كافكا…الذي لا نعرفه

يتبادر إلى الأذهان عند سماع أو قراءة اسم الأديب الألماني فرانز كافكا الأفكار السوداوية والواقع الكابوسي الذي يمحي أي شعور بالأمل أو السعادة، تاركًا القارئ والمستمع في بحر مظلم من الكتابات المأساوية التي خلفها فرانز، حتى أن الأمر قد وصل إلى استحداث كلمة انجليزية جديدة kafkaesque لتعبر عن حدث مُربك مخيف ومعقد في الوقت ذاته.

اليوم نتعرف إلى جانبٍ أهمله الكثيرون من قرّاء فرانز – الجانب الذي لعب الدور الأساسي في تشكيل وعيه واتجاهات – الجانب الأسري والإجتماعي.

المنشأ والتعليم

ولد فرانز لأسرة غير متكافئة الأطراف حيث كانت أمه “يولي” تنحدر من أسرة عريقة ذات مستوى ثقافي رفيع وقد تلّقت تعليم أفضل بكثير من ذلك الذي تلقاه زوجها “هيرمان” الذي تربى في الريف في فقر مدقع. كان لهيرمان شخصية منفرة ولكنه استطاع بالعمل الشاق الوصول إلى الثراء. كان التناقض بين والدي فرانز جليًا وواضحًا للجميع وأشد ما تأثر به هو الولد البكر فرانز.

ولد فرانز في مدينة “براج” وقضى طفولته بها، كما حصل على تعليمه حتى المرحلة الأساسية فيها، كانت الأغلبية من أهل براج يتحدثون اللغة التشيكية، وعلى الرغم من أن هيرمان – والد كافكا- كان يجيد العديد من اللغات إلا أنه أراد لابنه تعلم الألمانية والتحدث بها. التحق فرانز بمدرسة ثانوية في ساحة قصر كينسكي حيث كانت الألمانية هي لغة التدريس بها. يقول المقربون من فرانز أنه كان يجيد التشيكية أيضا لكنه لم يتحدث أو يكتب بها، بل إن كافكا كان يتحدث الألمانية بلهجة تشيكية.

يذكر فرانز في مذكراته اليومية التي أمر صديقه “ماكس برود” بتدميرها مع بقية أعماله عندما كان في سرير المرض، أن التعليم الذي حصل عليه قد أضر به أكثر ما يمكن له أن يصف ذلك. لا عجب وأن تعليمه قد فرض عليه عزلة التحدث بلغة لايتحدثها أغلب السكان المحليين، حتى أن لهجته الألمانية التي فرضت عليه في التعليم لم يكن يتحدثها بلكنة الألمان الأصليين. لقد تم سلبه أحد أهم العناصر التي تحدد هوية الإنسان وهي انتمائه اللغوي، أن يصبح قادرًا على التحدث بلهجة مجتمع ما أو قبيلة ما كما لو كان أحد ابنائها.

إعلان

ينحدر كافكا من عائلة يهودية لكنه لم يشعر أبداً بانتمائه إلى المجتمع اليهودي حتى أنه صرح بذلك قائلاً:

ماهو المشترك بيني وبين اليهود، لدي بالكاد شيء مشترك مع نفسي أنا، يجب عليً أن أظل في الركن أصارع حتى أستطيع أن أتنفس.

عاش كافكا وحيدًا للغاية أو على الأقل هذا ما كان يشعر به، فقد أشقاءه الاثنين قبل أن يتم السابعة من عمره ولم يكن يتبقى له سوى شقيقاته الثلاث التي كانت “أوتلا” هي شقيقته المفضلة، من حسن حظه – على غير العادة – أنه لم يعش طويلاً ليشهد مصرعهن في الهلوكوست في خضم الحرب العالمية الثانية ليموتوا في أحد أبشع الأحداث في تاريخ الإنسانية، إلا أخته فاليري التي نُفيت إلى بولندا ولم يُعرف لها مصير.

نرشح لك: انمساخ الذات: قراءة تحليلية في رواية فرانز كافـكا

الصداقة

لم يكن حظ كافكا من الأصدقاء بأوفر منه في حياته الشخصية. لم يُعرف عن كافكا وجود أصدقاء مقربين سوي “ماكس برود” الذي يرجع إليه الفضل كله فيما وصل إلينا من أعمال كافكا الأدبية حيث عهد إليه فرانز وهو في سرير المرض أن يقوم بحرق أعماله الأدبية كلها، إلا أن “ماكس” لم يقم بذلك و قام بنشرها ليصل إلينا اليوم ما وصل من مؤلفات و رسائل. يرجع الفضل أيضًا إلى”فيليس باور” إحدى أقرباء “ماكس برود” و خطيبة فرانز السابقة – مرتين – في نشر عمل أدبي اخر لكافكا “رسائل إلي فيليس” وهي الرسائل التي كان يعبر كافكا فيها عن مكنونات مشاعره تجاهها كما كان يشركها في تفاصيليه اليومية وأفكاره.

لم يتزوج كافكا طيلة حياته على الرغم من أنه قد قام بخطبة العديد من الفتيات في مراحل مختلفة من حياته.

كافكا وميلينا

لا نعلم يقينًا هل كانت حياته التراجيدية و عزلته والماّسي التي شهدها وحيدًا دون أن تتاح له الفرصة في مشاركتها قد شكلت حاجزًا نفسيًا منعه من المضي قدمًا في مسألة الزواج، خاصةً أننا لا نستطيع أن نتخيل ما الواقعة التي أحلت به إبان مشاركته في الحرب العالمية الأولي 1914. قد ذكرت كلاً من “ميلينا” مترجمة باكورة أعمال كافكا من الألمانية إلى التشيكية و حبيبته أيضاً على مدار عام كامل والذي نُشر له عمل أدبي خصيصًا لها “رسائل إلى ميلينا” ،و”فيليس باور” في مناسبات متفرقة أن فرانز لم يكن يرغب في الحياة و قد أخذ عنه مقولة:

لقد عشت عمري كله أقاوم رغبتي المُلحِّة في إنهائها.

يحكي كافكا في مذكراته 1923 – 1910 عن راقصة تدعي “إدواردوفا” و كيف أن لطلّتها جاذبية خاصة و سحر أخّاذ على المسرح، و لم يمضِ على ذلك بضعة أسطر و تحدث كافكا عن رؤيتها خارج المسرح وبدأ يعدد لنا مواطن قبحها و كيف أن كل تفاصيل وجهها قبيحة. من الجليّ أن كافكا كره عن قُرب كل ما احب عن بُعد. ليس من الصعب تخمين ذلك عى الإطلاق إذا ما تتبعنا عدد المرات التي كان يعد نفسه فيها بصُحبة تؤنسه ثم ينقض تلك الوعود مرة تلو الأخرى. كان ذلك نابعاً من ميل كافكا إلي جلد الذات و معاقبة نفسه بالبُعد عمّا قد يوفر لها الراحة و الأمان بوصفها لا تستحق الراحة.

أصيب كافكا بداء السُل وانتقل إلى “براج” لتقوم “أوتلا” برعايته في أيامه الأخيرة ثم انتقل إلى “فيينا” لتلقي العلاج فكانت محطته الأخيرة. أصبح من المؤلم أن يقوم فرانز بابتلاع الطعام بعدما تضرر حلقه كثيراً من المرض فمات بسبب الجوع لا السُل بعد أن أمتنع عن تناول الطعام.

إن الحاجز الذي يفصل بين الكتابة السوداوية والكتابة الواقعية لهو حاجز هلامي، فهل استحق كافكا قولبته في إطار الكتابة السوداوية أم أنه كان كاتبًا واقعيًا قد فاق واقعه كل سواد؟!

اقرأ أيضًا: من له الحق في امتلاك فرانز كافكا

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: أحمد عطية

تدقيق علمي: دينا سعد

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا