الفلسفة والحقيقة

بادئ ذي بدءٍ، أستَهِلّ: إن هذهِ الترجمة ليسَت الأولى ل (الفلسفة والحقيقة)، بل هناكَ قبلها، لكنني في هذهِ الترجمة باعتباري قارئًا لـ ريكور، وفوكو، وآلان باديو، وهيبوليت، وضعتُ نفسي مكانهم قبل أن آخذَ النصَ الإنجليزي – الفرنسي. لم تقَع الترجمة على المصطلحات فقط كحديثٍ يتخاطب بهِ هؤلاء الفلاسفة، بَل ارتهن بالمقاصد الفَلْسَفيَّة و فصلها ما بينَ “الخِطاب وما بين الإيضاح”. إنَ المُترجِم يقع بينَ نارين، نار شَكّهِ ونار الأمانة، هكذا كتب ريكور واصفًا حالة المُترجِم في كتابه “عن الترجمة”، لأنكَ عندما تُريد ربطَ المؤلِّف بنصٍ مُترجَم تقدمهُ للقارئ عليكَ أولًا أن تَحِس بالمحنة الحوارية. إن رولان بارت عندما كتبَ: إن لكُل لسانٍ شَّفْرَة، يقدِّم هنا بارت لُغَة اللسان بوصفها “عملية مقاومة فهمية للمُتلقي”.

الفيلسوف الفرنسي بول ريكور

في نص “ريكور” نجد أن الترجمة عملية ربط ذكية، إذ يكتب: لكي نتكلَّم بطريقةٍ جيدة عن وظيفة الترجمة أودُ أن أُثير مع أنطوان بيرمان، من خلال كتابه “محنة الأجنبي”، الحديث عن رغبة Désir الترجمة، هذهِ الرغبة تصبو إلى أبعَد من الواجب أو المنفعة، هناك طبعًا إحراج، إذا ما أردنا أن نبدأ، أو نُسافر، أو نفاوض، أو حتى نتجسسُ، فإننا يجب أن نتوفَّر على رُسل من يتكلمون لغة الآخرين، أما عن المنفعة فهي بديهية، إذا أردنا أن نقتصد في تعلُّم اللُغات الأجنبية فإننا سنكون سعداء بوجود ترجمات، بهذه الطريقة تعرفنا على التراجيديات، وعلى أفلاطون، وشكسبير، وسرفانتش، وبترارك، ودانيته، غوته، وشيلر، وتولستوي، ودوستويوفکسي، فإحراجٌ من جانب ومنفعة من جانبٍ آخر، فليكن، ولكن هناك ما هو أكثر التصاقًا وأكثر عمقًا وأكثر خفاءً، إنه رغبة الترجمة.

يكونُ استِساغ الفلسفة، وسؤال “ما هي الفلسفة؟” “ولماذا نتفلْسَف؟”. إنَ هذهِ الأسئلة لا تُصبِح واضحة إلا عندما ندخُل في عالَم الفلسفة، أن نتحاور مع الفلاسفة ونُناقش مواضيعهم، نتناظرُ مع تفلسُفهم، لأنَ النِقاش كما يُعبِّر عنه شوبنهور: “تخاطُب الوَجه للوجَه”، فليسَ كُل حوارٍ أو تخاطُب هو جدل أو مُماحكة مُضرة، فعندما يصفُ أحدهم “لم يقرأ شيئًا كاملًا عن الفلسفة”، أنَ ذاكَ فيلسوف عظيم، و هذا فيلسوفٌ غبي، فَقد امتنَع عن فهم كينونة الفلسفة لذاتها، و فِكْر الفيلسوف لذاته. هذهِ الملاحظات تُخبِرنا أن نكونَ على دقة، فلا يستطيع المُتَفلسِف المُتسَرع التأثُر أن يُصبح فيلسوفًا إلا إذا بدأ بفهم قُدرته التي لا يستطيع بها تجاوز تلكَ الفلسفات المُعَقدة، عُمقَها ليسَ بالضرورة مُمرِضًا أو حتى مُرضيًا، لأنَ الفلسفة ليست وجهات نظرٍ فحسب، بل تراكيب موجَهة إلى كينونة الموجود، بحثًا عن أجوبةٍ لعالَم الأسئلة المفتوح، هناكَ إجابة شاعرية لأندريه جيد، قالها ضمن دخوله في حوار، ينقلها مارتن هايدجر، “ما الفلسفة”، يُجيب أندريه: إنها “الأحاسيس الجميلة”. تتحَققُ الـ Philosophy، إغريقيًّا “فيلوسيفيا“، في بحثها عما هو نداءٌ تجاهَ الكينونة، إنها لُعبة كشفٍ وإيضاح، استجابة و تراكُب، إنها الأرجُل الناعمة التي تَتوجهُ نحو الطبل بحثًا عن مَصدر الصوت.

أُسيءَ فهم “الدهشة الفلسفية” عندَ أفلاطون، أُختصرت في منحى آخر، الدهشة هي الانفعال، فليسَ الفلاسفة وحدهم يندهشون، بل كِبار السن الذينَ هُم على مشارف ترك الحياة، العجائزَ التي تورَمت أياديهنَ من الزَرع و البَتر، الذي يموتُ من الأسى لكنهُ يُراوغ الحياة بالدفاع والنَقد و الاعتقاد، لأنَ الدهشة الفلسفية ليسَت هي الانبهار الشعوري لوحدهُ، بل تعليل مبدأ الدهشة يُعطينا فهمَ هذا الإرث الأفلاطوني، لأنَ الدهشة عندَ نيتشه هي الأمانة البشرية التي أنكرَتها “الأديان”، فباتَت يابسةً، واقفة في ظِلال تكليفها.

عندما نقول على المَرء أن يهتمَ بنفسه، علينا أن نُحدد شكليِّ الإهتمام الأكثَر بروزاً، الشَق الأول هو الهوية، والشَق الثاني معنى الإهتمام، أعتَقد إنَ عبارة إعرف نفسك التي نجدها عادةً في الأشعار الرومانسية أو الحديثة و حتى النَثرية، هي كتابات تكونَ مُتَلحِفةً بالإستعارة، وقد تكونُ حَسب مُحِب الشِعر أو النَثر، الذي أسميتهُ القارئ البيسيوي، تمثُلاً مع الرواقيِّ البُرتغالي الشاعر بيسوا، إنهُ يستفهم الجُزء المُبدع عندَ الشاعر، أي ذاتهُ الشِعرية، فليسَ بالضرورة أن يكونَ الشِعر ذا مقاصدَ فهمية أنطلوجية، صراحةً إنَ الألم الذي نُعاني منهُ عادةً، نحنُ وليدي هذا المُجتمع المؤسساتي المُنَظَم عسكرياً، الذي ينتمي لأصعَب حِقَب البوليسيا، هو ألَم ضياع الهوية الأكبَر، الهوية التي نُحاول أن نمنحها لبشريتنا الداخلية، حتى تمنَحنا بدورها إيعازَ العيش، وقيمة الحياة الكُبرى التي إحدى خصالَها “الطُمأنينة”، فنحنُ مهما إكتسبنا الحياة العادِلة، رُغمَ القُصور، سنكونُ أشخاصاً مالكينَ لنُقاط رجوع، مُتعلمينَ من نُقاط إنطلاقٍ نُقيِّمُ من خلالها سلوكنا المِعوَج أو المُعافى، لذلك أرى إنَ المَرء عندما يتقَصى في ذوات الآخرين سيعرف أكثر عَن مظاهرهم السلبية، ودوافعهم لتحسين معيشتهُم داخلَ الوجود، كانَ أفلاطون و سُقراط أول المُتَشددينَ من الفلاسفة، في ضَخ فكرة “معرفة النفس”، لأنَها عندما تتَوحد بالفلسفة، تلكَ المعرفة، ستُشكلهُ من جديد، لأنها تتدخلُ في أبعاده كُلها ككائنٍ يعيشُ مع الموجودات، وككائن يتنامى معَ الأحياء الأُخرى، فهذا التَشُدد ليسَ ضرباً من ضروب التَعصي المدرسية، وليسَ إختباراً معقداً يُقدم على شكل ورقة إمتحانية تُحددها أساليب مدرسية مُمِلة، لأنَ المرء حسَب المدرسة هوَ فرد الطاعة والإلتزام، لأنَ معرفة النفس تأتي أولاً من جمالية تُبثُ في الداخل للمرء، من خلال حُبه لشيءٍ يُعلمه كيفَ يكون، ولماذا سيكون، ومن أجل أيِّ قضيةٍ سيخدُم ذاته، توجيهاً من رؤى العالَم الحية، أنا أرى إنَ الفلسفة تَرِدُ للمرء كرامته، لأنها تنصبُ ركائزها، مثلما ينصبُ طائرَ اللَقلَق ساقيهِ الطويلتان في الطين الدافئ، وتقفُ أمامهُ مفتوحةَ الجناحين، تُطارده في مسائلَ عديدة منها تعلُم الإتقان و التمرُن، كذلكَ تحدده كذات، بذواتهِ، بذوات الكُل، ففي إتعاظةٍ قدمها سُقراط لأليسبياد، الذي كانَ مهووساً بحُب قيادة الآخرين، أسمَعهُ نصيحةً مهمة “إذا عرفتَ ذاتك، ستعرف الآخرين”.

إعلان

أثناء جلوسهما جنبًا إلى جنب في المقعد الخلفي لسيارةٍ تسير وسط شوارع باريس، يتحدَّث الفيلسوف والطَبيب جورج كانجويلهم والفيلسوف الهيجلي جان هيبوليت، عن شكل وماهية الحقيقة الفلسفية، هل هي موجودة؟ وأين توجد؟ ماهية حالة العِلم. عند وصولهما إلى وجهتهما تذهب الكاميرا نحو ريكور وفوكو، يتبادل أحدهُما الآخر الحديث عن الفلسفة بينما يصعدان برفقٍ درج يؤدي إلى بقية المتحاورين، ثُمَ يذهبون إلى مكتبة صغيرة حيث يوجد أشقاؤهم الفلاسفة، بول ريكور وميشيل فوكو معَ البقية، اتكأوا على طاولة شبه مرتفعة، وبدأوا الحِوار دونَ تمهُل.

الفلسفة والحقيقة
الطَبيب جورج كانغويلهم و الفيلسوف الهيجلي جان هيبوليت في شوارع فرنسا

وهكذا بدأت مناقشة علمية فلسفية، فيها الفيض الغزير من الآراء المُتعارضة والمُختلفة. هذه الحلقة تُلفِزَت في مارس 1965، بتسع وأربعين دقيقةً، يدور موضعها القُطبي حول “الفَلْسَفة والحقيقة“، هذه هي السنة الأولى التي يُنتج فيها التلفزيون المدرسي برامج الفَلْسَفة للفصول النهائية لفئات المدارس الثانوية، في ذلك الوقت، كان أكثر من خُمس وقت البث الإذاعي والتلفزيوني الفرنسي مخصصًا للمعهد التربوي الوطني CNDP المستقبلي، في صباح السبت تنطلقُ الحلقة على الشاشة الصغيرة في بثٍ تجريبي، إنهُ مجال مفتوح للتجريب لاختبار أشكال جديدة من التدريس السمعي البصري.

المفتشة العامة للفلسفة والعالمة في علم الأجناس الفرنسية وعلم الأنثروبولوجيا دينا دريفوس، ابتكرت برنامجًا ليس الغرض منه استبدال دورة نقاشية سياسية أو ما شابهَ ذلك أو تقديم مؤتمرات كُبرى، بَل لجعل الطُلاب يشعرون أن الفلاسفة يشكِّلون “مدينة” حية، وأن هذه الفَلْسَفة ، بعيدًا عن كونها مقتصرة على تُراث كبار المفُكرين من الزمن السالف، بَل هي على اتصال مباشر بالحاضر، إذ تقول دينا دريفوس “إذا أردنا ألا تظهرالفَلْسَفة للطلاب كنظامٍ بسيط يقتصر على حدود الفصل الدراسي ومُنفصل عن العالم، فإن إحدى الوسائل هي أن نُظهِر لهم، وفي الفصل نفسه، نُشيد أن الفلسفة موجودة في العالم كمُجتمعٍ بحكم الواقع وكمثل أي مجتمع”.

لم تُعودنا الشاشة الفرنسية على ظهور فلاسفتها بهذهِ التلفزات ولم نتَعرَّف على هذا اللقاء إلا آخر ست سنواتٍ، بسبب منصات التواصل الاجتماعي، فظهورهم من قِبل برنامج تلفزيوني مخصَّص للفلسفة شيءٌ ذا قيمةٍ تأثيريَّة. كتبتُ سابقاً: “يكفي أن نتخيَّل هيجل كيف يتحدَّث عن ماهية الديالكتيك حتى نحس ونسمع خطواته الثقيلة أثناء المشي”، طبعًا باستثناء الفيلسوف الصُوراني الظاهري جاستون باشلار الذي لا يُنسى في حديثهِ “Lectures pour tous” الذي تحدث فيهِ عن العِلية والمكان وحبه للراديو في عام 1957، في هذا الاجتماع كان لا بُد من اختراع طريقة تعبيريةَّ مُستَهِلة كذلكَ دون تمثيل، بل ارتجال واضح بلُغة يفهمها الجميع. إنَ ما يثير الاهتمام في هذه التجربة أن النصوص العديدة التي نشرتها دينا دريفوس ومعاونها بيرنو وآلان باديو، هي تُفكر في قيمة التجربة التي يجرونها، إنهم حريصون بشكلٍ خاص على الدفاع عن اختيار التلفزيون ضد الراديو. لماذا الصور، في الواقع، إذا كانت الفلسفة في فعل الكلام؟ تُلاحظ دينا دريفوس أن الصورة التلفزيونية ليست بديلًا عن الوجود “البشري باللحم والدم”: فعندما يتحدَّث شخصٌ ما أمامهُ، ينتهي بنا الأمر بتجاهل جسده، بينما يتم غزو الصورة على التلفزيون بالكلام، والعكس صحيح. بعد موت صديقها الفيلسوف هيبوليت في عام 1968، سنُلاحظ “بعد قراءة العملية التحويلية الغامضة التي يديرها التلفزيون: في الأرشيف، لم يكُن كما تعرفه على قيد الحياة.

لقطة من ضمن المقابلة

يوضِّح آلان باديو أن الجسد واللُغة يشكلان نظامين من الإشارات يُمكن للاختلافات بينهما أن تدعم ممارسة الحس النقدي لدى المُتفرِّج. يرد عليه كاميل بيرنو بتحليلٍ معاكسٍ تمامًا ذي طبيعة ظاهرية: “في الراديو، لا يتم الالتزام بالتزامن مطلقًا، علينا فقط التعامل مع عملية الاستماع المُتتالي للتدخلات المختلفة، لكن في التلفزيون، بينما يتحدَّث الجميع بدورهم، هناك حضور متآلف للكُل، مساحة محددة، وحتى عندما يكون أحد المحاورين وحيدًا في الصورة، فهناك اتجاه في حديثه: المساحة الفارغة التي يُمكن العثور عليها في الإطار مليئة في الواقع بحضور الآخر ”.

يُمكن القول إنَ عصرنا قد كان في الفلسفة، موسومًا و موقَعًّا بعودة سؤال الكينونة، ولذلك يُهيمن عليه هايدجر، إذ إنهُ قام بالتشخيص، وبعد قرنٍ من النقد ثُمَّ الفاصل الفنومينولوجي، خاضَ بصريح العبارة في ما كان قد أعاد تنظيم التفكير حول تساؤله الأصلي: ماذا عن كينونة الكائنات؟ في نهاية المطاف، قد كانَ القرين أنطولوجيًا، وهذا التعيين المصيري هو أكثر جوهرية من المنقلب اللغوي، الذي يُحمل عليه، ذلك أن هذا المنقلب يعود إلى أن نجعل بناها ومصادرها، ترنسندنتالي كل مبحثٍ في ملكة المعرفة، وإلى إخراج الفَلْسَفة إما بصفتها نحوًا معَممًا أو منطقًا مضيفًا، لكن عند المفكر الكبير الوحيد لذلك المنقلب، الذي هو فتجنشتاين، يفهم المرء أن التوتر المفهومي الأكثر صرامة إنما نبلغهُ في الرسالة (التراكتاتوس)، حين نتأكَّد من القاع الأنطولوجي الفريد نظرية الموضوعات الأبدية، ويفهم أيضًا أن العنصر الفيصل يتعلَّقُ في ما أبعدُ من البُنى المنطقية التي تزج فيها القضايا المعرفيَّة.

يكتب باديو: بحدسٍ صامت يتعدى الصعيد المعرفي، حدسٌ صوفي، هو وحدهُ الذي يفتحني على السؤال الذي يشغلني: ماذا عليّ أن أفعل؟ إذا صدَق أن حدود العالم هي بالتمام حدود اللغة، فإنهُ ينتج عن ذلك أن ما يحسم مصير التفكير إذ يتعدَّى حدود العالم، يتعدَّى أيضًا حدود اللغة، على أنهُ إذا كان يلزم دائمًا عبور تحليلية اللغة للتثبت (وها هنا بقايا نقدية) من صدقية “معنى” القضايا العلمية، القضايا التي تتعلَّق بتَمثُلات هذا الجزء أو ذاك من العالم، فإنهُ في ما يتعدَى هذه التحليلية يتناسبُ التفكير مع قدرتهِ العليا بإطلاق التي هي أن يُسائل قيمة العالم نفسه. إن اللغة عند فتجنشتاين مُفخخة بالتساؤل عن الكينونة، فإن لم يكن من حيث استعمالاتها، فمن حيث تعُيُّنها المصيري.

المُقابلة مع ترجمتها إلى اللُغة العربية، تتضَمن المصادر المُرفقة في الترجمة أيضاً.

راجع

ريكور عن الترجمة

الفلسفة في الحاضر آلان باديو

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: محمد العيساوي

تدقيق لغوي: أمل فاخر

اترك تعليقا