لا تَدَع نهوض أوروبا يسرق تاريخ العالم (مترجم)

يُخبرُك كلٌ من مركز الخريطة الجغرافية واختيار نقطة بدءِ سردِ قصة ما أو التاريخ بالكثير. فقد اعتاد الجغرافيون العرب وضعِ بحر قزوين في مركز خرائط العالم، بينما نجد مدينة بلاساغون في قلب العالم على خريطة تركية من العصور الوسطى، والتي أذهلتني عند رؤيتها. إن كيفية تدريس تاريخ العالم اليوم لسؤال مهم، وسيزدادُ أهميةً يومًا بعد يوم.

في الصيف الماضي في الولايات المتحدة، اندلع جِدال حاد عندما أعلنت وكالة الاختبار المؤثرة Advanced Placement (AP) عن تغييرٍ في دوراتها الدراسية؛ وهو تغيير يبدأ فيه «تاريخ العالم» عام 1450م. فعليًا، بِدءِ تاريخ العالم من عام 1450م هو بالأحرى سردٌ لقصة الأوروبيين وكيفية سيطرتهم على جميع قارات العالم مع إغفال أصول نشأة الأبجديات والزراعة والمدن والحضارة. فقبل القرن الرابع عشر الميلادي، كان آخرون هم من قاموا ببناء الإمبراطورية، وقادوا العلوم والطب والفلسفة، وسَعوا للاستفادة من وتوسيع شبكات التجارة التي سَهلت تدفق وتبادل السِلع والأفكار والمعتقدات والأشخاص.

بعد الضغط على مجلس كلية AP، تراجعَ المجلس عن التعديلات وأصدرَ بيانًا مفاداه: «لقد تلقينا مُلاحظات مبدئية ومدروسة من معلمي وطلاب وأعضاء هيئة تدريس الكلية.» ونتيجةً لذلك، تم تعديل تاريخ بِدء المُقرر ليبدأ من عام 1200م بدلًا من 1450م. وبُناءً على ذلك، أضاف المجلس: «يمكن للمعلمين والطلاب بدء الدورة االدراسية بدراسة الحضارات في إفريقيا والأمريكتين وآسيا، والتي تُعتبر أساسية لدراسة العصر الحديث.»

أين يترك هذا أفلاطون وأرسطو، أو اليونان القديمة وروما؟ لا نَعرف، ولكن من المُفترض أن أحدًا منهم ليس “أساسيًا لدراسة وفهم العصر الحديث”. وهذا في حدِ ذاته أمرٌ غريب بالنظرِ إلى أن العديدَ من المباني الأكثر شهرة في العاصمة واشنطن (على سبيل المثال) مُصممة بأسلوبٍ كلاسيكي خصيصًا لاستحضارِ روح العالم من 2000 سنة مضت، أو إلى أن «مارك زوكربيرج»، العلامة التجارية للتقنيات الجديدة والقرن الحادي والعشرين، يُقرُ بأن «الإمبراطور أوغسطس» هو قدوته الشخصية.

لقد أسقطوا فترة حُكم «سُلالة هان – Han dynasty» للصين (206 قبل الميلاد – 220 م) من حسبتهم لتاريخ العالم أيضًا، وبالتبعية الشبكات التي ربطت المحيط الهادئ بالمحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط ​​منذ ألفي عام، والتي تسمح لنا بفهمِ وإدراكِ حقيقة أن آسيا وأفريقيا وأوروبا كانوا متصلين ببعضهم البعض قبل عدة قرون في عالمٍ كانت تَحكُمه «العولمة» بشكلٍ فعال. ولا مكان أيضًا لحضارة وثقافة «المايا – Maya» في أمريكا الوسطى أو لـ «مملكة إيغودوميجودو – kingdom of Igodomigodo» في غرب إفريقيا في روايتهم للتاريخ، والتي تم تجاهل إنجازاتها الاقتصادية والثقافية والعسكرية والسياسية باعتبارها غير ذات صلة بـ «العصر الحديث». من يهتم بالإمبراطور الهندي «أشوكا – Ashoka» أو بـ «سُلالة تشولا الحاكمة – Chola dynasty» في جنوب الهند، والتي توسعت شرقًا في جنوب شرق آسيا في القرنين العاشر والحادي عشر؟ أو بالروابط بين الدول الإسكندنافية وآسيا الوسطى التي ساعدت على إخراج كُلِ شمال أوروبا مما يُطلق عليه الآن «العصور المظلمة»؟ أما بالنسبة لتغيُر المناخ، فمن المؤسف أننا لن نستطيع دراسة تغييرات درجات الحرارة العالمية قبل 1500 عام، ولا كيف أدت هذه التغييرات إلى انهيار المدن وتشتُت السكان وانتشار الأوبئة.

إعلان

تكون دراسة التاريخ أكثر إثارة وتحفيزًا للطلاب والمعلمين على حدٍ سواء عندما يكون هناك مجال لرؤية الأحداث بشكلٍ متصل، وبالتالي تحديد مجريات الأحداث المختلفة وتناغمها مع بعضها البعض، والعمل من خلالها لاستكشاف الماضي وتحدي الافتراضات التي تَدَّعَي إمكانية سردِ قصة العالم بشكلٍ خطي – والتي تبدو جَلية في بيان «AP College Board» الذي يربط العالم ابتدءَا من عام 1200م، متجاهلًا كل ما سبقه،  بـ «العصر الحديث.»

إذا كنت تريد حقًا أن ترى مدى حماقة هذه الرؤية، وكم هو مؤسف أن يتم تضييق نطاق سيرورة تاريخ العالم، فألقي نظرة على الصفحات الأولى لأي بلدٍ في العالم اليوم. ففي الصين مثلًا، لا تنفكُ النشرات الإخبارية عن التحدث عن «مبادرة الحزام والطريق – Belt and Road Initiative»، وهي الخطة التي تقودها الصين لتعزيز شبكات الطرق القديمة، والتي كانت تُستخدم في الماضي، وإعادة استخدامها تحت ما يُسمى اليوم بـ «طرق الحرير – Silk Roads»: هناك العديد من وجهات النظر المتباينة حول أهداف ودوافع والنتائج الُمتوقعة من مبادرة الحزام والطريق. هذا التطور الجيوسياسي هو الأكثر أهمية في العالم الحديث اليوم، وفهم سبب محاولة «بكين – Beijing» العودة إلى سنوات مجد طرق الحرير (التي يعود تاريخها إلى 2000 عام مضت) قد يبدو أمرًا مهمًا ومثيرًا للاهتمام – وغالبًا ما سيتم تجاهله في نطاق رؤية تاريخ العالم الجديد.

يُمكننا النظر إلى الطرف الآخر من آسيا، إلى اسطنبول في تركيا مثلًا، والتي، حتى يومنا هذا، يخرجُ مئات الآلاف من الناس إلى شوارعها كل عام لإحياء ذكرى «معركة ملاذكرد – Battle of Manzikert» التي دارت 1071م، فقد يكون من المُفيد معرفة سبب هذه المعركة. وقد يكون تقييم العلاقة بين روسيا وأوكرانيا في فترة ضمت فيها الأولى جزءًا من أراضي الأخيرة ذا قيمة أيضًا، إذ اندلعت حربٌ بين الأثنتين الصيف الماضي حول ما إذا كانت «آن الكييفية – Anne of Kiev»، والتي توفيت عام 1075م، روسية أم أوكرانية.

لا يتطلبُ الأمر خبيرًا لرؤية صدى القرن السابع الميلادي في جميع أنحاء الشرق الأوسط، إذ حاول الأصوليون بناء «دولة إسلامية» بناءًا على نموذجهم للعالم الإسلامي الأول، والتى في سبيل إنشاءها لم يكتفوا بقتل الأرواح وتدمير الأصقاع فقط، بل وتعمدوا تدمير التاريخ نفسه في أماكن مثل «تدمر – Palmyra». ولكن يتطلبُ الأمر خبيرًا لمعرفةِ سبب محاولتهم إعادة عقارب الساعة 1400 عام إلى الوراء، وكيف يبدو عالمهم الفاضل. وهذ أمرٌ مهم، لأنه حتى يومنا هذا مازال هناك الكثيرون ممن يسعون لفعل الشيء نفسه، على سبيل المثال؛ قال «عمران خان – Imran Khan»، رئيس وزراء باكستان الجديد، إنه يريد تحويل بلاده، والتي يبلغ عدد سكانها ما يقرب من 200 مليون نسمة، إلى «دولة رخاء مثالية» مبنية على أُسس النموذج الذي وضعه النبي محمد في المدينة المنورة في عشرينيات وثلاثينيات القرن السابع الميلادي – وهو النموذج الذي أسس واحدة من «أعظم حضارات العالم.»

لن يتعرف الطلاب الذين يدرسون دورات تاريخ العالم الدراسية التي تبدأ من عام 1200م على أيٍ من هذه الموضوعات، على الرغم من أن أقرانهم في الكليات والمدارس في جميع أنحاء العالم سيدرسونها. من المُفترضِ أن هدف التعليم الأساسي هو توسيع الآفاق وتفتيح العقول، فيا له من عارٍ، إذ ما يفعله التعليم في هذه الحالة هو تضييق الآفاق وإغلاق العقول. ويا له من عارٍ أيضًا أن يحدُثَ هذا في مثل هذا الوقت الذي نشهد فيه تغيرًا عالميًا ملحوظًا؛ ففي مثل هذا الوقت يكون فهم الترابط العميق بين أجزاء عالمنا المختلفة أكثر أهميةً من أي وقتٍ مضى. وهذا، بالنسبة لي على أية حال، هو أكثر الاستنتاجات الـ «أساسية للعصر الحديث» قيمةً.

نرشح لك: حوار مع سلافوي جيجك: المركزية الأوروبية بين مطرقة الرأسمالية وسندان الديمُقراطية

المصدر

إعلان

فريق الإعداد

ترجمة: نهلة أحمد

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا