جدتي التي لم تعرف أن كبدها يحتضر

أصيبت جدتي بالتهاب “الكبد الوبائي بي”، وهي دون الخمسين من عمرها، ومن ثَمَّ دخلت في مرحلة التليُّف. حاولت أن تتعايش مع الأمر، لكن غالبًا ما يتطور سرطان الكبد في المرضى الذين لديهم تاريخ من تليُّف الكبد، وخصوصًا مرضى فيروس التهاب “الكبد الوبائي بي”، على العكس من مرضى فيروس التهاب “الكبد الوبائي ج”، أو ما يُعرف بفيروس “سي”، حيث إن مريض “سي” يمكن أن يتعايش مع الفيروس لسنين دون أن يصاب بسرطان الكبد، لكن مع التهاب “الكبد الوبائي بي” الأمر مختلف، ففي أي لحظة من رحلة مرضه يمكن أن يصاب المريض بسرطان الكبد، وهذا ما حدث مع جدتي (1). بعد أطنان من الأقراص ابتلعتها، وحُقَن اخترقت جسدها، ومتابعة دورية لتطور حالتها، صرَّح لنا الأطباء بعد فترة قصيرة، أنها أُصيبت بسرطان الكبد، وأنها في مرحلة متأخرة منه، مرحلة أعقد من أن يُغيِّر أحد مسارها.

 دائمًا ما كان يجد الأطباء صعوبة في عملية التشخيص المبكر لسرطان الكبد، بسبب عدم وجود أعراض واضحة في المراحل المبكرة منه. لم تكن حالة جدتي الوحيدة التي شُخصَّت في لحظة متأخرة أو لم تعرف أن كبدها يحتضر، كان هذا هو العادي بالنسبة للآلاف من المرض، حيث يتم تشخيص أكثر من 60% من المرضى حول العالم  في مراحل متأخرة(2)، ربما جدتي كانت على علم بشكل حدسي؛ أن مرضها تطور. كانت تربط مُلاءَة السرير حول بطنها، من ألم شديد مفاجئ قبيل إعلان تشخيصها المتأخر بسرطان الكبد، كانت تردد أن هناك شيئًا بداخلها يموت، لكننا لم نفهم، والأطباء لم يجدوا ما يشير إلى عكس ما جاء في تقارير حالتها.

إن سرطان الخلايا الكبدية HCC، يعتبر خامس أكثر أنواع الأورام الخبيثة شيوعًا حول العالم، ويُعد السبب الثالث الأكثر شيوعًا للوفاة من السرطان، وسرطان الكبد الأولي، وبحسب آخر إحصائية نشرتها منظمة الصحة العالمية لسنة 2020، يوجد حوالي 27895 مصابًا جديدًا بسرطان الكبد في مصر، أي حوالي 20٪ من مرضى السرطان من سكان مصر يعانون من سرطان الخلايا الكبدية(3).

 أخر إحصائيات نشرتها منظمة الصحة العالمية حول عدد الإصابات بالسرطان في مصر لسنة 2020. 

كيف يتم التشخيص عادة

قبل أن يتم تشخيص جدتي بسرطان الكبد، كان يتم بشكل دوري تحليل مستوى الألفا فيتو بروتين في دمها، ولكن الأطباء-مرة أخرى- لم يجدوا أي اشارة على وجوده في أي مرحلة من المراحل التي سبقت تشخيصها بسرطان الكبد. “الألفا فيتو بروتين AFP” عبارة عن بروتين سكري، يتم إنتاجه في الجسم عادة أثناء نمو الجنين وحديثي الولادة، عن طريق الكبد في الأسابيع من 12 إلى 16 من عمر الجنين، ثُمَّ تنخفض مستوياته بعد ذلك بسرعة. يتم استخدامه عادة كأداة للتشخيص المبكر منذ عام 1964، حيث اكتشف العلماء العَلاقة بين ارتفاع تركيزه في الدم وبين تطور عدد من الأمراض الخبيثة، أبرزها سرطان الكبد(5).

 لكن الدراسات أثبتت أن الألفا فيتوبروتين يفتقر إلى الحساسية والكفاءة المطلوبة للتشخيص والمراقبة الفعَّالة للتغيُّرات الخبيثة التي تحدث في الكبد، ذلك أنه يكشف على ما يقرب من 70% فقط من حالات سرطان الكبد، حيث إن ثلثي المرضى لا يوجد في أجسامهم هذا البروتين، حتى عند إصابتهم الأكيدة بسرطان الكبد، مثل ما حدث تمامًا مع جدتي، أيضًا التشخيص عبر تقنيات التصوير بالرنين المغناطيسي، أثبتوا عدم حساسيتهم الكافية للكشف المبكر عن سرطان الكبد، وعدم كفاءتهم من الناحية الاقتصادية لشريحة كبيرة من المجتمع.

إعلان

 كل هذا كان يشعرني بالإحباط، الإحباط الذي زادت حدته، ليس فقط عند معرفتي بأهمية الكشف المبكر في حالات سرطان الكبد، لأنه وِفق الدراسات، فإن المرضى الذين يتم تشخيص إصابتهم بسرطان خلايا الكبد مبكرًا، لديهم معدل بقاء على قيد الحياة لأكثر من خمس سنوات، وعلى النقيض بالنسبة للمرضى الذين تم تشخيصهم في مراحل متأخرة، فإن معدل بقائهم على قيد الحياة يقل عن خمس سنوات(4)، لكن أيضًا بسبب  تفكيري في الشريحة الأكبر من المجتمع، التي لا تقدر على أن تكشف بشكل دوري عن وجود أو تطور السرطان في جسدها، تخيلت أنه ربما كلهم يربطون مُلاءَة سرير حول الأماكن التي تؤلمهم في أجسادهم ويبلعون أطنانًا من المُسكِّنات، أو أنهم لا يشعرون إلا في المرحلة التي تأتي بلا أي حلول، سوى انتظار الموت بهدوء.

تحليل البول كمنقذ جديد

إن التعايُش مع التهاب وتليُف الكبد، يُعقِّد التشخيص المبكر لسرطان الكبد، مع عدم كفاءة التقنيات المتاحة، لذلك كان هناك حاجة ماسة إلى شيء أكثر حساسية تجاه الخلايا السرطانية، يملك القدرة على التمييز بين سرطان الكبد وتليُّف والتهاب الكبد بشكل سريع وفعَّال.

لكن هناك فريق دولي بقيادة باحثين من إمبريال كوليدج لندن، توصَّل إلى حل مذهل، يتعلق بالكشف المبكر عن سرطان الكبد عن طريق تحليل البول(6).

وفق الدراسة التي نشرتها دورية  إنترناشونال جورنال أوف جنرال ميديس International Journal of General Medicine لعام 2017

 توصَّل الباحثون إلى طريقة للكشف عن المؤشرات الحيوية التي تميز الخلايا السرطانية، من خلال البول بواسطة الكشف بالرنين المغناطيسي النووي 1H-NMR. حيث تُوضِّح الدراسة أن لكل خلية سرطانية أيض يخصها ويميزها عن باقي الخلايا السليمة، مما يُسهِّل التعرُّف عليها، أيضًا لأن البول سائل حيوي مستقر، فإنه مناسب لإظهار عمليات التمثيل الغذائي في الخلايا، وأشارت الدراسة أن الوصول إلى عينات البول يُعَد سهلًا ومُرحَّبًا به من قِبل المرضى، ولا يحتاج إلى تدخل جراحي أو حقن كما في تحليل الدم. كما أنه مناسب من الناحية الاقتصادية، مقارنة مع التكلفة والوصول إلى تقنيات التصوير، التي تُعَد إشكالية في الدول النامية. 

وتشرح الدراسة الجديدة عمل هذه التقنية، حيث يتم برمجة الجهاز على تسليط طاقة مغناطيسية بمقياس معين تجاه الذرات الموجودة بعينات البول، التي بدورها تحتوي على أطياف مغناطيسية مميزة تخرجه كلما تم تسليط طاقة مغناطيسية عليها، عندما يلتقط الجهاز رد فعل الذرات يقوم بتحليل طيفها، وبسهولة يمكن التعرُّف على: إن كان داخل هذه الذرات ما يخص أيض الخلايا السرطانية أم لا؟

من جانبها صرَّحت الطبيبة “الزهراء الخطيب” -مدرس مساعد في معهد الكبد القومي – أحد المشاركين في الدراسة، أن جهاز الرنين المغناطيسي النووي  1H-NMR  تم اكتشاف أهمية استخدامه في المجال الطبي، الذي له عَلاقة بالأيض، عن طريق الصدفة، ذلك أنه يتم استخدام الجهاز في تحديد الخواص الفيزيائية والكيميائية للذرات أو الجزيئات التي تضمها فقط، فيما سبق.

واستطردت “الخطيب”: أن هذا الجهاز متاح في مصر، لكن تصنيعه وتجهيزه مكلف للغاية، ولا يمكن أن تُفحَص عليه عدد العينات الكبير التي تحتاجه، مثلما كانت تفعل في إمبريال.

إن خطة الدراسة المستقبلية، بعد أن يتم التحقُّق وإجراء فحوصات في مناطق جغرافية مختلفة، هي أن يكون الكشف المبكر عن سرطان الخلايا الكبدية متاحًا للجميع، عبر شريط يشبه أشرطة الكشف عن الحمل الموجودة في الصيدليات.

وأكدت “الخطيب” أيضًا أن الدراسة ستبدأ رحلتها التسويقية للمُنتَج الجديد، حالما يتم الانتهاء من مرحلة التصديق على الفاعلية، وصرَّحت أن المُنتَج يتم تحضيره مستقبلًا ليكون غير محصورًا على الكشف المبكر لسرطان الخلايا الكبدية فقط، إنما للكشف عن باقي أنواع السرطانات.

نتائج هذه الدراسة تعتبر مُبشِّرة في مجال الكشف المبكر عن سرطان الخلايا الكبدية، أهميتها تكمُن في أنها ستجعلنا نعرف بدقة وسهولة ما الذي يجري داخل أجسادنا قبل أن يحتضر جزء منا؟ سألت الطبيبة الزهراء الخطيب عن إن كانت العينات التي فحصتها فيها عينات بول من مصريين؟ فقالت: إن الجزء التقني كله من الدراسة حدث في معامل إمبريال كوليدج لندن، لكن العينات التي تم فحصها كان جزء كبير منها عينات بول من مصريين اختصارًا للوقت. ردها أشعرني بالارتياح، شعرت أن الحل قريب مني شخصيًا، ربما لو ما زالت جدتي على قيد الحياة، ومُصابة فقط بفيروس التهاب الكبد الوبائي بي، وتم تحليل بولها، كنا سنعرف إن كانت أصيبت بسرطان الكبد في مرحلة مبكرة من المرض، مرحلة تعتقها من ربط مُلاءَة السرير حول بطنها من شدة الألم.

المصادر:

Chen JD, Yang HI, Iloeje UH, et al. Carriers of inactive hepatitis B virus are still at risk for hepatocellular carcinoma and liver-related death. Gastroenterology.

2010;138(5):1747–1754. E1741
https://gco.iarc.fr/today/data/factsheets/populations/818-egypt-fact-sheets.pd
 Altekruse SF, McGlynn KA, Reichman ME. Hepatocellular carcinoma incidence, mortality, and survival trends in the United States from 1975 to 2005. J Clin Oncol. 2009;27:1485–1491. [PMC free article] [PubMed] [Google Scholar]

2. Siegel R, Naishadham D, Jemal A. Cancer statistics, 2013. CA Cancer J Clin. 2013;63:11–30. [PubMed] [Google Scholar]

 Tatarinov IuS. Detection of embryo-specific alpha-globulin in the blood serum of a patient with primary liver cancer. Vopr Med Khim. 1964;10:90–91. [PubMed] [Google Scholar]

https://www.dovepress.com/the-utility-of-biomarkers-in-hepatocellular-carcinoma-review-of-urine–peer-reviewed-fulltext-article-IJGM#ref14

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: مي المغربي

تدقيق لغوي: أمل فاخر

اترك تعليقا