هل الحب فن؟

منهج الوقوع في الحب عند ايريك فروم.

“الحب حيوات تتوالى وأحوال تتحول دومًا
وإن لم يتجدد يتبدد، وإن لم يتطور يتحجر وعجزت أجنحتُه عن التحليق
فيصير فينا كصخرة ترسخ فوق القلب فتؤلمه”
-فقه الحب.

معظم الناس يؤمنون بفرضية أن الحب تعويذة سحرية يمكن أن تُلقى كما ألقت أفروديت تعويذة الحب على فيدرا مثلًا، أو أنه شيء يقع فيه الإنسان، لكن إريك فروم يؤمن بشيء آخر، يؤمن أن الحب ليس ذلك الشيء السلبي الذي نقع فيه دون إرادتنا أو يأتينا ونحن جالسون على الأرائك. في كتابه (فن الحب the art of loving) الصادر سنة 1956، وهو استمرار لكتاب آخر (الخوف من الحرية)، يتناول فروم فيه جوانب مختلفة من الطبيعة البشرية لأنه شعر بالحاجة للخوض في مجال الحب. لكن قبل أن نبحر معه في فرضيته علينا أن نأخذ بعين الاعتبار السياق الاجتماعي الذي عاشه بعد الحرب العالمية الثانية حيث كان هناك فراغ كبير في القيم وأزمة وجودية أجبرت العديد من المفكرين والفلاسفة على إعادة اكتشاف وصياغة أفكارهم بشكل مختلف، لذلك نجد فروم يطرح رؤيته للحب على أنه فن كأي فن يحتاج إلى بذل جهد وإلى معرفة و ممارسة مستمرة وتخطيط، فطرحه لنا بشكل فلسفي على أنه مهارة يمكن أن تشحذ وأن تتطور أو تخفت وتنهار ويمكن أن يكتسبها أي شخص طالما يعمل بجد لفهمها.

لماذا نبحث عن الحب ؟

عندما يولد الإنسان فإنه يخرج من حالة تكون محدودة أو محدودبة إلى حالة تكون غير محدودة وغير يقينية أو يمكن أن نقول مفتوحة، وتُشعر الإنسان بالتيه حيث لا يوجد يقين إلا عن الماضي وعن المستقبل باعتبار هذا اليقين يقينا، يمكن أن نسمي هذا الشعور “بالانفصال” بعد أن كان الفرد متوحدًا مع أمه، مع جلدها وثديها وكل مكونات الطبيعة من حوله، يبدأ في النضج والوعي بأنه عاجز أمام قوى الطبيعة والوعي بأنه ولد دون مشيئته وسيموت أيضا دون مشيئته وأن حياته رغم اتساعها قصيرة وسجن لا يطاق، أي وعي بالانفصال، لذلك يسعى الإنسان للاندماج أو الاتحاد مع العالم الخارجي أو مع الناس وبالتالي يبحث عن الحب في العلاقات الإنسانية لأنه سيوفر له إحساس الاندماج من جديد وبشكل واعٍ أكثر.

يصف فروم تجربة الانفصال هذه في كتابه بأنها تجربة تثير القلق أو أنها في الحقيقة القلق بذاته، الانفصال يعني الكف والعجز عن استحواذ العالم رغم أنه يستحوذ علي ولا أستطيع أن أرد ذلك، وبجانب هذا فإنه يثير فينا نوعًا من الشعور بالعار أو الإثم، ويمكن أن نرى هذا الشعور في قصة آدم وحواء الإنجيلية بعد أن طردا من الجنة وتحررا من التناغم الحيواني أي بعد أن ولدا كبشر رأيا أنهما عاريبن وخجولين من ذلك.

لا يمكن أن نرى أن أسطورة كهذه ببدائيتها وقدمها تحتوي على أخلاقيات الاحتشام -وإن كان فهو ليس بموضوعنا الآن- إنما يمكن أن نراها كالتالي: بعد أن وعى كل من الرجل والمرأة بإنسانيتهما وعي كل منهما باختلافه عن الآخر أو بالأحرى أنهما أصبحا غريبين، إن إدراكهما لانفصالهما الإنساني دون الاتحاد من جديد عن طريق الحب ولأنهما لم يتعلما أن يحب كل منهما الآخر -حيث أن آدم بدأ بالدفاع عن نفسه ولوم حواء بدلا من التفاهم أو الدفاع عنها- وهو مصدر العار، هذا هو الوعي بالانفصال وفي نفس الوقت هو مصدر للقلق والشعور بالإثم.

إعلان

فالإنسان إذن يحتاج إلى قهر تلك الانفصالية طوال الوقت، وحسب فروم فالحب هو الطريق الأفضل لذلك، ويمكن أن نقول أنه يتفق في تلك النقطة مع ابن عربي في أن الحب هو الباعث للتجليات وهو الرابط بين مرتبة تَلْقى ومرتبة تَتَلقّى، ونموذج خروج آدم و حواء من ضلع آدم كان بسبب الحاجة إلى الخروج من أزمة الوحدة المطلقة.

إن هذه المشكلة هي مشكلة كيفية تجاوز الإنسان وحدته وكيفية الاندماج مرتبطة بموقف وحال الإنسان الوجودي لذلك يعاني منها الإنسان على مر العصور ومن جميع الثقافات، فنجد الإنسان بدلا من أن يحل مشكلته يلجأ ويسلك عدة طرق غير حاسمة بمعنى أنه يهرب، فيتعاطى المخدرات أو يمل أو يلجأ لهزة الجماع، بالفعل يغرق في غيبوبة ذاتية لا تشعره بالانفصال الحاصل بل وتخفي العالم من حوله مدة ليست بالقصيرة، وببطء عندما يبدأ القلق في البزوغ مرة أخرى يكرر فعل السُّكر وتعاطي المخدرات أو الجنس حتى يهدأ، يمكن أن يكون هذا جيدا في مجتمعات تقبل ذلك مثلما كانت المجتمعات البدائية فيها العربدة جزء من طقوسها الدينية، لكن الآن مع الحضارة والمجتمعات التي ترفض كل هذا وتحاربه بأشكاله يجد الإنسان نفسه يهرب من انفصاله ثم عندما يفيق يهرب من شعوره بالإثم والضغط والنبذ والانفصال مرة أخرى أيضا، فيكون مجهودا مضاعفا لأن لا شيء أشد نشاطا من الهروب حسبما أشار دولوز.

وهناك مسار آخر يمكن أن يسلكه الإنسان وهو الغرق في روتين العمل وبيروقراطيته التي تحدد له دور المشاعر المسموح بها ومتى يمكنها الظهور، أو أن يحاول تحقيق الاتحاد في العمل الإبداعي، أن يتحد مع خامته سواء كان نجارا أو نحاتا أو رساما حتى يصبح العامل وموضوعه شيئا واحدا وهو ما يطلق عليه فرويد التعلية النفسية أو الإعلاء، لكنها تظل ليست وحدة بين الأشخاص وتظل العربدة وهزة الجماع والسُكر حلا مؤقتا لكن حسبما يشير فروم فإن الحل الدائم والكامل هو الوحدة والاندماج الذي يكمن في الحب.

فيلجأ الإنسان إلى هذا الحل الأخير أو الوحيد بشكل مندفع وخاطئ وهو -ما يزيد الطين بلَّة- أن يبحث عن شخص ليندمج معه عن طريق أن يكون جذابا أو مرغوبا فيه شكلا وموضوعا، الموقف هنا أمامنا كالآتي أن الإنسان لا يجد مشكلة في الحب كموضوع أو أن يحب، بل مشكلته أن يكون محبوبا أن يحبه ويريده أحدهم، فيبدأ في خطط جعل نفسه ثريا وقويا ومثيرا، أن تكون محبوبا هو خليط من أن تكون جذابا ومقبولا، والجاذبية تتوقف على موضة العصر فمثلا في بداية الألفينات حتى وقت قريب كانت الفتاة الجذابة هي المحجبة المتدينة التي تتردد على المساجد وتحفظ القرآن مثلا، والآن الرجل الجذاب هو -الباد بوي- الذي تحمل ملامحه كل أشكال العداء والذكاء، ولأن الحضارة المعاصرة تقوم على الشراء والربح فإن تلك الصفات هي التي يسعى إليها الرجل والمرأة على حد سواء وإذا وجدا بعضا سيشعران بنشوة النصر والسعادة لأن معهما ما لم يستطع أن يحصل عليه أحد.

الوحدة والحب الوهمي

وهناك طريق آخر وهو ما ينزلق إليه الكثير أو للإنصاف ما انزلق فيه أي شخص مرة في حياته على الأقل وهو أن يجد شخصا ما، و يسمحا سويا للحائط الذي بينهما أن يسقط فجأة ثم يدخلان في علاقة ويشعران حينها بالقرب وأنهما قد أصبحا شيئا واحدا، أنهما وقعا في الحب أخيرا، والحق أقول أن هذا الشعور وهذه اللحظة هي الأشد انبعاثا للبهجة و تكون باعثة للدهشة أكثر والإعجاز بالنسبة للأفراد المنعزلين الذين بلا حب فيشعرون أنهم وصلوا أخيرا للجنة. وهي بالفعل الجنة أو شيء على هذه الارض يستحق الحياة كرؤية درويش لأول الحب، لكن هذا النمط من الحب لا يستمر بطبعه فيحدث أن يبدأ كل منهما في التطاحن بإيقاع سريع وأن تزداد معرفتهما ببعض أكثر وأكثر ويتشاركان همومهما وأوجاعهما وأفكارهما كلها، وتبدأ الإثارة في الخفوت ثم ينضم إليهما طرف ثالث وهو الملل ويبدأ في بسط نفوذه حتى تنتهي تلك العلاقة.

إن شدة الافتتان تلك تفهم لدى الطرفين على أنها حب شديد لكنها وفي الحقيقة دليل على وحدة كل منهما السابقة ليس إلا، يقول وجيه غالي في أحد رسائله لديانا أتهيل “أقع في الحب بكل يسر – غريب جداً، أي واحدة مقبولة جسدياً بالنسبة لي هي مرشحة لحبي.” هو يتخيل أن هذا هو الحب، الإثارة الجنسية و التقرب الفجائي هو الحب، خصوصا “أنه وحين يُقابَل حبه بحب يشعر بالنفور والتقزز من الطرف الآخر، وحينها يبدأ إما في التباعد عنها وإما إساءة معاملتها، حين تضجر الشريكة أو تبتعد عنه يهيم بها غالي على نحو أكثر توقداً وإلحاحاً ويبدأ في محاولة التودد إليها من جديد، إن تجددت العلاقة تتكرر الدورة”

يفسر إيريك فروم هذا بأن الاتحاد الجسماني يعني قهرا للانفصال الحادث للإنسان وليس مجرد شهوة فقط، فيمكن أن تستثار بسبب القلق من الوحدة أو بسبب الرغبة في أن تقهر أحدا أو تُقهر، الرغبة الجنسية يمكن أن تخلط بسهولة ويبعثها أي انفعال قوي، وهذه النوعية من العلاقات التي تقوم على أساس الاحتياج والرغبة الجنسية فقط تفقد مفعولها وسحرها وتتقلص مع مرور الزمن، ولما كانت الرغبة مقترنة في عقول الناس بفكرة الحب فهم يخطئون عندما يتوصلون أنهم يحبون عندما يشتهي أحدهم جسمانيا، وهو ما كان يحدث مع وجيه غالي وعلاقاته المتكررة بنفس النمط التي تنتهي بنفس النهاية، ليس وجيه وحده الذي سعى للحب بسبب الوحدة لكن حتى برتراند راسل سعى للحب في مرّته الثانية لكي يخفف الوحدة لأن هذه الوحدة الشنيعة حسب قوله هي التي تجعل الوعي المرتعش للشخص ينظر مِن على حافة العالم إلى الجحيم البارد المبهم الخالي من الحياة.

وهناك أيضا أشكال أخرى من العلاقات البائسة وهي العلاقات التي يطلق عليها اسم الاندماج التكافلي الذي يأخذ شكله البيولوجي الطبيعي مع الأم وابنها فهو يعتمد على الأم في كل شيء هي عالمه الوحيد، يعيشان معا متكافلين كأنهما شيء واحد، وهو أمر طبيعي لكن الوحدة التكافلية النفسية يكون فيها الجسدان مستقلين لكن سيكولوجيا هما شيء واحد، ونموذج الاندماج التكافلي السلبي هو الخضوع أو المازوخية إذا استخدمنا مصطلح سريري وهو أن يكون الشخص مرتبطا بأحدهم ويتحرك ويفكر ويتفاعل من خلاله فقط. وإذا تداخلت في النطاق أو الممارسة الجنسية فسيكون التكافل هنا ليس نفسيا أو عقليا فقط إنما جسديا أيضا، والشكل الإيجابي للوحدة التكافلية هو الهيمنة أو السادية وهي عكس المازوخية، كلا الشكلين غير ناضجين وغير مستقلين، كلاهما يحتاج الآخر بشكل مرضي ولا يستطيع العيش بدونه ليس لأنه يكمله لكن لانه يرى نفسه من خلال ما يفعله من أجله أو ما يفعل فيه منه.

“إن الحب نشاط وليس شعورا سلبيا، إنه الوقوف وليس الوقوع” هذا ما يحاول فروم قوله، إذا لم تستطع أن تضيف لمن معك ويضيف لك، أن تكون غارقا في العطاء ومسؤولا و تعمل بجهد لضمان استمرارية علاقتك، والأهم أن تحب نفسك حتى تستطيع حب الآخرين واستحقاق حبهم، إن لم يحدث كل هذا فهذا ليس حبا وإنما وهم.

-المصادر:
-فقه الحب، يوسف زيدان
-مقال: الحب طبقا لوجيه غالى. وائل عشري
-المرأة في خطاب الازمة(دوائر الخوف) نصر حامد ابو زيد

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: مي المغربي

تدقيق لغوي: بشرى مخازني

تدقيق علمي: مجد حرب

اترك تعليقا