تاريخ الترجمة في عصر محمد علي

تعرّف على أول رسالة ماجستير من جامعة فاروق الأول

«القول الصريح في علم التشريح»، «روضة الذكاء في علم الفسيولوجيا»، «الجواهر السنية في الأعمال الكيماوية»، «الأزهار البديعة في علم الطبيعة»، ليست هذه أسماء كتب ترجمها أو كتبها مؤلفون مسلمون في عهد الدولة العباسية -أيام انتعاش حركة الترجمة في العالم الإسلامي- ولكن أسماء وضعها مترجمون ومحررون ومصححون لكتب مترجمة في عهد محمد علي عن اللغة الفرنسية في معظمها، فقد اعتاد المترجمون ألا يذكروا اسم المؤلف بينما اكتفوا بتصدير الكتاب بعبارة ترجم عن الفرنسية وحرصوا مهووسين بتقاليد التأليف القديمة أن تكون أسماء الكتب مسجوعةً.

تكتسب هذه العناوين طرافتها من وقوفها بين عالمين: عالم شيوخ الأزهر الذين عملوا مصححي لغة ومحررين للكتب المترجمة في المدارس التي أنشأها محمد علي في بدايات القرن التاسع عشر في مصر على الطريقة الأوروبية الحديثة، وعالم كبار مؤلفي أوروبا في القرنين السابع عشر والثامن العشر الذين ترجمت كتبهم بشكل كبير آنذاك، والأساتذة الأوروبيين الذين استقدمهم محمد علي لإنشاء هذه المدارس والإشراف عليها والتدريس فيها.

استقر محمد علي في مصر ضابطًا من ضباط الفرقة الألبانية التي جاءت مع الحملة التركية الانجليزية لإجلاء الفرنسيين عن مصر في مارس عام ١٨٠١، وظلّ يرقب الصراع الدائر بين المماليك والأتراك والإنجليز في مصر، وانحاز إلى صف الشعب وقد خرج الإنجليز من مصر وضعفت شوكة المماليك والأتراك، ونصّبه الشعب واليًا على مصر لما توسّمه فيه من خير وعدالة بعدما اشتدت الخلافات مع الباشا العثماني «حيث ذهبوا إليه وعرضوا عليه ولاية مصر وأحضروا له كركًا وعليه قفطان وقام الشيخ عمر مكرم والشيخ الشرقاوي وألبساه إياه ونودي بالخبر في المدينة، مساء اليوم نفسه».(تاريخ الجبرتي)

أراد محمد علي أن ينقل الغرب إلى مصر ليس العكس؛ لتستطيع مصر أن تلحق بنهضة أوروبا الحديثة محافظةً على لغتها وهويتها، لذلك سارع في إرسال البعثات إلى الغرب وإنشاء المدارس واستقدام الأساتذة الأجانب (الفرنسيين خاصة) للتدريس فيها وشجع حركة الترجمة لينقل إلى اللغتين العربية والتركية العلوم الحديثة، إذ لم يكن من سبيل لإحداث نهضة شاملة تناسب طموحاته وأحلامه إلا عن طريق نهضة ثقافية تقوم أساسًا على النقل من الغرب بما يلائم حاجة مصر وتاريخها وتطلعات حاكمها الجديد.

في كتابه «تاريخ الترجمة والحركة الثقافية في عصر محمد علي» (دار الفكر العربي، ١٩٥١) يستعرض المؤرخ المصري جمال الدين الشيال (١٩١١-١٩٦٧) تاريخ الترجمة في النصف الأول من القرن التاسع عشر في مصر، وهو أيضًا «تاريخ محاولة مصر الخروج من عزلتها وتعرفها بالغرب لوصل ما انقطع من حضارتها، أو تاريخ الوسيلة المثلى التي اصطنعها محمد علي في إقالة عثرتها». (أنطون الجميل)

إعلان

وكتاب الشيال هو أول رسالة قدمت للحصول على درجة الماجستير من جامعة فاروق الأول (الإسكندرية حاليًا) عام ١٩٤٥ وقد نوقشت أمام لجنة من الأساتذة الكبار: عبد الحميد العبادي ومحمد شفيق غربال ومحمد صفوت، ونالت الدرجة بإجماع الأصوات مع مرتبة الشرف الأولى، وحصلت في عام ١٩٤٦ على جائزة البحث الأدبي من مجمع فؤاد الأول الملكي للغة العربية (مجمع اللغة العربية حاليًا) من لجنة مقررها عميد الأدب العربي طه حسين.

يشرح الشيال في مقدمة كتابه السياق الذي بدأ فيه محمد علي مشروعه الإصلاحي، فقد تولى محمد علي عرش مصر والعلاقات بينه وبين السلطان العثماني غير مستقرة، والجيش الموجود في مصر خليط من شراذم مملوكية وشركسية وألبانية…، والعلم فيها منحسر في أروقة الأزهر ومقتصر على العلوم التقليدية: الشرعية والاعتقادية وعلوم اللغة العربية والأصول…، والسياسة الاقتصادية خربة، وهو بحاجة إلى موظفين إداريين متمرسين يعاونونه في تحقيق مشروعه ومصر فارغة منهم، لذلك اضطر إلى استخدام الأجانب وهو يدرك حتميّة استبدال موظفين مصريين بهم، إذ كانت تكلفة استخدام الأجانب باهظةً، ومعظمهم لا يعرفون العربية ويحتاجون إلى مترجمين للتواصل بينهم وبين الحكومة، وقد يقفون بجهلهم بعادات البلاد وحاجاتها الأصيلة -بقصد أو بدون- ضد مشروعه الإصلاحي.

استعان محمد علي في البداية بإيطاليا والإيطاليين، ولم يتوجه إلى إنجلترا أو فرنسا رغم ما لهما آنذاك من زعامة أوروبية، إذ لم يكن هناك مشاحنات سياسية بين مصر وجمهوريات إيطاليا، بل كانت هناك علاقات تجارية وثيقة بين إيطاليا ومصر طوال العصور الوسطى وكان للإيطاليين جاليات كثيرة في ثغور الشام ومصر وموانيهما، وكانت اللغة الإيطالية شائعةً ومتداولة، وكان «أغلب العوام في مدينة الاسكندرية مثلًا يلمون بشيء من اللغة الإيطالية». (الطهطاوي، تخليص الإبريز في تلخيص باريز- ١٩٨٨)

كانت هذه مقدمة أن تكون اللغة الإيطالية هي أول لغة أوروبية تدرس في مدارس محمد علي وأن تكون البعثات الأولى إلى مدن إيطاليا المختلفة: ميلانو، فلورنسا، روما،….؛ لدراسة فن سبك الحروف والطباعة وبناء السفن والفنون العسكرية ونظم الحكم، ومنها «استدعى محمد علي المعلمين للمدارس والضباط المدربين للجيش واشترى آلات الطباعة والكتب التي دفعها إلى المترجمين لينقلوها للعربية أو التركية». (أحمد عزت عبد الكريم، تاريخ التعليم في عصر محمد علي- ١٩٣٨)

سعت فرنسا إلى محمد علي وإلى مصر واستخدمت رجالها وعلماءها وضباطها؛ للقضاء على النفوذ الإيطالي في مصر، ولتحل اللغة الفرنسية محل الصدارة بين اللغات الأجنبية في مصر بدلًا من الإيطالية، إذ كانت تعتبر مشروعه الإصلاحي استمرارًا لِما بدأته الحملة الفرنسية من إصلاحات وساعد على ذلك أن المستَخدمين الإيطاليين لم يكونوا من الطبقة الممتازة في ظل الأثر الطيب الذي تركه المُستَخْدَمون الفرنسيون مثل كلوت بك، ناظر المدرسة الطبية ومفتش عموم الصحة.

ساعدت أيضًا الصداقة الشخصية بين محمد علي والتاجر الفرنسي المسيو ليون، الذي أفاده بخبرته في التجارة وعاونه في استقدام الفرنسيين المؤهلين إلى مصر، في نجاح فرنسا في منافستها مع إيطاليا، إذ ألغيت اللغة الإيطالية تدريجيًا من المدارس المصرية وحل الضباط الفرنسيون محل الضباط الإيطاليين، والكتب الفرنسية محل الكتب الإيطالية، وتوجهت البعثات إلى فرنسا بدلًا من مدن إيطاليا، وطغت الصبغة الفرنسية على مصر طوال القرن التاسع عشر في الناحية الفكرية، لكن محمد علي لم يقتصر أبدًا على فرنسا وحدها وظل يرسل البعثات إلى دول أوروبا المختلفة ويستعين بغير الفرنسيين في الداخل.

اشتمل كتاب جمال الدين الشيال بالإضافة إلى مقدمته والملاحق التي وضعها للكتب المترجمة في عصر محمد علي على ثلاثة أبواب تعرض للأدوات غبر المباشرة للترجمة: البعثات والمدارس، والأدوات المباشرة للترجمة: مدرسة الألسن وقلم الترجمة، المترجمون، المحررون والمصححون، القواميس والمعاجم، والطبع والنشر، وأخيرًا تقدير عام للترجمة في هذا العصر.

الأدوات غير المباشرة للترجمة: البعثات والمدارس:

عملت البعثات والمدارس كأدوات غير مباشرة للترجمة، إذ استغل محمد علي أعضاء البعثات لغرض ترجمة أكبر عدد من الكتب الممكنة في أقصر وقت ممكن، وحرص على إمدادهم بالكتب والتنبيه عليهم بسرعة ترجمتها، وكانت الحكومة تحتجز أعضاء البعثات في مكان خاص لا يخرجون منه إلا بعد أن يترجموا ما لديهم من كتب، وخدمت المدارس -التي أنشأها محمد علي بعد القضاء على المماليك مباشرة- حركة الترجمة، إذ كان المتعلمون لا يعرفون لغة المعلمين، فنشأت الحاجة إلى مترجمين يعملون كوسطاء بين المعلم والتلاميذ ونشأت الحاجة إلى تعليم التلاميذ اللغة الأجنبية لتسهيل عملية التعليم والاستغناء عن المترجم الوسيط، كما عملت هذه المدارس على توفير مراجع علمية حديثة مترجمة (عن الفرنسية غالبًا).

الأدوات المباشرة للترجمة:

مدرسة الألسن وقلم الترجمة:

أنشئت هذه المدرسة في عام ١٨٣٥ تحقيقًا لاقتراح تقدّم به رفاعة الطهطاوي لمحمد علي، وكانت تدرس بها اللغات العربية والتركية والفرنسية ولفترة محددة الإنجليزية، بالإضافة إلى الحساب والجغرافيا والأدب والتاريخ. وقد أضيف إليها قسم لدراسة الإدارة الملكية العمومية، وقسم لدراسة الإدارة الزراعية الخصوصية، وقسم لدراسة العلوم الفقهية. وقد أنشئت هذه الفروع لتخريج الموظفين الإداريين والقضاة. وفي عام ١٨٤١ ألحق بها قلم الترجمة وقد انقسم إلى أربعة أفرع: قلم ترجمة الكتب المتعلقة بالعلوم والرياضة، وقلم ترجمة كتب العلوم الطبية والطبيعية، وقلم ترجمة الأدبيات (التاريخ والجغرافيا والفلسفة والمنطق و…)، وقلم الترجمة التركية.

سيطرت مدرسة الألسن على شؤون الثقافة العامة في مصر وتميزت بإنتاجها العلمي الوفير حتى ألغيت عام ١٨٤٩ وقد تأثر قلم الترجمة تأثرًا سلبيًا بذلك إذ فقد حاضنته التي يعتمد عليها في عمله الفني وتمده بالمترجمين.

أغراض الترجمة في عهد محمد علي:

كتب كثيرة جدًا ترجمت في عهد محمد علي لأغراض مختلفة، فقد اهتم اهتمامًا كبيرًا بنقل ما عند الغرب من علوم حديثة ونظم وقوانين حديثة في الجيش والأسطول والمنشآت المدنية وتدريسها في المدارس، وهناك كتب ترجمت لرغبته الشخصية في فن الحكم مثل الأمير لميكافيللي، وكتب في التاريخ تتناول سير العظماء والمصلحيين كالسيرة النبوية وتاريخ الإسكندر ونابليون، وكتب عن تاريخ الدول الأوروبية الكبرى مثل إيطاليا وفرنسا، وهناك كتب ترجمة خصيصًا لرغبة ابنه إبراهيم باشا وهي كتب في فن الحرب وتعليم الجيوش، وترجمت الكتب أيضًا للمكتب العالي حيث استخدمت لتعليم أولاد محمد علي وأحفاده، بينما ندرت الكتب التي تهتم بنشر الثقافة العامة بين الشعب وقد أمر محمد علي بنشر كتابين في الثقافة الطبية إلا أنه لم يتبعها بكتب أخرى تحقق هذا الغرض.

قد يعجبك أيضًا: علي الحفناوي يكتب: تذكر كيليكيا يا أردوخان

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: طه الصياد

تدقيق لغوي: أبرار وهدان

اترك تعليقا