(الله والعشوائية في الطبيعة) مشكلتي مع أصحاب فكرة التطور الموجه

رغم أنَّنا لا نجد أنّ الصراع حول إثبات وجود إله من عدمه صراعًا ضروريًّا؛ فالمعتقدات، إلحادية كانت أم إيمانية، هي بالنهاية معتقدات شخصية يحق لأي أحد تبني ما يشاء منها والاعتقاد بما يشاء، لهذا نحن نفضِّل الابتعاد بعيد كليًا عن هذا الصراع، ولكن بنفس الوقت هذا الصراع يقود لمغالطات علمية كثيرة أحيانًا.

بلا شك، لا يمكن التقليل من شأن ما يحاول أصحاب فكرة التطور الموجه إثباتَه، ولكن -للأسف- فإنَّ هؤلاء لديهم تصوّر بعيد عن الفكرة العلمية للعشوائية. فهم يقولون أنّهم مع التطور البايولوجي كحقيقة علميّة ولكنهم يرفضون كونه عشوائيًّا، بل يعتقدون بأنه موجه من خالق قدير وعليم، وسؤالي هنا: هل يستطيع أحد إثبات ذلك أصلًا؟

ولا يجب أن يتسرع أحد بالحكم على معتقدنا الميتافيزيقي، لكن لا يستطيع أكبر عالم بايولوجي إثبات هذا لسبب بسيط هو أن العشوائية جزء أساسي في التطور، وليس فقط في التطور بل في الطبيعة.

ماهي العشوائية؟

العشوائية هي حدوث شيء لا يمكن لنا -ولا بأي شكل- التنبؤ بمكان وزمان واتجاه حدوثه. وهذا جزء أساسيّ من عملية التطور البايولوجي الذي هو عشوائيّ مثل الطفرات الجينية ومعدّل حدوثها والانحراف الجيني العشوائي، حيث لايمكن لأحد التنبؤ بزمان وكيفيّة واتجاه حدوثه، فلا ينبغي القول بأنها ليست عشوائية بل أنّ الله يعلم، حتى أنّك إذا وصلت لإيمان بوجود إله سيعلم وسيستطيع التنبؤ بزمان ومكان واتجاه حدوث كلّ هذا، دعني أسألك: هل أنت إله؟ أكيد لا، وبالتالي هذه الأحداث عشوائية بالنسبة لك مهما حاول اليعض ومهما كانت قوة حجتهم بأن هناك إله.

سنقدِّم أمثلة بسيطة عن العشوائية بتعريفنا لها حتى يسهل تصورها، فربّما تكون الطفرات الجينية صعبة التخيل:

إعلان

مثلًا شكل الغيوم عشوائي وشكل وحركة الدخان المتصاعد عشوائي، وهاك فيديو للحركة العشوائـية في الفيزياء:

هل نستطيع إثبات أنّ الحقل الكمومي (أكثر الظواهر عشوائية بالطبيعة) ليس عشوائيًا؟ لا شكّ في أنَّنا لن نستطيع. فهذه الأمور العشوائية بالنسبة لنا وبالتالي للعلم، كما لا نستطيع ولا بأي شكل التنبؤ بمكان وزمان واتجاه حدوثها.

لهذا، فإنّ محاولة إثبات أن التطور موجّه أو رفض العشوائية هو رهان خاسر، لأنك بهذا الافتراض لم تحل أي شيء ولم تستطع التنبؤ وإثبات عدم عشوائية الظاهرة بل بقيت عشوائية.

فقد قال آينشتاين مرة “إنّ الله لايلعب بالنرد”، رافضاً نتائج ميكانيكا الكم وتبيّن أنه مخطئ.

ويمكن حدوث ذلك فقط عن طريق معادلة حقيقية نستطيع من خلالها التنبؤ بالانحراف الجينيّ أو بالطفرات، ولكننا بعيدون جدًّا عن ذلك، وفكرة أن هناك إله موجِّه لن تثبت لنا أيّ شيء إطلاقًا، فالبعض لن يغير بافتراضه هذا (غير القابل للاختبار) أي شيء من طبيعة الحادثة التي بقيت عشوائية وبقينا عاجزين عن التنبؤ بها.

وحتى لو قمنا بالتصديق بأنها عملية موجهة إلهيًا فنحن ما زلنا غير قادرين على التنبؤ بها… ما زالت عشوائية.

الرهان هنا خاسر، وكان من الواجب لو أنّ أصحاب هذا الفكر يتعاملون مع العشوائية بعلمية أكثر ويضعون إثبات المعتقد الديني جانبًا، فالتعامل مع هذه المسائل ليس من شأن الدّين. يكفي الاقتناع بوجود إله ليكون بديهيًا أن العملية العشوائية طبيعيًا ليست عشوائية إلهياً، ولكن الادعاء بأنها ليست عشوائية طبيعياً مغالطة كبيرة… وأنت لم تحلّ شيئًا.

سيقول الكثير بأنّ هناك دليل ماديّ: لماذا نجد اتجاهًا تطوريًّا واحدًا مثلًا لشكل العين في غالبية الكائنات؟ واضح أن هناك توجيه…

هذه مغالطة تثير الحيرة والتعجب إذ كيف لأسماء جليلة في العلم أن تقع بها (غربيين أو شرقيين)، لأّن:

    • أولًا: هذا لا يعني قدرتنا على التنبؤ بالظاهرة العشوائية الجينية.
    • ثانيًا: نعرف تمامًا كيف يعمل الانتخاب الطبيعي وأنه ليس عملية عشوائية إطلاقًا.

لذلك، أجد هذا الطرح ضعيفًا جدًّا، والحلّ بافتراض إله موجّه أبعد ما يكون عن العلم، فهو لم يحل أيّ شيء لنا علميًّا.
يعني، إن قلنا أن هناك إلهًأ موجّهًا فهل بتنا تستطيع التنبؤ بمعدل الطفرات والانحراف الجيني؟
إطلاقًا، بل غالبًا قد يجعلنا نغلق باب البحث الآن، والاكتفاء بإجابة شاملة لاتجيبنا عن شيء، كان يكفي التأكيد بأنّ الله خلق البشرية ويتم التوقف عند هذا الحد.

السؤال العلميّ الحقيقيّ هو -مثلًا-: لماذا لدينا حلول تطوريّة متشابهة؟ لماذا تخرج لنا حلول جينية ومورفولوجية موحدة لدى كائنات لا تمتّ لبعضها بصلة تطورية قريبة؟

هذا السؤال القويّ الذي يستحق البحث فيه وعن أسبابه والتعب من أجل حلّه، وليس الاكتفاء بافتراضات ميتافيزيقية، أو محاولة إخفاء العشوائية الموجودة في الكون.

إن كان هناك إله أم لا فهذه الظواهر لا تزال عشوائية بالنسبة للطبيعة لنا، وكون الله يعرف ويستطيع التنبؤ فهذا شأن يختصّ به هو وليس نحن، لأنه على المختصين التعامل مع الظاهرة كما هي بعشوائيتها.

إعلان

اترك تعليقا