الشعور بالعار

سياسة الذل: تاريخ حديث

ما من عاطفة أوطدُ علاقةً مع الأساطير المؤسسة للنظام الاجتماعي البشري من الشعور بالعار، ففي البدء، وقف آدم وحواء معًا وكانا عاريين -رجلًا وزوجه- ولم يشعرا بالعار، ثم أكلا من شجرة المعرفة، وتفتحت أعينُهما، ليدركا أنهما عاريان، فتدثّرا بأوراق شجر التين. وكان شعورهما بالعار مؤشرًا على سقوطهما وأنهما قد أمسيا بشرًا. ويحكي الفيلسوف بروتاجوراس لسقراط أنه بعد أن اصطفى بروميثيوس البشر على غيرهم من الحيوانات بأن أهداهم النار، قام الإله زيوس بمنحهم العار والعدل، ليتمكنوا من التعايش معًا في تناغم.

فالعار، إذًا، ذلك الشعور الذي يدل على أننا قد ارتكبنا خطأً ما أو أمرًا مُخزيًا ما، كما أنه ذلك الشعور الذي يؤدي بنا إلى الشعور بالضعف تجاه الإحساس بالخزي أو الفسق أو الوصم أو الخجل من خلال أفعال الآخرين، أي أن نشعر بالذل. وهنا تسير أوتي فريفيرت على خطى بروتاجوراس فتقول:

من الواضح أن السلطة مهددةٌ كلما وقع عار ما.

ويدور عملها حول كيفية توظيف هذا الانفعال الإنساني والظروف التي يتم تحريكه فيها، وذلك من خلال ثلاث حلبات: عند إنزال العقاب بمن ارتكب إساءة ضد النظام العام، وفي الفصول الدراسية وعلى شبكة الإنترنت، وفي العلاقات الدولية. وتنطلق فريفيرت من قصة بائع خضروات تونسي كان عمره 26 عامًا، اسمه محمد بو عزيزي، والذي أضرم النار في نفسه في شهر ديسمبر عام 2010 أمام مكتب محافظ سيدي بوزيد، وذلك في أعقاب قيام ضابطة شرطة بصفعه ومصادرة بضاعته. كان الذل قد زاد وفاض، وأدى تصرّفُه هذا إلى “ثورة الكرامة” التي أطلقت شرارة الربيع العربي.

يعد كتاب “سياسة الذل: تاريخ حديث” من ناحية، تاريخًا يسرد كيفيةَ وصولنا إلى هذا، فهو قصة عملية التحول الديمقراطي للحق في الكرامة والشرف، وهو حق كان خلال فترات تاريخية مختلفة حكرًا على الطبقة الأرستقراطية، وليس حقًا للعامة، وكان حكرًا على الكبار دون الصغار، وعلى الرجال دون النساء، وعلى الملك دون الشعب. كما أن الكتاب يتناول صعود الكيانات والأنظمة التي لا تعتمد على سلطة القوي في إنزال العار بالضعفاء، وإنما التي تعتمد على قدرتها في خلق رعايا مستقلين لا حاجة لهم بالطقوس المزعجة والمضطربة لظواهر الإذلال العلني؛ لترسيخ التعايش السلمي. كما أن الكتاب يدور أيضًا حول السبل المختلفة الكثيرة التي يتم توظيف العار من خلالها حتى يومنا هذا.

إن الجزء الأول من تاريخ فريفيرت معروف ويأتي سرده واضحًا. فقد حلت السجون والغرامات محلَّ المشهَرة (آلة خشبية كانت تستخدم للتعذيب)، وحلت عقوباتٌ أكثرُ كرامةً محلَّ الضرب في المدارس والعسكرية، وأصبحت أصول التربية تحبّذ التحفيزَ الإيجابي للسلوكيات الجيدة والإنجازاتِ الأكاديمية على إنزال العار نظير الإخفاق والفشل، وأمست طقوسُ المساواة السيادية تحكم العلاقات بين الأمم، فتحوّل التملّق، على سبيل المثال، إلى ظاهرة من ظواهر النظام القديم. إنه تاريخ للتقدم، إذًا، تمثل فيه تضحيةُ بو عزيزي بنفسه مَعلمًا من معالم التقدم.

أمّا الأجزاءُ الأكثرُ قيمةً في “سياسة الذل: تاريخ حديث“، فتتمثّل في تفسير السبل العديدة التي تمّ من خلالها توظيفُ الشعور بالعار، وتناوله وتنظيمه في الماضي القريب وإلى يومنا هذا. فجعلت الاشتراكية القومية من الإذلال العلني مسألةَ سياسة دولة، سواء لليهود أو “للنساء الساقطات“، ومع انتشار الانتقاد لازدواجية المعايير (فكان يتم إذلالُ النساء اللاتي كنّ على علاقة برجال من اليهود علانيةً، بينما كان يتمّ غضّ البصر عن الرجال ممَّن كانت لهم علاقة بنساء يهوديات)، ومع نفور الشعب الألماني من طقوس “القرون الوسطى” التي عملت على إذلال الجيران، فقد أمر هتلر بوقف عمليات “قص الشعر، والعرض العلني، والوصم بالعلامات”، أي أنه كان حتى للنازيين حدودٌ عند استخدام المتع القديمة لآلة المشهرة.

إعلان

ومع مرور الوقت، تمّ حظر ضرب الطلاب أو إهانة المدرسين لهم، إلا أن ظهور ثقافاتٍ فرعية للأقران، وأشكالٍ جديدة لتكنولوجيا الإذلال، وبخاصةٍ الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، فقد أدّت إلى فتح حلبات جديدة للعار. فعملت منظّماتٌ شبهُ مستقلةٍ جديدةٌ للشباب، من جماعاتٍ أخَوية، وإعادة تنشيط القديم منها – كما حدث في بعض المدارس الإنجليزية الحكومية على سبيل المثال – عملت على وضع طقوسٍ مبتكرة ولكن أكثر قسوةً للذل، لتمييز مَن ينتمون للثقافة الفرعية ومَن لا ينتمون. كما أن بعضَ أشكال الإذلال المُجنْدر (أي المعرّف من خلال النوع الاجتماعي)، وبخاصة الاغتصاب، لا زالتْ تمارَس بشكل واسع، ومنها على سبيل المثال الحروبُ التي دارت في يوغوسلافيا السابقة. كما تُقدم فريفيرت أيضًا مسحًا لطرق جديدة للإذلال المضاد، بما في ذلك أنواع من الدعاية التي تولدها حركة (MeToo – أنا أيضًا) للتعديات الجنسية، وأشكال الإذلال الذاتي العلنية التي تحدُث على شاشات التلفزيون، والتي تعتمد في نجاحها على التشهير بالتراضي للمتبارين. ثم نجد الذل كأداة للسياسة الخارجية، فكان القيصرُ ويلهلم الثاني قد أصرّ على أن المبعوث الصيني، الذي كان من المفترض أن يأتي إلى برلين، أن يقدّم “كفارة” عن مقتل السفير الألماني خلال عملية تمرد الملاكمين.

وقد رفض المبعوث الخضوع، وعمل المجتمع الدبلوماسي العالمي على إقناع القيصر بقبول أمرٍ أقلّ وطأةً. إلا أن الأخير رفض، حيث إنه رأى أنّ التنازل عن حق المطالبة بالإذلال قد يمثّل استسلامًا للمناشدات البريطانية، وفي النهاية، تمكّن أحدهم من إقناعه بحجة أن التملّق إنما هو شكلٌ من أشكال الدنَس الذي لا يليق لأمّة مسيحيةٍ القيامُ به. وتلفت فريفيرت انتباهنا أيضًا إلى التوازنِ القياسي الدقيق بين الذلّ في مجابهة إثمٍ ما والخزي، وبين العار باعتباره (ورعًا righteous)، والعار باعتباره (تحقيرًا abject).

فعندما خرّ المستشار الألماني ويلي براندت راكعًا أمام نصب ناثان رابوبورت لانتفاضة وارسو، اعتبر الكثيرون ذلك علامة مؤثرة من علامات التوبة والتكفير عن جرائم النازيين في بولندا: أي أنه تقمص العار الذي أصاب أمة أجرمت في حق أمة أخرى. أما في داخل ألمانيا، فقد اعتبرت الصحافة المحافظة الأمر بأنه إذلال قومي وحركةٌ انفعالية غير ملائمة سياسيًا، ووصف اقتراحه بالتقارب الدبلوماسي مع بولندا بأنه “معاهدة عار“.

وتوضح فريفيرت أن البشر غير قادرين على التعايش دون عار، مهما تمّ إساءة استغلال هذه العاطفة البدائية أو رفضها لصالح بدائل أكثر تهذيبًا – منها على سبيل المثال العقلانية. ولكن يمكن للمرء أن يصف العار كما يتم وصف النفاق: إنه إطراء الرذيلة تجاه الفضيلة. فللغالبية منه، يمثّل العار شعورًا يمكننا الاستغناء عنه: “ألا تخجل من نفسك؟” ليست بكلمات نحب سماعها. ولكن في ضوء أن بعضنا يعيش في بلد وصلت الوقاحة فيه إلى أعلى المراتب، فإنه ينبغي علينا أن نرحب بهذه القدرة على الشعور بالخجل والعار، فمع غيابه تنتصر الغطرسة.

نرشح لك: خلاصة كتاب الآراء والمعتقدات غوستاف لوبون

المصدر
 https://literaryreview.co.uk/the-sense-of-shame

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: سامر كنجو

ترجمة: ليلى أحمد حلمي

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا