أشواك الجنة
تتناول رواية (الشنط) للكاتبة (نوال حلاوة) تجربةً إنسانيَّةً، قد يتعرَّض لمآسيها أيُّ إنسان. تجربة ترتكز على عدة أركان: (المرض المزمن – صعوبة التشخيص – الأخطاء الطبية – مضاعفات الجراحات – عدم الاكتراث لكرامة المريض).
تجربةٌ ثريةٌ موجِعةٌ كهذه، قد يُخيَّل لمن يطَّلع على إطارِها الخارجي، أن أحداثها تدور في مصر، ولا سيما أن في الرواية كلماتٍ تختزن دلالاتٍ مفزعةً لدى أغلب المصريين مثل: (التأمين الصحي – المستشفيات العامة – الأخطاء الطبية – ورم في المخ). لكن القارئ سيندهش حين يتبيَّن له أن أحداث الرواية تدور في كندا… حلم كثيرٍ من المصريين الذي لا يُطاولُه شيء!
اليوتوبيا الصادمة!
كم من مصريٍّ وضع نصبَ خياله أن يهاجِرَ إلى هذه الدولة (المتقدِّمة) التي يُوحي حتى اسمُها بالنظافة والرقي. الكاف كوثر (نهر الجنة المعروف)، والنون نظافة، والدال دخل مرتفع، والألف هو رمز التقدُّم، لتقدُّمه على سائر الحروف!
لكن هذه الرواية ستجعل القارئ يراجع أفكاره النمطية المسبقة عن كندا، وعن أحلام (اليوتوبيا) التي تراوده كلما ذُكر اسمها، أو لاحت لعينيه صورة ورقة شجرة القيقب (الميبل) التي تتميَّز بها كندا. فأينما وُجد البشر، وُجدت المعاناة؛ والمدينة الفاضلة لم تزل إلى الآن وهمًا، دون تحقُّقِهِ مئاتٌ من السنين.
كندا مثلها مثل أي دولة، بها مشكلاتٌ عسيرةٌ، ومن ضمنها الرعاية الصحية، وخاصَّةً للمهاجرين العرب، الذين يعيشون حالةً هي مزيجٌ من الاغتراب القاسي، والتأرجُح بين ثقافتهم التي هاجروا عنها، والثقافة الجديدة التي يُحاولون التكيُّف معَها.
حين أتممتُ قراءة الرواية، تردَّدَتْ في ذهني عبارتان قصيرتان، هما: (أشواك الجنة) و(أن تشربَ المُهْلَ في الفردوس)! فالمعاناة التي تعرَّضت لها بطلة الرواية (شمس) – رغم فداحتها – قد تبدو – إذا قورنت بما نعيشه يوميًّا في مستشفياتنا – أمرًا هيِّنًا!
الشنط ومعاناة شمس
الشنط The Shunt وفقًا لما أوردته الكاتبة في صدارة روايتها هو:
“الجهاز الذي يتمُّ زرعُه داخلَ الدِّماغ، وهو يُشبهُ فِي عملِهِ المضخَّةَ الكابسةَ والماصَّةَ. ووظيفتُه هي شفطُ مياهِ الرأسِ المتجمِّعةِ حولَ المخ، ودفعُها إلى الأحشاء بواسطةِ أنبوبٍ رفيعٍ من المطاط. وثمَّةَ نوعان منه: نوع لا يمكن التحكُّم به يُزرع فِي جَوْف المخ، والثاني يمكن التحكُّم به من الخارج، ويُزرع أيضًا فِي جَوْف المخ”.
وتتمحور الرواية حول معاناة الشخصية الرئيسية (شمس) من الأخطاء الطبية التي ابتدأت كالعادة بتشخيص خاطئ، أدخلها في دوامة (الشنط) الذي زاد حالتها تفاقمًا، وكان التخلُّص منه في خاتمة الرواية، والوصول إلى التشخيص السليم لحالتها، ومن ثم معالجتها بناءً على هذا التشخيص، هو لحظة التنوير التي بها انتهى ذلك الصراع المتواصل على مدار ثلاثة عشر مشهدًا. فكان (أبيض) المستشفيات – وفق قول الروائي السوداني أمير تاج السر بشأن الرواية – هو أبيض المغامرة أيضًا، وأضيف إلى ذلك أنه (أبيض) الكفن الذي كان يهدِّد به (الشخصيةَ الرئيسيةَ) كلُّ خطأ طبي فادح، وهو كذلك (أبيض) النور الذي غمر (شمس) في نهاية الرواية، حين اطمأنَّت على حالتها الصحية، واطمأن مَن حولها عليها، وهو (أبيض) الأمل في الشفاء الذي لم يفارق (شمس) لحظةً واحدةً، طوال معاناتها الطويلة.
جحيم كندا وجحيم بلادنا
بالرغم مِمَّا سيصل إليه القارئ في الختام، من أن في كندا أيضًا مشكلاتٍ في منظومة التأمين الصحي، إلا أن المريض الفقير الذي عايش تجربة الرقود على فراش طبي متَّسخ بالدم، يستقبل المرضى مَثنى وثُلاثَ، وعانى من الحياة القذرة، في شقةٍ سيئةِ التهوية لا تصل إليها الشمس، ولا شبكات الموبايل، بين بشرٍ يتظاهرون بالحياة، ولا يستمرُّون على قيدها، إلا لأنهم أجبن من أن ينتحروا… هذا المريض البائس، لو خُيِّر بين الموت المؤكَّد في المستنقع، والموت المؤكَّد تحت شجرة قيقب تجري من تحتها الأنهار، فسوف يختار الميتةَ الآخِرةَ…
سيفضِّل أشواك الجنة على أشواك الزقُّوم قربَ أنفاس الجحيم! سيفضِّل أن يجد فرشةً نظيفةً يموت عليها، أو سطلًا نظيفًا خاليًا من الحشرات ليتقيَّأ فيه، دونَ أن يعامله الأطباء والممرضات بضَيْقٍ وانزعاج. إنه لا يملِك ترفَ أن يتمنَّى الشفاءَ التامَّ على أيدي ملائكةٍ نورانيين، أو أن يحيا بشقةٍ يُسلِّم على نوافذِها الأفقُ كلَّ صباح؛ ولذلك سيرتضي (الميتة الآدمية)، ما دام لم يستطع أن يحصل على (حياة آدمية)!
كم من طبيبٍ في بلادنا، تصدُقُ فيه هذه العبارةُ المتهكِّمة:
“الطبيب من جنس المَرَض”.
مثلما أن الجزاءَ من جنس العمل!
مِن أطبَّاء العِظام مَن يُشبهون الكدمات، ومِن أطبَّاء الجهاز الهضمي مَن يُشبهون تقرُّحات القولون، ومِن أطبَّاء الأمراض الجلدية مَن يُشبهون الجذام!
التعاملُ سيئٌ، والجهلُ فاشٍ، والسخريةُ من جهل المرضى وسذاجتهم سلوكٌ يوميٌّ، يمارسه الأطباء في جلساتهم الخاصَّة، دون احترام لأولئك البائسين الذين ائتمنوهم على أسرارهم!
ولا مجال هنا لتفصيل مشكلات المستشفيات العامة، والمستشفيات الجامعية، وطرق استعباد الأطبَّاء الكبار للمرضى المحجوزين للعلاج، مقابل (ملاليم) يجمعها الطلبة لهم، بعد عبارة: Collect money for the patient التي يحثهم بها المعيدون على دفع مقابل انتهاك آدمية وخصوصية المريض البائس بعشرات الأيدي التي تجوس في جسدِه الهش!
ترتيب الأولويات
من أجل كل هذه الصور الذهنية المسبَقة التي ستتبادر إلى ذهن القارئ المصري والعربي حين تقع عيناه على الكلمات المرعبة التي أشرتُ إليها آنفًا: (التأمين الصحي – الأخطاء الطبية… إلخ)، أظن أن التجربة التي تتناولها هذه الرواية، سوف تثير كثيرًا من النقاشات، بصدد ما يجب أن نقلق بشأنِه في المستقبل في مجتمعاتنا العربية، وفي العالم عمومًا، والأولويات التي ينبغي لنا أن نرتِّبها.
هل نقدِّم نظافة الشارع وجودة الأسفلت وارتفاع الأبنية على العلم والأخلاق، أم نجلس مع ابن سينا في قبوٍ تحت الأرض لنتنفَّسَ الهواء العطن ونحن نتدارس الفلسفة؟! وما موقف الذي نشأ في واقعٍ كالقبر، لا يرجو منه رعايةً طبيةً، ولا هواءً نظيفًا، ولا شارعًا لامعًا، ولا حتى لمسةً عطوفًا تمسِّد قلبَه إذا همَّ بالبكاء – ما موقفه تجاه ترتيب هذه الأولويات؟ من أيِّ شيءٍ سيشكو، وأيّ حلمٍ سيسعى إلى تحقيقه أوَّلًا، وهو الغريق الذي لم يَعُدْ يخشى من البلل؟
ولهذا أرى أن هذه الرواية تتجاوز كونها تجربةً ذاتيةً، إلى آفاقٍ أكثرَ رحابةً. هي – بامتياز – رواية العربي الطريد، الذي لم يجد في وطنه (المتخلِّف/المحتلّ/المنقسِم) أيَّ تقديرٍ لآدميته؛ وحين اضطرته قسوةُ ظروفِ وطنِهِ إلى الهجرة، عانى أيضًا في منفاه الاختياري… مصداقًا للمثل المصري الذي نصُّه:
“قليل البخت يِلقَى العَضْم في الكِرشَة”!
ستفجِّر هذه الرواية كثيرًا من النقاشات، وستتعدَّد بصددها الرؤى النقدية. وأنا أرى أنها روايةٌ مهمَّةٌ، تستحقُّ أن تشغل حيِّزًا من مكتبةِ كلِّ قارئٍ يعنيه استجلاءُ التجارب الإنسانية الثرية.