السرطان: أعظم أسرار الطب

كنتُ في السابعة من عمري؛ عندما سمعتُ لأول مرة أحدهم يتحدث عن إصابة فلان “بالمرض الوحش”. لازمتني تلك الكلمة بل وأرّقتني، فما هو ذلك المرض الذي يصفونه دونًا عن غيره بأنه سيء؟ وهل هناك مرض غير سيء؟ أم أنّ هذا المرض قد فاقهم جميعًا فاستحق هذا اللقب؟

لجأتُ إلى البالغين طالبًا أجوبة، ولم أكن أعرف أنها أجوبة ثقيلة يحار فيها المتخصصون. تلقيت أجوبة عدة تباينت فيما بينها، لكنها اتفقتْ في شيء واحد كان جليًا حتى لطفل في السابعة، وهو أنهم جميعًا لا يعرفون عن ذاك المرض شيئًا، بل وأنهم حتى يتجنبون ذكر اسمه كما لو كان طاغية في الأرض.

“مرض الشرّ” عند القدماء

بَيْد أني لم أكن أول من أرّقه هذا اللغز، ففي نفس هذه البقعة من الأرض ومنذ 1600 ق.م كتب المصريون القدماء بردية إدوين سميث والتي شملت أكثر من 700 مرض وعلاج ووصفة شعبية والتي وصفوا فيها هذا المرض بل واقترحوا علاج سرطان الثدي بالكَيّ.

تَلتْ هذه البردية بردية أخرى هي بردية إبيرس والتي تحدثت عنه بأنه “مرض الشر” وأوصتْ في قسم علاجه بأن “لا تفعل شيئًا” كاستثناء وحيد في البردية. هل تحوّر اسم “مرض الشر” طوال القرون وعبر اللغات إلى “المرض السيء”؟ أربعة آلاف عام ولا يزال هذا اللغز يؤرق فتى في السابعة كما أرّق قبله الملايين.

تعرّف أبقراط على ذاك الوحش الكاسر وأسماه karkinos الكلمة اليونانية للسرطان، لأنه كان يعالج الورم باستئصاله كاملًا تاركًا مكانه محاطًا بالأوردة وكأنها أرجل حيوان السرطان.

إعلان

اقرأ معنا: حيلة الخلايا السرطانية للتَّملص من الجهاز المناعي

وحش يهيمن على كل الكائنات

ولكن هذا اللغز يسبقني وأنا في السابعة، ويسبق أبقراط الذي سبقني بأكثر من ألفي عام، ويسبق برديات المصريين التي سبقت أبقراط نفسه بألفي عام، بل ويسبق حتى وجود البشر. فقد درس العلماء عظام ديناصور تحفرت (استبدال المعادن في عظام الديناصور بمعادن من البيئة المحيطة حتى تتصلب) وتأكدوا بما لا يدع مجالا للشك أن هذا الديناصور كان مصابًا بسرطان العظام.

سيطرت الديناصورات على الكوكب منذ مائتي مليون عام! الحقيقة التي نعرفها الآن هي أنه لا يوجد أي فئة مستثناة من السرطان في المملكة الحيوانية. يبدو أن ذلك الوحش قد فرض هيمنته على كل الأزمان فلم يسلم منه أحد.

نظرة على مرض الشر

يشترك البشر والحيتان والقطط والديناصورات في سمة محورية، وهو أنها جميعا كائنات متعددة الخلايا أي أن الكائن يتكون من أكثر من خلية (على النقيض من الكائنات وحيدة الخلية). يوفر تعدد الخلايا مزايا لا تتوافر في الكائنات وحيدة الخلية، فعلى سبيل المثال يسمح بطول عمر الكائن الحي، إذ لا يموت الكائن متعدد الخلايا بموت أحد خلاياه، كما يسمح بزيادة حجم الكائن وبتمايز الخلايا والأنسجة لتقوم كل منها بوظائف مختلفة. كل هذا يعتمد بصورة أساسية على مهارة تمتلكها الخلايا وهي الانقسام الميتوزي.

انقسام الخلية

مثلما يفعل الساحر على خشبة المسرح فيحول الحمامة إلى اثنتين، تقوم الخلية بمهارة مشابهة لتتحول إلى خليتين متماثلتين. تحتوي كل خلية على المادة الوراثية ممثلة في الحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين DNA في صورة شريط مزدوج.

عند انقسام الخلية، ينفصل الشريطان عن بعضهما ليتم نسخ كل منهما لينتج أربعة أشرطة تزدوج في شريطين مزدوجين ليكون الناتج مضاعفة المادة الوراثية الأصلية داخل الخلية.

انقسام شريط الDNA

هنا تنقسم الخلية إلى خليتين تحتوي كل منهما على المادة الوراثية الكاملة. تسمح هذه المهارة السحرية لخلية واحدة بأن تتحول إلى آلاف وربما ملايين الخلايا والتي قد تتمايز لاحقا لتؤدي وظائف جديدة. قوة هائلة بالفعل، ولكنها –وكما في أفلام الأبطال الخارقين- تأتي بثمن.

السرطان ببساطة هو خروج عملية انقسام الخلايا عن السيطرة سواء كان ورمًا حميدًا (نمو محدد في مكانه) أو خبيثًا (له القدرة على غزو الأنسجة المحيطة والانتقال لأنسجة بعيدة). ولكي تظل عملية الانقسام تحت السيطرة، فإن جسم الكائن الحي مزود بسلسلة من احتياطات الأمان كما في المفاعلات النووية. السرطان هو ما يحدث عند فشل كل هذه الاحتياطات وخروج الأمر عن السيطرة.

يتعامل الجسم مع أي خلية خرجت عن السيطرة وبدأت الانقسام المفرط بتسلسل من خط دفاعي يبدأ بالإشارات التي تحث الخلية على الإبطاء يليها الموت الخلوي المبرمج )قتل الخلية حتى لا تتحول إلى ورم)، فإذا تحايلت الخلية على ذلك، فإنها ستواجه القسيمات الطرفية telomeres التي تقيد عادة عدد المرات التي يُسمح فيها للخلية بالانقسام. وإذا تحايلت على ذلك، فعليها تعلم استهلال عملية تولد الأوعية الدموية angiogenesis؛ أي إنبات أوعيتها الدموية الخاصة. هنا تبدأ في التهام الأنسجة المحيطة وقد تبدأ في بث النقائل لتنتقل إلى أماكن بعيدة.
قد يبدو الأمر كما لو كان مشهدًا من فيلم خيال علمي، تتمرد فيه خلية على النظام المنظم للخلايا، وتقرر أن تعمل لمصلحتها وليس لمصلحة الجسد كله، وأن تتجاهل إشارات الإبطاء ثم تتحايل على الموت الخلوي المبرمج، ثم تلتف على تصميم قسيماتها الطرفية ذاتها، ثم تعمل لمستقبلها وتستنبت أوعية دموية تغذي الورم، ثم تبدأ في النمو المطّرد ملتهمة الأنسجة من حولها، وقد تنفصل خلية من الورم لتنتقل مع الأوعية الدموية أو الأوعية الليمفاوية لتصل إلى مكان آخر بعيد وتبدأ ورمًا جديدًا في مكان جديد! إلا أنه –ولسوء الحظ- فالأمر واقع وليس خيالًا.

من هنا نعرف مشكلة هذا المرض، فهو لا ينتج عن جرثومة تصيب الكائن الحي، بل هي خلية من الإنسان نفسه تتمرد عليه وتعلن العصيان وإدارة نفسها بنفسها. وهو ما يمثل تحديًا كبيرا في العلاج، إذ لا يوجد جرثومة إن قتلتها عالجت المرض، بل هي خلية وسط خلايا وما يقتلها سيقتل الخلايا الصحيحة.

ولكن ما الذي يدفع الخلية إلى التمرد؟ ما الذي حول عملية انقسام الخلية الجالبة للحياة إلى ورم جالب للموت والمعاناة؟

يتسبب التدخين في 90% من سرطان الرئة، إذ يحتوي التبغ على العديد من المواد المسرطنة (التي تسبب ضررًا للمادة الوراثية). قد تتسبب العدوى ببعض الفيروسات إلى الإصابة بالسرطان بطريقة غير مباشرة من خلال تدمير الخلايا مما يتطلب انقسام بأعداد كبيرة لتعويض الخلايا المدمرة مما يزيد من احتمالية السرطان (الطفرات). يُعد الإشعاع أيضًا من أهم مسببات السرطان إذ يدمر الإشعاع المادة الوراثية، كما هناك صلة وراثية تزيد من احتمالية حدوث السرطان لدى البعض. كقاعدة عامة فإن كل ما يتطلب انقسامًا خلويًا بأعداد كبيرة يزيد من احتمالية الإصابة بالسرطان.

مقاومة الشيطان

الوقاية خير من العلاج قاعدة ذهبية، خاصة إن كانت الوقاية من مرض الشر. وعلى الرغم من حمى المسرطنات والخوف من كل شيء التي سيطرت على أعداد كبيرة حول العالم خاصة منذ كارثة تشيرنوبل، فإن تجنب المواد المعترف بكونها مسرطنة هي فكرة جيدة بلا شك. التدخين هو العامل المشترك بين معظم الأمراض الكارثية والسرطان ليس استثناءً. تجنب الإكثار من شرب الكحوليات، وتجنب مصادر الإشعاع (مثل الأشعة) ما أمكن خاصة للعاملين بالمجال الطبي، وتجنب الفيروسات المسببة للأورام مثل الورم الحليمي البشري وفيروس بي وسي الكبديين. تشير الأبحاث كذلك إلى علاقة وثيقة بين السمنة وبين السرطان تصل إلى 35% من وفيات السرطان.
أما عن العلاج، فلا يزال الاستئصال الجراحي (بعد ألفي سنة من أبقراط) هو الخيار الأول في علاج الأورام وهو ما يُعتبر علاج لكل أنواع السرطان (نظريًا) عدا سرطان الدم، ولكن ميل السرطان إلى غزو الأنسجة المحيطة والانتشار بعيدًا يحد من فاعلية الجراحة. العلاج الكيميائي والعلاج الإشعاعي هما الخياران التاليان للجراحة واللذان يحققان نتائج جيدة غالبًا وإن كان لهما أعراض جانبية ثقيلة.

اقرأ أيضًا: تشيرنوبل.. هل مازالَ يقتلُنا؟!

عن المستقبل

لا يوجد مجال تُنفق فيه أموال وتُقدم له الساعات المديدة من الجهد أكثر من علم الأورام، وهو ما أدى إلى ظهور علاجات موجهة جديدة واعدة مثل العلاج المناعي والعلاج الهرموني ومثبّطات تكوين الأوعية الدموية واستخدام الموجات فوق الصوتية. مع كل بحث جديد، تبدو نهاية صراعنا مع هذا الشيطان قاب قوسين أو أدنى. وكما انتهت صراعات البشر مع الحمى الإسبانية والطاعون، هل تنتهي مع السرطان قريبًا؟ هل كما انتهينا من الملاريا التي تسببت في أكثر وفيات عبر التاريخ (يُقدر أن نصف البشر الأموات تقريبًا، ماتوا من الملاريا)، ننتهي من السرطان؟ أم أنه –كالموت- جزء من الحياة؟
تعلمتُ الكثير عن “المرض الوحش” منذ السابعة، إلا أن الأسئلة في ذهني تضاعفت ولا يزال السرطان يؤرقني كما أرّق وسيؤرق الملايين. هل أعيش ليوم الفصل أم لا يزال في جعبة السرطان المزيد؟

نرشح لك: مراجعة كتاب يوميات السرطان حلّ أعمق أسرار الطب

المراجع: 
1. The cancer chronicles: unlocking medicine deepest mystery, by George Johnson
2. Cancer, World Health Organization:
https://www.who.int/en/news-room/fact-sheets/detail/cancer
3. What is Cancer? National Cancer Institute:
https://www.cancer.gov/about-cancer/understanding/what-is-cancer

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: عبد الله عرفة

تدقيق لغوي: بيان الحلبي

الصورة: مريم

اترك تعليقا