاية. ورغم النهايات التي دائما تأتي عكس آمالنا فإنَّ الرواية كانت ستعجبه وكان سينصح بها ربما. أو ليس غريغور هو مسيح آخر؟. بطل ومخلِّص العائلة الذي قدم كل شيء بما فيه قبول مصيره البشع لأجل عائلته، أما كان هذا شيء سيعجب المسيح ويقرأ قصته على جبل الزيتون كما فعل مع عظته؟.

فليقرأ كل واحد منكم هذا الرعب العبثي لتعرفوا فمن له عينان للقراءة فليقرأ، قالها المسيح يومًا لكن لغير المتعلِّمين الذين يسمعون فقط وفيهم القليل من يقرأ أما أنتم فتعرفون ومن لا يعرف، ومن لا يرى فلا بأس أن يسمع.

تقزُّزنا من هذا الشيء أو ذاك، ليس سوى تحويلٍ لوجهة تقززنا من أنفسنا.
-ايميل سيوران (22)

التحوُّلات

التحوُّل الجسديّ:

ما من شيء في غريغور تحوَّل إلَّا شكله الجديد، وليس هذا فقط فللأمر تبعات أخرى تتعلَّق بهذا الشكل وكنتيجة أيضا لمعاملة الأسرة له كمجرَّد حشرة، لقد بقي إدراك ووعي غريغور ذاته، لكنه صار يحب الطعام الفاسد، ووجد متعة في تسلُّق الجدران والقفز على الأثاث، أما نومه ووضعيته فقد اختلفا، كما تعوَّد على أن يصدر فحيحًا على العدو أو الشخص مثل أفعى عندما ينزعج ويشعر بالتهديد بسبب دخول شخص ما غرفته وعبثه فيها، تلك الغرفة التي كانت مملكته وكل ما يملك. فهل يمكن أن الادعَّاء بأنَّ غريغور تحوَّل بالفعل إلى حشرة فهو لا يزال ذو فكر وإدراك بشري لا يتغيّر، ولا يزال يحب عائلته ويحاول نيل رضاها كما أنّه يحب الموسيقى فهل للحشرات ذوق موسيقي؟

التحوّل العائليّ:

يؤكِّد المترجم والشاعر مبارك وساط بتحوُّل العائلة. (23) ويمكن أن يقول أيّ قارئ ذلك قبل قراءة التعقيب بتحوّلها. فنحن نضع أيدينا على هذا الشأن من بداية فقرات كافكا بعد ما حصل لشخصيته، فغريغور لم يتغيَّر باستثناء شكله أو ذوقه وطرق استمتاعه بيومه، ما تغيَّر على وجه الحقيقة هو عائلته التي لم تستطع تقبُّله، لم يعد غريغور في نظرها انسانًا بل حشرة، إنّه ليس غريغور الإبن الذي عرفوه بتاتا وبذلك فمن البديهي أن تتحوَّل العائلة نفسيًا وعاطفيًا نحوه، وأوَّل تحوُّل للعائلة هو تحوُّل الأب الذي عامله بقسوة منذ اليوم الأوّل الذي رآه فيه، ثم تحوَّل حياتهم.
ناهيك عن أنَّنا نرى أمومة متغيَّرة وناقصة حتى لو اتصَّفت بالحزن بسبب ما آل عليها الإبن. والأبوة التي يراها العديد أنّها أضعف من الأمومة تصبح أضعف وأضعف وكذلك أكثر قسوة.

التحوُّل العمليّ:

تدور الكثير من أفكار الرواية حول العمل منذ الصفحات الأولى فلا شيء يهم غريغور غير عمله وعائلته، لقد كان هو البطل الذي يُؤَمِّن لعائلته العيش الكريم لكنّه الآن قد صار عكس ذلك، أما العائلة فأمرها لا يختلف عنه لأنَّ شؤون العمل والمال تنال حصةً كبيرةً من اهتمامها أكثر منه ربما، فالأبناء مرتبطين بالعمل بطريقة مغالية. وهذا ما يجعله تحوُّل عمليّ أي إجتماعي واقتصادي، بدءًا من غريغور الذي فقد منصبه في التجارة ثم العائلة التي سلك كل فرد فيها طريقًا عمليًا جديدًا.

إنَّ الجميع هنا آلات تشتغل في هذه المجتمعات الحداثية لتستهلك وتعيش كما يجب. إلى جانب ذلك فيمكننا أن نلمس أنانيّة العائلة عند نهاية الرواية حين تُترجم شخصية الأخت إلى بطلة جديدة تمارس إحدى المهن أو تجلب زوجًا يشاركها البطولة ويحل محل غريغور، إنَّها  عائلة رأسماليّة وبرجوازيّة، ولما لا تكون بروليتارتيّة بعد تحوُّلها الاجتماعي وكدح أفرادها المضني؟.

تحوُّل القارئ:

إلى جانب ما ذكرنا من التحوُّلات فكافكا أيضا يمنحك تجربة من التحوُّل وهو تحوُّل القارئ حسب رؤيتنا، فهذا الأخير يلبس عدة أمزجة بدءًا من حالة غريغور الجسديّة المستجدة في ثوب حشرة إلى وعيه وذاته الإنسانيّة، مع سلوكاته الجديدة عليه، فهل سيعامل القارئ غريغور الآن كحشرة أم كإنسان أو كمخلوقٍ هجين؟ إنَّ هناك قلْبا يحدث في ذهن القارئ، ومن بقائه مع العائلة التي لم تستطع التخلِّي عنه وفي الوقت نفسه لا تريده. إنَّ تحوّل مشاعرهم اتجاهه من قرفٍ وسخطٍ يجبر القارئ على التحوُّل القارئ في محاولةٍ منه للبحث عن أعماق غريغور وما طرأ عليه أكثر منه هو يهتم بعمله فقط، وربما سيتقمَّص القارئ شخصية غريغور أو يشعر بما يشعره، وعلى سبيل المثال فأثناء شتم الخادمة لغريغور بخنفس الروث هل يمكن للقارئ وقتها الشعور بالإهانة بدل غريغور وهو يقرأ كلماتها، بل ربما سيكون حنقه عليها أكثر من غريغور نفسه الذي لا يعبأ بها غير انزعاجه من تعكيرها لصفو يومه.

والسؤال الأهم هل سيفكِّر القارئ أن غريغور يمثلِّه؟ تلك التبعية للأسرة والانشغال بالعمل حد نسيان جسده، أو سيجد في هموم ومصائب غريغور من دون وجود أي شخص يفهمه تشابهًا معه؟ هل أنت أيّها القارئ مجرَّد غريغور آخر؟.

خاتمة

نود أن نختتم المقال بالإشارة إلى ما قدمه بعض النقاد أو الباحثين حول التفسيرات النفسيّة لهذه الرواية المذكورة في هذه النسخة من الترجمة، وكذلك ترجمة إبراهيم وطفي، بعنوان الانمساخ، ومنها اعتقاد البعض تزامن فترة كتابة كافكا لروايته وعلاقاته المتوتِّرة مع والده الذي اعتاد على معاملته بقسوة، ما حرّضه في أحد الأيام على دعوته بالطفيليّ، والطفيليّ هي حشرة تتغذَّى على الدم، ولربما من هذه الكلمة ومعاملة الأب استلهم الابن روايته.
ونذكر أيضا لمزيد من التفسيرات ما قيل عنه وهو يقرأ روايته هاته لأصدقائه ضاحكًا! الشيء الذي جعل البعض يشرح الأمر بأنّ أسلوبه الساخر مجرَّد محاولة تغطية وفصل بينه وبين غريغور الذي يجسِّده بالفعل.

ولذا نحن نتساءل مجددًا، هل غريغور هو مجرَّد كافكا داخل كتاب؟ وهل شخصية الأب هي شخصية روائيّة تضاهي شخصية والده الواقعيّة؟ وهل كان غريغور مثل الطفيليّ الذي يمتص طاقة عائلته بسبب تحوُّله؟ أم أنَّ أنَّها مجرَّد أسئلة مثقلة بتكهنَّات خيالية ليس لها أيّ دليل؟.
أسئلة لن نجد لها أجوبة ما لم نسافر عبر الزمن ونجالس كافكا وهو على منضدته يؤلِّف عمله السوداوي، ونحدِّق إليه نراقب كلَّ حركة يفعلها وكل صوت يُصدر منه ونفس يلفظه من صدره… كما كانت حشرته تفعل في التحوُّل.

 

المصادر:
1 - فريدريك نيتشه، هكذا تحدث زرادشت، ترجمة: علي مصباح، منشورات الجمل، ص:143.
2 - فريدريك نيتشه، هذا هو الانسان، ترجمة:علي مصباح، منشورات الجمل، ص:18.
3 - فريدريك نيتشه، العلم المرح، ترجمة:علي مصباح، منشورات الجمل، ص:21.
4 - فريدريك نيتشه، هذا هو الانسان، مصدر سابق، ص:58.
5 - دانيال بلو، تشكّل فريدريك نيتشه، ترجمة:محمد الفشتكي، دار الرافدين، ص:61 ،62، 75.
6 - انجيل متى [7 :13]
7 - سفر المزامير [14 :3]
8 - انجيل متى [5 :22]
9 - المصدر السابق [ 15 :11-17-18-19]
10 - يظهر المسيح و هو يسير طويلا مع تلامذته حتى يحتلهم الجوع (التلاميذ)، كما تكون الجموع ورائهم لأيام تلتمس الشفاء منه و حتى الطعام، كما أنّه يدعو الى حياة الروح و القلب و ليس الطعام في عدة متواضع ، كما ترد آيات في الانجيل تعاتب الاغنياء و المترفين. 
انظر: 
   - انجيل متى: الاصحاح 4-6-12-15-19. 
   - انجيل يوحنا الاصحاح 14
11 - سفر المزامير [ 22 :6]
12 - فينا يخص وفاة المسيح فـ انظر:  
   - انجيل متى [27 :46 - 50 ]
   - انجيل مرقس [15 :34 - 37]
   - انجيل لوقا [23 :44-46]
   يذكر فيها (و على الساعة التاسعة...) 
    وهي الساعة الثالثة حتى السادسة.
     حسب التوقيت الذي كان سائدا.
 - وفيما يخص آخر كلمات المسيح فـ انظر:
    - انجيل يوحنا [19: 30]
13 - سفر أيوب [13 :5].
14 - تأملات في الميلاد، مطبعة الأنبا رويس، البابا شنودة الثالث، ص:94.
15 - كورثنوس، الرسالة الأولى [1 :19]
16 - نفس المصدر السابق [1:2-4]
17 - انجيل متى [11 :15]
18 - نفس المصدر السابق [13: 13]
19 - نفس المصدر السابق [ 13 :15]
20 - نفس المصادر السابق [6 :24]
21 - نفس المصدر السابق [6 :25 - 31]
22 - المياه كلها بلون الغرق، منشورات الجمل، ايميل سيوران، ص:74.
23 - التحوّل، منشورات الجمل، فرانز كافكا، ص:96، 97.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: سارة عمري

تدقيق لغوي: رنا داود

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا