التاريخ ونحن
التاريخ هو الماضي كما هو موصوفٌ في الوثائقِ المكتوبة، وهو مصطلحٌ شاملٌ يتعلّقُ بالأحداث الماضية بالإضافة إلى الذاكرةِ، واكتشافِ، وجمعِ، وتنظيمِ، وعرضِ، وتفسيرِ المعلومات حول هذه الأحداث.
يُطلَقُ على العلماء الذين يكتبون عن التاريخ اسم المؤرخين: أرّخ يؤرّخ تأريخًا؛ أي فصّل تاريخه وحدّد وقته. وأَرَخَ أروخاً؛ أَرَخَ إلى مكانه: حَنّ.
هناك شبه اتفاق أنَّ بداية التأريخ فعليًّا في الفترة الممتدة بين (3300) إلى (3200) قبل الميلاد بظهور الكتابات المسمارية السومرية التي تعتبر بداية كتابة التاريخ المسجل، فالأحداث التي حدثت قبل السجلات المكتوبة تعتبر ما قبل التاريخ.
امتدت فترة التاريخ القديم حتى عام 476 للميلاد حيث كان انهيار الإمبراطورية الرومانية الغربية على يد القبائل الجرمانية هو التاريخ الفاصل الذي أعلن نهاية العصور القديمة وبداية العصور الوسطى التي امتدت حتى القرن الخامس عشر للميلاد
حيث كان عام تحديِد نهايتها موضع خلاف فبينما اعتبره البعض عام (1453م) حين فتح العثمانيون القسطنطينية، رأى آخرون أن نهايتها تزامنت مع رحلات كريستوفر كولومبوس لاكتشاف العالم الجديد عام (1492م) بينما اعتبرها البعض في عام (1517م) مع ظهور حركة الإصلاح الديني البروتستانتي.
تلاها فترة العصور الحديثة المبكِّرة التي انتهت بالثورة الفرنسية عام (1789م) ثم العصور الحديثة التي كانت نهاية الحرب العالمية الثانية عام (1945م) هي الـتاريخ الفاصل بينها وبين التاريخ المعاصر إلى يومنا هذا.
لكن ومن المفارقات العجيبة أن هذا الزمن الذي يغطّي حوالي خمسة آلاف عام فقط ما هو إلا تأريخٌ بسيطٌ من عمر البشرية الموغل في القدم والذي يقدّره البعض بـسبعين ألف سنة، بينما يرجعه آخرون إلى مئتي ألف حسب بعض النظريات، أي أن هذا التاريخ المكتوب الذي نحتفي به ما هو إلا جزءٌ بسيطٌ جدًّا من عمر البشرية الطويل
التاريخ يكتبه القوي
من بين كل قصص وأحداث التاريخ ودوافعها التي رافقت ظهورها يتحفنا التاريـخ بومضات موجزة ترضي ولاة الأمور والساسة الذين أراد لهم القدر أن يتحكّموا بطريقة أو بأخرى بما يجب أن يكتب عن الحقبة الزمنية التي عاصروها أو عاصرتهم وجنّدوا لها من العلماء والمؤرخين ما يرضي غرورهم
فنجد مثلًا في وصف زمان حكم بعضهم: “حيث تميّزت فترة حكمه بالاستقرار السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ والثقافيّ، فقد بنى الجسور والسدود وأشاد المدن ووطد الأمن والاستقرار في البلاد”.
بهذه العبارة المنمّقة يختصر التاريخ فترة حكم طويلة ربما تصل لعشرات السنين بآلامها ومآسيها وانتكاساتها ويتناسى قصصًا طويلةً وأحداثًا اجتماعيةً وسياسيةً من عاداتٍ وتقاليٍد وأعرافٍ أدّت مجتمعةً دورًا مفصليًّا في توصيف وقائع تلك الفترة التاريخيّة.
فمثلاً ومن بين مئات الآلاف من الجنود والمحاربين الذين قدّموا البطولات والتضحيات في كُبيرات المعارك الفاصلة في التاريخ البشري يختصر لنا التاريـخ معركةً عظيمةً بقائدها أو صلحًا باسم الموقعين عليه أو استسلامًا باسم ذلك الشقي الذي أذعن..!
وكأن لا قيمة فيما جرى إلا للقوي، أما الضعيف فهو أداةٌ تم استخدامها وبليت واندثرت بين ركام التاريخ أو ربما كانوا هم ركام التاريـخ ليس إلا.
كيف لي أن أثق بالتاريخ وأنا أرى الواقع يحرف أمام ناظري!؟
استوقفتني هذه العبارة على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، فبعد التخبّط الذي تعيشه معظم بلادنا العربية وما نشاهده عيانًا من حروبٍ ومآسٍ وآلامٍ وخذلانٍ وويلاتٍ يندى لها الجبين مازلنا نرى من يسوّق لسياسات بعض حكام ومتنفذي تلك الدول محاولاً تلميع صفحتهم فيما سيصبح لاحقًا تاريخًا يدرّس ومجدًا عريضًا يكتب
وهنا نتساءل ما كانت ردّة فعل العامة في عهود التاريخ القديمة حين كان حالهم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي يرثى له بينما كانت أقلام المؤرخين تؤرّخ لفتوحِ السلاطين والأمراء وتمجد فضائلهم؟
بطبيعة الحال وبلا شك كانت أحوال الناس حينها كأحوالنا اليوم؛ نرى ونسمع ولكن لا نستطيع أن نتكلّم فكما قلنا سابقًا: إن التاريخ يكتبه القوي ولا مكانة للضعفاء فيما تخطّه أقلام المؤرخين.
ديالكتيك الـتاريخ
يعرف الديالكتيك أو الجدلية بأنه: الديالكتيك باليونانية هو الجدل أو المحاورة: تبادل الحجج والجدال بين طرفين دفاعًا عن وجهة نظر معينة تحت لواء المنطق.
وقد طوّر الفيلسوف الألماني هيجل (1770 _ 1831م) المنهج الجدليّ وقال إن سير التاريخ البشريّ يتم بوجود الفكرة ونقيضها أو كما عبّر عن ذلك في دراسته للتاريخ بوجود الأطروحة ثم نقيضها ثم التوليف بينهما.
فالتاريخ لا يمكن دراسته بطريقةٍ مثالية كما يتم تدريسه اليوم، فعلى سبيل المثال قتلُ ثلاثةٍ من الخلفاء الراشدين قتلاً، ووصلَ بنو أمية إلى الحكم على عروش من جماجم آلاف الناس، وعندما تولى العباسيون الحكم نسفوا قبور الأمويين وأخرجوا جثثهم ونكّلوا بها هذه الظواهر التي حدثت خلال تاريخنا (المجيد والحافل) لا نأتي على ذكرها أبدًا بل نستبدلها بقصصٍ وحكاياتٍ خرافية عن السلام والأمن الذي كانت تنعم به البلاد!.
من العجيب جدًّا أن التاريخ كان يسير بتلك الرتابة التي يصوِّرها البعض رخاءً وحضارةً وتمدنًّا ورقيًّا؛ فلو أننا لم نجد عزاءنا بتفاهة تلك الصورة المثالية عن التـاريخ حسب جدلية هيجل التي أكّد فيها أن التاريخ يسير بالفكرة ونقيضها جنبًا إلى جنب، فأيام الأمن رافقتها أيام خوف، وأيام الرخاء رافقتها أيام شدة.
لو لم نجد عزاءنا بتلك الفرضية فإننا حتمًا سنجده في قوله تعالى: “ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض” فلا قيامة لتاريخٍ بشريّ دون تناقضٍ يحمله بين جوانبه، ولا حضارة دائمة دون انتكاس وإلا ما كان هناك قيمةً للحياة وكان المصير المحتوم فساد الأرض!
كثيرا ما نختبر ذاكرة الناس من حولنا ومعرفتهم وإلمامهم بالتاريخ..
- من فتح الأندلس؟
- متى كانت معركة حطين؟
- أين وقعت معركة عين جالوت؟
ونطلق حينها أحكامنا عليهم إيجابًا أم سلبًا إن كانوا ملمّين بتاريخهم -الحافل..الساطع والمشرق دومًا- أم لا. وكأنَّ معرفة التاريخ بحيثياته وتفاصيله وجزئياته هو معيارٌ للعلم والمعرفة والتباهي والتفاخر.
لا أعلم بالضبط من وضع ذلك المعيار لكنه معيارٌ مؤسف على أي حال. أليس الأولى والأجدى والأنفع والأنجع أن نجدّد فهمنا لخطابنا التاريخي واستبداله أو محاولة استبداله بخطاب واقعيّ مُعاش ومعاصر يدرس القادة والمفكّرين والأعلام وأصحاب الفضل في المجتمعات ويبرز مآثرهم وهم أحياء بيننا؟
لماذا هذا العجز المخزي عن إبراز فضائلهم وهم أحياء وانتظار موتهم حتى ندوّن سيرهم مع سير الخالدين الغابرين؟!
هل هو عقد ملزم أبديّ لا رجوع ولا نكوص فيه بيننا وبين صفحات التاريخ بأن ننتظر موت عظمائنا حتى نحيلهم إليها أرقامًا؟
غيرةٌ من إنجازاتهم أم حسد من فضائلهم أم سياسة ممنهجة نتبعها للإقصاء وتحطيم الذات؟
هل سنبقى نمجّد الموت والتاريخ والأموات والأبطال الأسطوريين على حساب أبطالٍ نراهم عيانًا وتغار من عظمتهم الثريا؟