الناطوري كارتا ويهود الفلاشا ” انهيار إسرائيل من الداخل ” الجزء الثاني
هل تتحقق نبوءة المسيري
بعد أن تعرفنا في الجزء الأول على نشأة إسرائيل نتيجة لتلاقي المصالح بين مؤسسي الصهيونية وعلى رأسهم هرتزل وبين الدول الغربية التي تضررت من وجود اليهود بينهم مثل إنجلترا مما أدى لصدور وعد بلفور . وتعرفنا أيضًا على عدم تجانس الشعب الإسرائيلي وعلى الخلافات الاجتماعية والثقافية الكبيرة بينهم، نقوم في الجزء الثاني بعرض المزيد من المشكلات التي تقابل المجتمع الإسرائيلي من نقص في عدد يهود العالم علاوة على اندماجهم في مجتمعاتهم والتخلي عن أسطورة الشوق الأزلي لصهيون، ومشكلة التهرب من الخدمة العسكرية. وفي النهاية نقدم الحل من وجهة نظر الدكتور المسيري لمقاومة هذا العدو.
عالم آخذ في الاندثار
نشرت جريدة يديعوت أحرنوت ( في عددها الصادر في 20 إبريل 2000 ) مقالاً بقلم سيفربلوتسكر بعنوان ” عالم آخذ في الاندثار ” وكلمة ” عالم ” هنا تشير إلى ” عالم اليهود ” . وإذا كانت أعضاء الجماعات اليهودية قد واجهوا في نهاية القرن التاسع عشر مشكلة تزايد أعدادهم فإن الآية قد انعكست تماماً في القرن العشرين حتى وصلت حد الأزمة في الوقت الحاضر. ومن المعلوم حدوث طفرة سكانية بين الجماعات اليهودية بدأت بعد مؤتمر فيينا عام 1815 م وكانت الجماعات اليهودية في شرق أوروبا تعد من أهم الجماعات من الناحية العددية. ولكن رغم استمرار أعدادهم في التزايد إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى إلا أن العوامل التي أدت إلى هذا التزايد اختفت تماماً، كما ظهرت عناصر لم يكن من شأنها تشجيع اليهود إلى الإنجاب بل وأدت إلى تناقص أعدادهم.
ومن أهم هذه الأسباب تصاعد معدلات العلمنة، مما يعني تزايد معدلات التوجه للذة، والعزوف عن الإنجاب. وهذه الفترة هي ما يعرف باسم فترة “ الهجرة اليهودية الكبرى ” ( من شرق أوروبا إلى الولايات المتحدة ) . والعناصر المهاجرة – بسبب عدم استقرارها – تتخذ موقفاً حذراً من الإنجاب.
وقد أشار يوريا إنجلمان في كتابه ” ظهور اليهود في العالم الغربي ” ( 1944 م ) إلى ما سماه العملية ذات الأبعاد الثلاثة ( تناقص المواليد وتزايد الوفيات وتزايد معدلات الاندماج ) التي ستؤدي إلى تفسخ السكان اليهود بالكامل وحذر من أن نسبة المواليد لا تعوض نسبة الوفيات وأن معدلات المواليد بين اليهود في شرق أوروبا ( قبل الهجوم النازي عليهم وعلى غيرهم من الأقليات ) وصلت نقطة الخطر. وهناك توقعات متشائمة من منظور صهيوني. فيذهب صمويل لايبرمان ومورتون واينفيلد إلى أن عدد يهود الولايات المتحدة سيصل إلى 3.9 ملايين عام 2070 م . أما إلياهو برجمان ( بمركز هارفارد للدراسات السكانية ) فهو أكثر تشاؤماً إذ يرى أنه حينما تحتفل الولايات المتحدة بعيدها المئوي الثالث ( 2076 ) لن يتجاوز عدد اليهود 944000 ( أي أقل من مليون ) مع ملاحظة أن كلمة ” يهودي ” يتلاعب بها الديموغرافيون اليهود حتى يزيدوا من أعداد يهود في العالم .
نقص عدد المهاجرين لأرض الميعاد ( الاضطرار ليهود الفلاشا )
بعيداً عن الحيل الصهيونية لابد أن نذكر أنفسنا أن إسرائيل جيب استيطاني ، يقوم بوظيفة عسكرية وهي الدفاع عن مصالح الغرب في المنطقة ، وقد وعد القائمون على المشروع الصهيوني بتقديم المادة البشرية اللازمة للقيام بهذه المهمة ، وبالتالي يكون تدفق هذه المادة عليها أمرا أساسياً وجوهرياً بالنسبة لها . ومن المفارقات الكبرى أن توسع الجيب الاستيطاني جعله في حاجة ماسة إلى المستوطنين للقيام بعمليات الاستيطان والتجارة والقتال . ولكن – على الرغم من ذلك – نجد أن يهود العالم محجمين عن الهجرة إلى إسرائيل ، فهم في حالة سعادة غامرة في بلادهم .
يعيش في العالم حالياً 13.2 مليون يهودي من بينهم 8.9 يهودي % 63 في أنحاء العالم و 4.9 مليون يهودي % 37 في إسرائيل . ورغم أن عدد يهود الولايات المتحدة يبلغ الآن خمسة ملايين ونصف مليون فلم يهاجر منهم عام 1999 م سوى 1323 وهذا الرقم أقل من عدد مهاجري العام الذي يسبقه 1556 ( الجيروساليم بوست 25 فبراير 2000 )
ولذا اضطرت الدولة الصهيونية الاستيطانية لحل أزمتها السكانية بأن تلجأ لتهجير الفلاشا ، وهم جماعة صنفها علم الأنثربولوجيا الغربية على أنهم جماعة شبه يهودية . ثم سمحت بهجرة مئات الآلاف من المهاجرين اليهود السوفييت التي تعلم مسبقاً أنهم ليسوا يهودا أصلاً . ( ترى بعض الأوساط الدينية اليهودية في إسرائيل أن عدد غير اليهود بين المهاجرين السوفييت يبلغ حوالي % 50 ) وفي التماس قدمه بعض اليهود السوفييت ( الجيروساليم بوست 10 إبريل 2000 ) ذكروا أن عدداً ممن هاجروا ليسوا غير يهود وحسب وإنما هم من أعداء اليهود واليهودية ( أعداء السامية ) . وأنهم هاجروا لتحسين مستواهم المعيشي ومن هنا انغماسهم في أعمال الجريمة ( من دعارة وتهريب مخدرات وفرض إتاوات ) وقد طالب الملتمسون بتعديل قانون العودة حتى يتسنى منع مثل هؤلاء من الهجرة إلى إسرائيل .
ويرى الصهاينة أنه لكي يهاجر أعضاء الجماعات اليهودية يجب أن تكون هناك عناصر طاردة في مجتمعاتهم ( والصهيونية تعيش على الكوارث كما قال أحد المفكرين المعادين للصهيونية ) كما يجب أن تشكل إسرائيل بالنسبة لهم عنصر جذب . ولكن أعضاء التجمعات الكبرى لليهود في الأرجنتين ( أقل من مائة ألف ) وجنوب إفريقيا ( أقل من مائة ألف ) وفرنسا ( 541 ألف ) لا يعيشون في بلاد طاردة لليهود ، ولذا لو قرروا الهجرة منها فسيكون ذلك لتحسين مستواهم المعيشي ، وبالتالي ستكون هجرتهم للولايات المتحدة أو كندا أو أستراليا ، وهي بلاد تشكل عناصر جذب ليهود العالم . وقد ازدادت أزمة إسرائيل الاستيطانية تفاقماً مع اندلاع الإنتفاضة . وجدير بالذكر أن تقلص أعداد المهاجرين هو تقويض للادعاءات الصهيونية . الذين أحاطوا الهجرة الاستيطانية بهالات من القداسة ، التي من المفترض ألا تخضع لأية متغيرات تاريخية أو اجتماعية . والحقائق التي نراها تقول أن اليهود يتدفقون على الولايات المتحدة أكثر من تدفقهم على أرض الميعاد .
الهجرة المضادة والخروج من إسرائيل ( الدياسبورا الإسرائيلية )
النزوح عن إسرائيل يسمى في المصطلح الصهيوني ” يريداه ” أي ” النزوح ” وهي بذلك عكس الهجرة إلى إسرائيل ” عالياه ” أي الصعود . ويطلَق على النازحين عن إسرائيل “ يورديم ” أي ” الهابطين ” أو ” المرتدين ” . وعدد النازحين عن إسرائيل منذ عام 1948 م يبلغ ما يزيد عن 700 ألف وقد يصل إلى مليون ( فأعداد النازحين أمر سري ) . وقد حدا هذا ببعض الصحف الإسرائيلية إلى الإشارة لهذه المفارقة ، وسمتها ” الخروج من صهيون ” .
وكان قرار النزوح من قبل يعد جريمة أخلاقية وخيانة للمبادئ الصهيونية ولكنه أصبح مقبولاً اجتماعياً ، حيث يظهر بعض النازحين على شاشة التلفزيون الإسرائيلي ليتحدثوا عن قصص نجاحهم . ويطلق على هؤلاء النازحين مصطلح ” الدياسبورا الإسرائيلية ” وهو مصطلح يسبب الحرج الشديد للصهاينة ، لأن الحركة الصهيونية حركة تهدف إلى ” جمع المنفيين ” من اليهود ولم شتاتهم ، وما يحدث بالفعل أن هذه الحركة هي تصدير لليهود مما أدى إلى ظهور دياسبورا جديدة ، وهذا ما لم يتوقعه مؤسسوا الدولة الصهيونية .
وهناك شكل آخر من أشكال النزوح الداخلي ، إن صح التعبير وهو نزوح سكان المستوطنات في الضفة الغربية إلى فلسطين المحتلة عام 1948 م ( فيما يسمى الخط الأخضر ) . وأصبحت المستوطنات لا تشكو من قلة المستوطنين فقط بل أصبحت أكثر إقفاراً بعد نزوح المستوطنين حتى أن بعضها يسمى ” مستوطنات الأشباح ” وبالإنجليزية Dummy settlements .
الفرار من العسكرية
تخلع الأيديولوجية الصهيونية القداسة على الجيش حتى أنه وصف بأنه القداسة بعينها . وقد وصف بن جوريون الجيش بأنه خير مفسر للتوراة ، فمفسر التوراة هو وحده القادر على تعريف حدود إسرائيل . ومن ثم اكتسبت الخدمة العسكرية قداسة خاصة . وحتى فترة قريبة كان التطوع في صفوف قوات النخبة ( وحدة المظليين ) من الأعمال المرموقة . حتى إن هذه القوات كانت تضطر في الماضي إلى الاعتذار لعدد من الراغبين في التطوع لوجود ما يكفيها من العناصر وقد سجلت حالات انتحار في الماضي من جانب الشباب الذي كان لا يستطيع الالتحاق بالقوات المسلحة . غير أن الوضع قد تغير ، وقد لوحظ مؤخراً انصراف الشباب من المستوطنين الصهاينة عن الخدمة العسكرية ، بل الفرار منها . فأشار إسحاق مردخاي ( وزير دفاع سابق ) إلى أنه قد طرأ انخفاض حاد على مستوى الاندفاع والرغبة القتالية في صفوف الشباب الإسرائيلي .
وفي أحد الاستطلاعات صرح ثلث الشباب الإسرائيلي أنه إن أُتيحت لهم الفرصة أن يتحاشوا الخدمة العسكرية الإجبارية لفعلوا ذلك . ويعتمد الجيش الإسرائيلي على نظام الاحتياط فيقوم باستدعاء جنود الاحتياط ، وقد لوحظ أن حوالي الثلث يتغيبون . ويطلقون الآن في إسرائيل على الذين يؤدون خدمة الاحتياط الكلمة العبرية ” فرياريم ” والتي تعني البلهاء . وقد ظهرت حركة شبابية في إسرائيل تسمى ” بروفايل جديد ” وهي حركة مستقلة تأسست في أكتوبر 1998 م وهدفها العمل على إلغاء التجنيد الإلزامي . ويشير عدد من أعضاء الحركة إلى أن إحدى المشتركات في أنشطة الحركة هي روني بن عامي قرينة شلومو بن عامي ( وكان من أهم الوزراء في حكومة باراك ) . ويمكن أن نشير هنا إلى أحد أبطال التهرب من الخدمة العسكرية هو أفيف جيفين ابن شقيقة موشى ديان . ويعد من أشهر المغنيين الشباب في إسرائيل ، ويقال أنه يشبه في ملامحه وحركاته مايكل جاكسون .
ومن الأسباب الأخرى التي تشجع على الفرار من الخدمة العسكرية النقاش الدائر حول مسألة تجنيد طلبة المدارس الدينية . فعند إعلان الدولة تم إعفاؤهم من الخدمة العسكرية ، تحت ضغط الأحزاب الدينية ولكن عددهم حينذاك كان لا يتجاوز 400 . ولكن عام 1997 م كان عددهم يزيد عن 2900 . ومع تزايد علمنة المجتمع الإسرائيلي وتزايد استقطابه بدأت أصوات الاحتجاج على هذا الوضع تتزايد .
أفول نجم الصهيونية
تساقطت وتفككت كثير من بنود الإجماع الصهيوني حتى إن دارسي الكيان الصهيوني يذهبون إلى أن الصهيونية لم تعد هي الأيديولوجية التي تهدي المستوطنين في سلوكهم ولم تعد هي الإطار الذي يدركون العالم من خلاله . ولعل أكبر دليل على هذا هو الفتور وعدم الاكتراث تجاه المؤتمرات الصهيونية . انظر على سبيل المثال ما حدث في المؤتمر الصهيوني الثالث والثلاثين الذي عقد في القدس في ديسمبر 1997 . وصل عيزرا وايزمان رئيس دولة إسرائيل وبنيامين نتنياهو رئيس الوزراء متأخرَين عن موعدهما . ولم تُعر الصحف الإسرائيلية المؤتمر اهتماماً كبيراً ، ونُشرت أخباره في مقابل صفحة الوفيات . وفي المؤتمر الثاني والثلاثين الذي عقد في القدس في يوليو 1992 م أحس الجميع بأن ” المولد الصهيوني ” قد أوشك على الانقضاض ، وأن المنظمة الصهيونية أصبحت ” عظاماً جافة ” و ” هيكلاً بدون وظيفة ” وقد تساءل مراسل الإذاعة الإسرائيلية : ” هل مازالت هذه المؤسسة قائمة ؟ ” .وقد أثيرت في الآونة الأخيرة شكوك قوية من جانب كثير من القيادات والتيارات الصهيونية حول جدوى المؤتمرات الصهيونية ومدى فاعليتها . إذ يرى الكثيرون أن المؤتمرات تحولت إلى منتديات كلامية وأصبحت عاجزة عن مواجهة المظاهر المتفاقمة للأزمة الشاملة للحركة الصهيونية ودولتها ، والتي تتمثل في مشاكل النزوح والتساقط واندماج اليهود في مجتمعاتهم والزواج المختلط والتمايز بين اليهود الشرقيين واليهود الغربيين ، بالإضافة إلى انفضاض يهود العالم عن الحركة الصهيونية مما يكرس عزلتها . ومن أبرز الدلائل على تلك الأزمة أن المؤتمرات الصهيونية المتتالية لم تفلح حتى الآن في الاتفاق على حل لمشكلة من هو اليهودي ومن هو الصهيوني ، رغم أنها تأتي دائماً في مقدمة الموضوعات المطروحة على جدول الأعمال في المؤتمرات المختلفة .
هل ستنهار إسرائيل من الداخل من تلقاء نفسها
الإجابة على هذا السؤال ستكون بالنفي القاطع للأسباب التالية :
1 – مقومات حياة التجمع الصهيوني لا تنبع من داخله وإنما من خارجه ، فهو مدعوم مالياً وعسكرياً وسياسياً من الولايات المتحدة والعالم الغربي والجماعات اليهودية فيه ، ولذا فهو لا يمكن أن ينهار من الداخل .
2 – يتسم المجتمع الإسرائيلي بالشفافية وبالتالي حينما تتضح ظواهر سلبية فإنه يقوم بدراستها والتصدي لها أو التكيف معها .
3 – توجد مؤسسات ديمقراطية وعلمية يمكن لكل قطاعات السكان في التجمع الصهيوني أن يقدموا الحلول من خلالها.
ما الحل ؟
إن القضاء على الجيب الاستيطاني لا يمكن أن يتم إلا من خلال الجهاد اليومي المستمر ضده ، وما نذكره من عوامل تآكل في التجمع الصهيوني هي عوامل يمكن توظيفها لصالحنا ، كما أنها تبين لنا حدود عدونا وأنه ليس قوة ضخمة لا تقهر كما يحاول البعض الترويج لذلك ، لكنها في حد ذاتها لا يمكنها أن تودي به أو أن تؤدي لانهياره . ولكن اجتهاداً في قراءة الحقائق يؤكد أن الجهاد ضد العدو ضرورة لسقوط نظرية الأمن الإسرائيلي المبنية على العنف والتي أثبتت فشلها . فكان في قناعة الإسرائيليين أن استعمال القوة سيحقق الانتصار النهائي و الأمن الدائم وأن العمليات العسكرية السريعة الإجهاضية ستحقق كل شئ . وكان هذا الوضع سائداً حتى عام 1967 م حين وصلت الانتصارات الإسرائيلية ذروتها. ولكن بعد بضعة شهور وجد الإسرائيليون أنفسهم في حرب استنزاف مع عدوهم المهزوم ، الأمر الذي دعا المؤرخ الإسرائيلي يعقوب تالمون للحديث عن ” عقم الانتصار ” . ثم جاءت حرب 1973م والعبور العظيم ، وبعدها جاء غزو لبنان ، وهو ” انتصار إسرائيلي ” آخر عقيم جعل الإسرائيليين يتحدثون عن ” المستنقع اللبناني ” الذي غرقوا فيه . ثم أخيراً اضطروا للانسحاب من الجنوب اللبناني في جنح الظلام ، ثم هناك انتفاضة عام 1987 ، وأخيراً انتفاضة الأقصى، وحينها استخدمت القوات العسكرية الإسرائيلية في حرب المواطنين العزل .
نرشح لك: إسرائيل الأخرى :أولى الفرص الضائعة لتفادى نكبة الشعب الفلسطيني