ما بين جحيم الآخر وجَنّة العزلة
كثيراً ما نتحدَّثُ عن العزلة كَخيارٍ أو ربما ملاذٍ يقينا شرَّ الخيبات، ويُعيننا على ترتيب ذواتنا، وترميم ما صار آيلاً للسقوط مِن الأحلام. أو قد نحكي عنها على أنها العلاج الأجدى لتجديد سمات أرواحنا الحقيقية، مثل قدرتنا على الحب والعطاء والخير.
تُصَوَّر العزلة كما ولو أنَّها علاجٌ طبيعيٌّ يساعد على إزالة الشوائب العالقة في أرواحنا، ومحو كلّ ما تركه الجمع خلفهم من صخب وأذى.
علاج طبيعي يمكّننا من رؤية وجوهنا بنقائها الطبيعي، وملامحها الحقيقية.
هكذا تماماً كنتُ أرى العزلة، هكذا كنتُ أرى تلك المسافة الشاسعة التي أخلقها بيني وبين الخلق، وكنتُ أهمس لروحي كلما وهَنتُ: هذي المسافة حصنكِ.. فلا تقتربي.
كلُّ ذلك ربما كان نتيجة التجارب الاجتماعية القاسية، أو ربما إلغاء المسافات مع الأشخاص الخطأ. كل ذلك كان نتيجة “سوء الاستخدام” إن صحَّ التعبير.. استخدام الود، واستهلاك العواطف، واستنفاد الفُرص.
لكني رُغم كل ذلك، وجدتُ نفسي بعد حين من الزمن أتساءل:
هل أنا بحاجةٍ لأن أكون اجتماعيّةً حقًّا؟
خلال عملي على مشروعي الروائي الأخير، لم تكن العزلة اختياراً أو رفاهيةً، إنما كانت فرضاً. فوجدتُ نفسي مرغمةً عليها لأتمكَّن من إنهاء عملي في الوقت المحدد، ولأضمن كذلك عدم التقصير في كل ما يخص الالتزامات الأخرى المجدولة على قائمة مهامي.
مرَّت تلك الفترة وأنا أحظى بعزلة مكثّفة لم أعِش مثلها في حياتي، باستثناء فترة الحجر والتي كانت تجربة مذهلة أيضًا.
ولقد وجدتُ نفسي مع نهايتها أخرج من كهفي النائي أطالع الكون من حولي باستغراب، وأتعامل مع الأشخاص المحيطين بي بحذر، بينما ينهشني اغترابي عن كل ما يحيطني.
أعترف أنَّ هذا الاغتراب لم يكن شعوراً طارئاً، لكنه بدا مستفحلاً وموجعاً.
ماذا قدَّمتْ لي العزلة؟
اتّسمت فترة الحجر التي قضاها معظم سكان الكوكب -مجبرين- في بيوتهم بالإنجازات في الغالب. البعض اكتشف مواهبه الدفينة، والتي لم يكن سيتسنى له أن يعرفها وهو غارق بقائمة المهام المكتظة.
والبعض صنع ثروةً من ذلك، والبعض الآخر اكتشف جوانب النقص في علاقاته مع المقرّبين، وعمل على سد الثغرات، وإنعاش روح العائلة.
في حين أن هناك أشخاص اكتشفوا الثروة الحقيقية التي كانوا يهدرونها دون نفع، الوقت، وعملوا على استغلاله، وخرجوا مع نهاية تجربة الحجر بإنجاز ما/ بإنجاز حقيقي رأس ماله الأول كان الوقت.
كلّ ذلك وأكثر كان من ثمار العزلة..
ماذا أيضًا! ماذا قدّمت لي العزلة؟
- مجتمع ضيق المعارف: قد يبدو الأمر مريحاً، لكنه ليس مُربحاً بكل تأكيد. في وقتٍ تُعدّ فيه العلاقات الاجتماعية مفتاح النجاح، فإن انحسار دائرة معارفك يعني بالضرورة أنك تخسر الكثير من الفرص.
- قدرة أقل على الانسجام: تصير التجمعات التي تزيد عن ثلاثة أو أربعة أشخاص تجمعات مكتظة ومُنهِكة بالنسبة لشخص يرى في العزلة جنتَه المُشتهاة. ناهيك عن محاولة افتعال المجاملات، والخوض في أحاديث أقل ما يُقال عنها أنها لا تَعنيك ولا تُغنيك.
- فريسة لأفكار لا تصمت: إذاً كنتُ قد قررتُ الهرب من الضجيج الاجتماعي، وأوصدت الباب على نفسي، فإذا بالأفكار تتكاثر في رأسي، فتلتهمني.
فهل كان يتوجّب علي أن أبقي الأبواب مُشرَّعةً؟ هل كنتُ أسيء إلى نفسي من حيث حسبتُ أنني أُحسن إليها؟
وهل علينا أن نكفَّ عن مديح العزلة؟
لماذا يجب أن تكون اجتماعيّاً؟
الإنسان كائن اجتماعي في تكوينه الفيزيولوجي:
“إن الطبع الاجتماعي ليس اختياراً بالنسبة للجنس البشري، بل هو جزء من هُويتنا تشكَّل في تاريخنا وفي تكويننا”
معظم الدراسات التي بحثت في تاريخ الإنسان عبر العصور المختلفة، ومراحل تأقلمه وتكيُّفه مع البيئات والتغيُّرات الطارئة قد أكّدت أمراً يعدُّ غاية في الأهمية بالنسبة لعلماء الاجتماع وعلماء اللغة، وهو أنَّ قدرة الإنسان على التواصل الاجتماعي قد تزامنت مع أهم الاختراعات والاكتشافات التي حققها الإنسان في العصور السحيقة.
“إن الإنسان البدائي قد طوّر اللغة بشكلٍ أساسيٍّ كَوسيلة اجتماعية”.
كما يؤكد العلماء أن تطور الحس الاجتماعي، والقدرة على إنشاء علاقات اجتماعية كانت من أهم عوامل تطور الحياة البدائية، وإن أول من قام بتوزيع الأدوار في مهام الصيد، وبناء المعسكرات المركزية، وكذلك دفن الموتى هو الإنسان الذي امتاز بدماغ ذي حجم أكبر، وأقرب لدماغ الإنسان المعاصر.
وفي إطار ما يسمى بنظرية الدماغ الاجتماعي، فقد أوضح العلماء أنّ ” العامل الأساسي الذي يميز دماغ الإنسان عن أدمغة الكائنات الأخرى المشابهة له هو حجم ذلك الجزء من الدماغ الذي يشمل مناطق عدة تشترك في عملية الإدراك الاجتماعي المُعقد بما في ذلك التفكير الواعي، واللغة ، والتنظيم السلوكي والعاطفي…”
لكنَّ الأمر أكبر من كونِك مصممٌ لتكون اجتماعياً..
يبدأ الإنسان بتعلّم المهارات الاجتماعية واكتسابها منذ لحظة ولادته كما يشير علماء التربية وعلم نفس النمو. إذًا ليس الأمر أنك خُلِقتَ بجسدٍ مُهيَّأ للتواصل الاجتماعي فحسب، بل أنت تتعلّم كيف تكون اجتماعيّاً، تماماً كما تتعلَّم اللُّغة، وكما تتعلَّم المشي.
بذات الآلية تتعلّم كيف تُلقي نكاتاً مُضحكة، وكيف تبدأ حديثاً مع أشخاصٍ تقابلهم للمرة الأولى. أنت لا تتعلم كيف تكون اجتماعيّاً فحسب، بل أنت تتدرب لتطوِّر هذه المهارات، وتبذل جهدك لتنقلها لأطفالك؛ لتكون مقبولاً اجتماعيّاً ، وتتأكد أن ينال أطفالك القبول ذاته.
“إن قدرة الإنسان ودافعيته للتعلم من الآخرين اجتماعيّاً هي الخطوة المفتاحية في تطور الإنسان الاجتماعي”.
وهنا يمكننا الحديث عن محاولاتك لتحاكي ما تلاحظه من مهارات اجتماعية يمارسها الآخرون من حولك. هذه المحاكاة وما يليها من إخفاقات ونجاحات تؤكد على أنك قادر على اكتساب المهارات الاجتماعية، وهذه القدرة هي أساس تميزك واختلافك كإنسان.
كما أن الكثير من ملامح شخصيتك تتأثر بشكل مباشر مع ما يتركه المجتمع المحيط من أثر في روحك، وما تستطيع أنت اكتسابه وتعلُّمه موظِّفاً مهاراتك الاجتماعية.
“إدراك الفرد، وذاكرته، وذكاؤه وخياله، وتصوراته لا يمكن أن تكون فردية خالصة، بل لا بد وأن تكون متأثرة بعناصر مستمدة من تصورات اجتماعية”.
حتى أن تصورات المجتمع عن الكائن المنعزل غالباً ما تصنفه في خانة الأقل قبولاً، فكثيراً ما ترى الآخر ينفر من التعامل مع الأشخاص الذين لا يجيدون التقاط الإشارات الاجتماعية، ولا يتقنون تحليلها.
هل سبق وفشلت في فهم نكتة أطلقها أحدهم؟ ستفهم مقصدي إذا كنت مررت في موقف مشابه.
إن التصنيف مهارة أساسية يكتسبها الإنسان في الطفولة، ويتبناها ويطوِّرها مع التقدم في العمر، فتخرج عن كونها مهارة مساعدة في تصنيف الأحرف، والأشكال حتى تصير نوعاً من التأطير، ويتنوّع استخدامها حتى تصير وسيلة لتصنيف الأشخاص وفق أحكام مُسبقة وصور نمطية.
واتكاءً على الصورة النمطية للإنسان الاجتماعي، فإن عدم القدرة على مجاراة التناغم الاجتماعي بين مجموعة من الأشخاص يجعل الشخص المختلف عرضة للتصنيف على أنه كائن غير اجتماعي/ غريب/ أو حتى انطوائي.
هل يشكِّلُ الأمر أية خطورة؟
“إن المشكلات الجسدية والعاطفية، بدءاً من اضطرابات الأكل وانتهاءً بالانتحار، أكثرُ انتشاراً بين الأشخاص الذين يتّسمون بِنقص في العلاقات الاجتماعية”
وحيدٌ.. ومُنعَزل.. أوشكتَ تنسى كيف يمكن أن تتبادل أطراف الحديث مع أي شخص آخر.. لابدَّ أن الأمر ليس عاديّاً كما قد يبدو لك، ولا بد من أن تفكِّر بهذه الصّفات “وحيد.. مُنعَزل”.. فكِّر بها جَدّيّاً.
أنت ناجح.. إذًا أنتَ بالضرورة كائن اجتماعي
بعيداً عن ضرورة العلاقات الاجتماعية -في وقتنا الحاضر- كداعمٍ أساسيٍّ للوصول أو النجاح في كثير من الحالات.
فإنَّ دافع الانتماء يعدُّ من أهم الدوافع النفسية ذات الأثر في إنجاز الإنسان. الإنسان الذي يسعى دائماً للشعور بالقبول والانتماء إلى المجتمع الذي يعيش فيه، وهذا يعني العمل بشكل أكبر، والسعي الحقيقي نحو النجاح؛ لتصير مرئيّاً اجتماعيّاً.
كما أنّ التكوين النفسي والفيزيولوجي، والذي أشرنا إليه مُسبقًا، يخلق لدينا هذا التلهُّف لوجود الآخر في حياتنا، الآخر الذي نحتاجه للاعتراف بنجاحاتنا، “فحتى يُسمى النجاح نجاحاً لا بد من الاعتراف به ومنحه جزاءه”.
إذاً لا نجاح دون الآخر، دون اعتراف الآخر، وإن اقتصر الجزاء على هذا الاعتراف، فإنه في حالاتٍ كثيرة يكاد يكون كافيّاً.
لذلك نجد أنفسنا في كثير من الأحيان بعد مضي بعض الوقت على اختيارنا للعزلة نبدأ نتألم، ونأسى لهذا الاختيار. حتى وإن حاولنا ستر هذه المشاعر تحت ألف غطاء، لكنها لا تلبث أن تنفضح بمجرد أن تعذل أحدهم على طول غيابه، أو على قلة اهتمامه وسؤاله..
وهكذا فإننا لا يمكننا أن نتوقف عن توقّع قرع أحدهم لبابنا.. لا يمكننا أن نكفَّ عن التوقع مهما تتالت الخيبات.
لا يمكننا أن نتوقف عن التوقع هذا الفعل الذي يبرهن لنا في كل مرة أننا بحاجة حقيقية للآخر حتى وإن كان الجحيم.
References:
- Child Development: Brain Hopkins, Elena Geangu and Sally Likenauger
- Educational Psychology: Anita Woolfolk
- The Science of Social Intelligence: Patrick King
- الذكاء: آلان سارتون
- الذكاءات المتعددة: محمد عبد الهادي حسين