العنكبوت العجوز: محمد علي باشا ومصر البربرية
“لقد كانت مصر حين أتيتُ إليها بربرية حقيقةً، في غاية البربرية، وما زالت بربرية حتى يومنا هذا، ولكني مع ذلك آمل أن جهودي قد جعلت أحوالها أفضل بعض الشيء مما كانت، يجب ألا تُصدم حين لا تعثر في هذه البلاد على الحضارة السائدة في أوروبا”.
ذلك ما قاله محمد علي باشا للقنصل البريطاني الكولونيل هودجس في مقابلة معه عام ١٨٤٠م. [1]
تلك المقولة في مجملها تمثل الصورة الكاملة التي قدمها الخطاب القومي المصري عن محمد علي باشا، ذلك الخطاب الذي بثته مدرسة التأريخ القومية المصرية من خلال الكتب المدرسية والدراسات الأكاديمية والأعمال الفنية والأدبية، التي تبدو فيها شخصية محمد علي كالمنقذ أو المُخلّص الذي جاء لمصر لينتشلها من الظلام والجهل، وينتقل بها إلى مرحلة جديدة تتميز بالحداثة والتقدم والازدهار، ذلك ما أخبرونا به في المدرسة.
لكن على ما يبدو أن الحقيقة مغايرة تمامًا لما قالوه، ذلك لأن معظم تأريخ تلك الفترة من تاريخ مصر لم يكن تأريخًا محايدًا كما يجب أن يكون، فمثلًا واحدة من المسلّمات التاريخية لدى الخطاب القومي المصري هي مقولة: “محمد علي هو مؤسس مصر الحديثة” في الأصل هي واحدة من المقولات الكثيرة التي يُعد الباشا نفسه مصدرًا لها، والتي ارتبطت تاريخيًا بمصالح محددة وهي مصالحه الشخصية، بل إنه -الباشا– يُعَد مصدرًا أساسيًا لكثيرٍ من معلوماتنا عن شخصيته وعن ملامح مصر في فترة حكمه الطويلة، حيث كان زوّاره من النبلاء والمؤرخين الأوروبيين يسجلون ما يُسرَد عليهم عن مصر وظروفها وذكاء حاكمها في كتب تحولت إلى مصادر أساسية توثق تلك الفترة فيما بعد. [2]
هذا وقد حرص الباشا نفسه على إظهار شخصيته وهيئته في صورة الحاكم الغامض الذي تشوبه هالة من الجلال والريبة، تبعث في نفس الجالس أمامه من زواره من المؤرخين والنبلاء والحكام والقناصل أنه يحكم كل شيء من حوله، ويتحكم به بلا أي أخطاء أو زَلَّات من مركزه دون حراك.
تلك الصورة التي رُسمَت عنه كانت نتاج ترتيب شبه مسرحي لها؛ في زيارة أحد النبلاء البريطانيين وهو اللورد ليندساي في عام ١٨٢٦م لقلعة الباشا كتب: “لقد زرنا العنكبوت العجوز في عرينه، وبعد أن اجتزنا صالةً فخمة كانت مكتظة بالحشم وجدنا أنفسنا في صالة الاستقبال، ولكنها كانت خالية من أي قطعة أثاث، عدا ديوان عريض أو أريكة، وفي ركن منها جلس سموه محمد علي القرفصاء، وكانت هناك ست شمعدانات في وسط القاعة، لكن ضوءها كان خافتًا”. [3]
لم يكن المشهد السابق الذي دوّنه اللورد البريطاني المذكور الوحيد أو الفريد في وصفه لعظمة المكان وغموض الباشا، بل تكرر هذا المشهد كثيرًا في مؤلفات الرحالة الأوروبيين، أعني أنه من الدهشة حقًا الاعتقاد أنها المصادفة التي جعلت الكثير منهم يدوّنون نفس النمط من الوصف، أي بدايةً من دخول القلعة حتى لقاء الباشا في قاعته خافتة الإضاءة، ذلك الغموض الشديد الذي كاد أن يضفي على الباشا قيمة إلهية، من أين جاء؟
يمكننا أن نعزو ذلك التكرار في روايات هؤلاء الرحالة وذلك الغموض المبالغ فيه إلى انبهارهم بتلك البقعة من العالم، الشرق الساحر المثير للدهشة، الأمر الذي دفعهم لإضافة أوصاف شيقة ومثيرة عن هذا الباشا وقلعته العظيمة، فهم في النهاية كانوا يعتبرون أنفسهم في مغامرة لبلاد العجائب، كما أنهم على دراية بما يُفضَل أن يقرأهُ قُراؤهم، فلا بأس من إضافة تشبيهات تضفي على الرواية بعض الإثارة كوصف الباشا بـ “العنكبوت العجوز” وقلعته العظيمة بـ “عرينه“.
نتاجًا لذلك يمكننا القول بأن محمد علي باشا لم يكن بذلك الغموض الخيالي، الأحرى أن نعتبر هذه الصورة التي حرص أن يُظهرها لم تكن مصدر السلطة بل إنها نتاج لتلك السلطة، نتاج إلى ذلك الوقار والهيبة المصاحب دائمًا للاستحواذ على السلطة.
على غرار ذلك؛ الشكل العام الذي بناه الباشا عن مصر الحديثة ليس كما يبثّه لنا دائمًا الخطاب القومي المصري وإعلام السلطة عن شكل مصر في تلك الفترة، والذي دائمًا ما يروّج لوقائع يتم تحويرها وتسطيحها وإبعاد الحقيقة عنها وتبريرها حتى تبدو في صورة مُمسرحة.
سنقف عند محطات هامة في تاريخ تلك الفترة ونستعرض برؤية نقدية الوقائع والأحداث، بدايةً من قدوم الباشا لمصر في حامية تابعة للجيش العثماني، واستغلاله لحالة الفوضى السياسية والثورات الشعبية لصعود كرسي الحكم، وترويج أن مصر كانت في حالة من البربرية قبل قدومه، مرورًا بوقائع تخص التخلص من منافسيه، وبناء مؤسسة الجيش وأثرها العميق والكبير في تشكيل ملامح مصر الحديثة التي ما زلنا نتأثر بها حتى الآن، وكيف قمع الثورات الشعبية ضد سياساته، وصولًا إلى بناء جهاز إداري معقد لخدمة مؤسسة الجيش والذي شَكّل الحكومة الحديثة فيما بعد، كل ذلك في مجموعة من مقالات منفصلة ستُنشَر قريبًا.
محمد علي باشا عن كثب
في هذه الفقرة نستعرض من هو محمد علي بشكل مختصر، حتى نفهم هذه الشخصية وأبعادها والظروف التي أدت لتكوينها وصقلها بشكل عسكري إداري مُنذ شبابه.
هو محمد علي باشا بن إبراهيم آغا القوللي، من مواليد مدينة قولة (كافالا) شمال اليونان، وهي إحدى المدن الإسلامية التابعة للسيادة العثمانية، وتاريخ مولده عام ١١٨٣هـ / ١٧٦٩م، ويُذكَر أنه تركي الأصل عثماني مسلم، وبعض المؤرخين ينسبه إلى الأرناؤوط الألبان، والده إبراهيم آغا كان رئيس كتيبة من رجال الحفظ تابعة لوالي المدينة الشوربجي إسماعيل وصديق مقرب له، وكان أيضًا تاجر تبغ حيث اشتهرت مدينة قولة بأنها تنتج أجود أنواع التبغ التركي آنذاك، توفي والده ثم تبعته والدته فصار يتيم الأبوين في سن الرابعة عشر تقريبًا، ثم كفله والي المدينة صديق والده، وأنشأه نشأةً علمية، حيث تعلم أصول الدين وركوب الخيل واستعمال السلاح في سن مبكرة. [4][5]
ولما اشتد عوده وصقلت مهاراته أبدى محمد علي براعةً قتالية وذكاءً عسكريًا وقوة بدنية مبهرة، “كان يشترك في التجريدات التي تُوجهها حكومة المدينة لتَعَـقُّب قاطعي الطريق، أو لتحصيل أموال الدولة، وقد تولَّى قيادة بعض هذه التجريدات، وأظهر فهمًا لفن المباغتة، وإدراكًا لصفات الرياسة، وقوة قلب، وقوة احتمال بدني يسترعي النظر”. [6]
ولما بلغ الثامنة عشرة تزوج بسيدة من قريبات الوالي عُرفت بجمالها، وهي أمينة هانم، وأنجبت له من الذكور إبراهيم وطوسون وإسماعيل ومن الإناث ابنتين. [7]
تم ترقيته عسكريًا لمنصب نائب رئيس كتيبة تعدت الثلاثمائة جندي، وكان رئيسها هو ابن الوالي، عندما قررت الإدارة العثمانية إرسال جيش إلى مصر لتخليصها من الفرنسيين كانت تلك الكتيبة ممّن ذهبوا، لكن رئيس الكتيبة قرر العودة إلى بلاده وأوْلى محمد علي رئاسة الكتيبة عام ١٨٠١م، فكان مسؤولًا عن ثلاثمائة جندي من الألبان تحت تصرفه العسكري، كان لهم دور بارز في مسار وتشكيل الساحة السياسية في مصر قبيل تولي الباشا السلطة. [8]
هل كانت مصر بربرية حقًا؟
“لقد كانت مصر حين أتيتُ إليها بربرية حقيقةً، في غاية البربرية”.
قالها محمد علي باشا، وُثّقَت هذه المقولة كمصدر من ضمن مصادر تؤكد حالة مصر المتردّية قبل قدوم الباشا، وبذلت الأسرة العلوية محاولات، على رأسها الملك فؤاد، لترويج الآراء القائلة بأن الباشا قد نقل مصر من مرحلة الركود السياسي والاقتصادي والتجاري لمرحلة الحداثة والتقدم، وساهم كثير من القوميين المقربين من دوائر السلطة والإعلام المتحيز لها على مدار سنوات عديدة تَبِعت حكم الباشا في ترويج تلك النظرة عن وضع مصر قبل محمد علي، والتي أكدت على انكماش الاقتصاد وركوده وتخلف المجتمع وتجمد فكره. [9]
لكن ظهرت الكثير من الكتابات والدراسات الجادة التي نقدت الكتابات التقليدية وليدة الخطاب القومي المقرب من السلطة، والتي اعتمدت -تلك الكتابات التقليدية- أسلوب المقارنة بين وضع مصر قبل حكم الباشا وبعده؛ فمثلًا ذكرت أن نظام ملكية الأراضي قبل حكم الباشا اعتمد على الالتزام وليس الملكية الخاصة، مما أدى إلى تدهور الاقتصاد وتأخر دور المجتمع، ولكن في عهد الباشا تم استحداث نظام الملكية الخاصة للأراضي، مما أدى إلى انتعاش الاقتصاد. [10]
نذكر من تلك الدراسات النقدية الحديثة التي ضحدت المقولات التقليدية؛ دراسة كينيث كونو باسم “فلاحو الباشا“، أوضحت أن ادعاء استحداث الباشا لنظام الملكية الخاصة للأراضي في مصر كان خطأ، حيث أظهرت سجلات المحاكم الشرعية في القرن الثامن عشر أن حائزي الأرض كان لهم كل الحق في التصرف في أراضيهم بالبيع أو الإيجار كما لو كانوا يملكونها ملكية خاصة، هذا وقد أوضحت الدراسة أيضًا نشاط المجتمع الزراعي وتطوره وازدهار أسواقه وتميزه بنظام قانوني متطور. [11]
دراسة أخرى قامت بها نيللي حنا عن اقتصاد مصر في أواخر القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر -أي قبل حكم الباشا- فأوضحت أن مصر كانت جزءًا مهمًا من شبكة معقدة ومزدهرة من طرق التجارة، كما قد وُجدَت مؤسسات مالية فيما يشبه البنوك حاليًا كان لها دور مهم في ازدهار التجارة في مصر، فكان يذهب إليها الناس من مختلف الطبقات لإشهار كافة أنواع العقود التجارية من بيع وشراء وإيجار لحماية حقوقهم المالية. [12]
في كتابه “الجذور الإسلامية للرأسمالية” يشكك بيتر جران في النظريات التي قالت إن مصر شهدت خمولًا ثقافيًا واجتماعيًا وفكريًا حتى حكم الباشا وقيامه بإنشاء مدارس وإنشاء مطابع وارسال بعثات… إلخ، فقد دَرس كُتب ومؤلفات من النصف الثاني من القرن الثامن عشر وبرهن على وجود دلائل كثيرة على وجود نهضة ثقافية داخل مصر سبقت مجيء محمد علي متمثلةً في الأزهر الشريف بعلمائه ومشايخه. [13]
قد قدمت كل هذه الدراسات النقدية الحديثة نسبيًا براهين على أن تلك الفترة من تاريخ مصر -أي في العصر العثماني في القرن الثامن عشر، وخصوصًا قبل مجيء محمد علي وحتى العصور اللاحقة- لم تكن فترة من الظلام والخمول والتدهور على كافة الأصعدة كما تدّعي النظريات القومية الموالية للسلطة وللأسرة العلوية، فلم تكن مصر بربرية حقًا.
نكتفي بذلك القدر ونكمل في المقال القادم من هذه المجموعة كيف استغل الباشا الصراع على السلطة وصعوده لسُدة الحكم على أكتاف المصريين.
المصادر: 1.خالد فهمي: كل رجال الباشا. 2.المصدر السابق. 3.المصدر السابق. 4.محمد شفيق غربال: محمد علي الكبير. 5.ويكيبيديا: محمد علي باشا. 6.محمد شفيق غربال: محمد علي الكبير. 7.ويكيبيديا: محمد علي باشا. 8.المصدر السابق. 9.خالد فهمي: كل رجال الباشا. 10.المصدر السابق. 11.المصدر السابق. 12.المصدر السابق. 13.المصدر السابق.