100 رسالة حب إلى أبي المُحتضر [1]

حدّثني أبي قبل يومين من عيد الميلاد بأنّه يفكر في إطلاق النار على نفسه. كان ذلك في شتاء عام 2014م، وكنّا بمفردنا في منزلِ الضيافة بجبال “بلو ريدج”. أتذكَّرُ كيف جرت قشعريرةٌ باردةٌ في جسدي حينها، وكيف جلستُ إلى منضدةِ القهوة أُحدّقُ إليه والدم يرنُّ في أذني.

كان مريضًا بالسرطان، وقد تدهوَرَت حالته تدهورًا ملحوظًا منذ أن رأيته في سبتمبر الماضي، لكنه لا يزال -وعلى الرغم من تخطّيه السبعين عامًا بأربع سنوات- طويلًا، ووسيمًا كما عهدته، بعينين زرقاوين زُرقةً زاهية كأنهما قطعتين من السماء، وشعر أبيض كَثّ يشبه فِرَاء ثعلب القطب الشماليّ، لكنّه خسر أكثر من ثلاثة عشر كيلو جرامًا من وزنه؛ فبرزت عظام وجنتيه، وكسا الفزعُ ملامِحَه، وقد أجبره الشعور بالغثيان وألم الظهر على البقاء في الفراش أغلب الوقت.

كنت أعلم أنّ أبي يفكر في إنهاء حياته منذ أن علم بإصابته بسرطان البروستاتا، وبتأخُّر حالته بدرجةٍ يستحيل معها العلاج. كنت أعلم أنه فقد الرغبة في الحياة منذ أن أصبح الألم لا يُحتَمَل. كنت أعلم، وأتفهم ذلك كله. لكنَّ فكرةَ السلاح كانت جديدة، وقد أصابتني بالرعب. أن يطلق أبي النارَ على نفسه يعني أن يموت وحيدًا، وأن يجده واحدٌ من أفراد الأسرة غارقًا في دمائه.

أتذكَّرُ عندما اجتمع بي وشقيقاتي في شهر أبريل من ذلك العام؛ لنناقشَ أمرَ تشخيصه بالإصابة بالسرطان. بدا متفائلًا على نحوٍ لافتٍ تجاه الموت. كان مطمَئِنًّا إلى أنه قد عاش حياةً طويلةً وزاخرةً، ويتطلّع إلى رؤية ما ينتظره في العالم الآخر. لكنه بيّنَ بوضوح عدم رغبته في قضاء أيامه الأخيرة في المشفى أو في إحدى دور الرعاية الطبيّة؛ فقد ارتاع لفكرة إطالة بقائه لبضع أسابيع اعتمادًا على مخدّر المورفين، قائلًا: ” إنها طريقة باهظة الثمن لتأجيل النهاية المحتومة”.

أراد أبي -عوضًا عن ذلك- البقاءَ في منزله في “فيرجينيا” مع شريكته، والقيام بما يحب من أمور، ممارسة المشي، ورعاية ممتلكاته الخاصة، وقضاء الوقت مع أصدقائه وعائلته، كما أراد أن يموت سريعًا ودون الشعور بالألم متى كان ذلك ممكنًا. حينها، سألَنَا أبي عن رأينا، ورجوناهُ ألّا يُقدِمَ على أيّ فعلٍ عنيفٍ، وقد وافق على ذلك، شريطة أن يتناول بعض الأقراص عند رغبته في إنهاء حياته. كما أردنا جميعًا أن نكون إلى جواره عندما يفارق الحياة، وقد وافق على هذه الفكرة أيضًا بدون تردُّد، قائلًا (وهو يحاول إبقاء صوته مبتهجًا قدر الإمكان بينما نحن نبكي): “سوف يكون بمثابة حفل وداع تتمنون لي فيه رحلة أخيرة سعيدة”. 

إعلان

 لقد تغيّرت القصة الآن.

قال أبي: “مشكلة الأقراص التي تشتريها عبر الانترنت أنّها لا تَحمِل ضمانًا”. لقد علِم أنّ عمل منظمة مساعدة المرضى المصابين بأمراض لا شفاء لها على الانتحار -المعروفة بـ “الموت بكرامة”- غير قانونيّ في ولاية فيرجينيا، وكشف بحثه حول أنواعٍ متعددةٍ من الأدوية القاتلة قصصًا مرعبةً عن جرعاتٍ خاطئة، ومكوّنات غير صحيحة، وحالات موت مؤلمة تستغرقُ وقتًا طويلًا؛ لذا قرّر أبي، الذي كان راميًا خبيرًا، أن السلاح هو الاختيار الأفضل، قائلًا: “إن أطلقت النار على نفسي، فلن أخطئ أبدًا”.

ولكوني ابنته، عانيتُ بشدّة من عنف هذه الفكرة، وبينما كنّا نتحدَّث، لم أتوقف عن التفكير في أنني أريده أن يموت وهو يشعر بالحب والسلام. لكنه رفض الاستماع لتوسلاتي إليه بأن يعيد التفكير في الأمر. كانت نظراته باردة خالية من الشفقة، ورأيت بعين خيالي رأسَ ثورٍ قويٍ وعنيد يرتسم كسحابةٍ فوق رأسه. قال لي: “إنها حياتي يا عزيزتي، وهذا الحل هو أفضل الخيارات المتاحة”.

لم أحظ قط بعلاقة هادئة مع أبي؛ فقد كنت أميل في صغري إلى الانعزال والقراءة، وكنت خرقاء نوعًا ما. بينما كان هو على العكس مني، منفتحًا رشيقًا، ومولعًا بالمنافسة، وكان خبيثًا بعض الشيء. عندما كنت في السادسة من عمري، انفصل عن أمي، وقد عانيتُ من التغيُّرات التي طرأت على نمط حياته بعد الطلاق؛ التباهي بعلاقاته الغرامية وزيجاته المتعددة، وأفكاره الفلسفيّة، والطريقة التي كان ينتقدني بها.

فيما بعد، توقَّف الاتصال بيننا لعدّة سنوات، لكنني لم أتوقف خلالها عن حبه، وكذلك هو. كلما اتخذت قرارًا بمقاطعته للأبد، أجدُني أتذكّر بعضًا من الأوقات الساحرة التي قضيناها معًا؛ ركوب الأمواج الجسدي في المحيط، أو صيد الأسماك في منطقة إيفرجلادز، أو اصطياد الكركند بشواطئ مدينة كي ويست. وفي السنوات الأخيرة، وبقليل من الاستشارات النفسية الممتازة، وتبادُل اعتذارات في محلها، تحسَّنَت قدرتنا على تنحية خلافاتنا جانبًا.

لكنني لم أستطِع قبول تهديد أبي بإطلاق النار على نفسه. أعتقدتُ أن الخوف هو المحرك لهذا العنف، وأن العنفَ في جوهره ما هو إلا صرخة استغاثة لطلب المساعدة.

عند نقطةٍ معيّنةٍ، خطر ببالي أن كل ما عليّ فعله هو إيجاد طريقة تجعل أبي يشعر بأننا نحبه؛ فربما إن شَعَرَ بالحب، لن ينسانا في لحظاتِ ضعفه، ولن يُقدِمَ على القيام بما تحثُّه عليه أحلكُ دوافِعِه. ذلك المساء خطَرَتْ لي فكرةٌ بدَت بسيطة بساطة طفولية، وسخيفة حقًا. سوف أرسلُ له يوميًا رسالة حب. في صباح اليوم التالي، أرسلت البريد (الإيميل) الأول، ووضعتُ في خانة “الموضوع” العنوان التالي: “الأسباب التي تجعلني أحبك”. 

السبب الأول: لأنّك علّمتني مدى روعة العواصف الرعدية.

لم يحب أبي في حياته شيئًا أكثر من عواصف فلوريدا الرعدية الهائلة، بصوتها المُدمدم، ولم يكن هناك ما هو أكثر متعة من الركض معه في أرجاء المنزل وسحب النوافذ لغلقها، حينما تُظلم السماء، وتهبُ الرياح، عندها تَبرُقُ عيناهُ كأنهما شرارتين، بينما يصيح “يا فتى! يا رفاق! العاصفة قادمة”.

ما إن أرسلتُ تلك الرسالة حتى شعرت بأهمية ما أفعله؛ لذا تابعتُ إرسال رسائل صباحية تتضمّن كل واحدةٍ منها سببًا مختلفًا من أسباب حبي لأبي على مدار 99 يومًا. تنوّعت الرسائل بين السخيفة والرائعة، من ذكريات الغوص معًا عبر سربٍ من أسماك الملاك في مدينة جوبيتر، إلى محاكاته التي لا مثيل لها لعبارة بطة أفلام الكرتون الشهيرة، دافي داك “يا منجي من المهالك!” !Sufferin’ succotash. ومن اليوم الذي علّمني فيه أنا وشقيقتي ركوب درجاتنا الوردية، إلى اليوم الذي صاح فيه فخرًا عندما بيعت أول رواية لي.

تذكّرتُ كيف كان يستمتع برائحةِ صابون “الربيع الأيرلندي” irish spring، وكيف كان يؤرجحني بين يديه في الصباحات الجميلة، وهو يصيح “ياله من يوم رائع، أليس كذلك يا عزيزتي؟”. وأهمّ ما أتذكره هو قول أبي بأن الحياة هي التجربة أكثر من أي شيءٍ آخر، بمعنى أننا نحيا لكي نختبر العالم من حولنا، لا لكي نمتلكه أو نختبئ منه.

يمكنني القول بأنّ فكرتي قد نجحت، أتبين ذلك في صوت أبي عندما أتحدث إليه عبر الهاتف، وأشعر به في رسائل الامتنان التي يرسلها ردًا على رسائلي. لقد أعادته رسائلي اليومية بأسباب حبي له إلى الحياة.

ولكن ما لم أتوقعه هو ما فعلته بي هذه الطقوس اليوميّة، فقد تبيّن لي أنك لا تستطيع أن تُرسل لأحدهم كل يوم أحد أسباب حبك له لمدة مائة يومٍ دون أن تقع في حبّه من جديد. لقد فَتَحَت كلُّ ذكرى أرسلتُها بابًا جديدًا في قلبي، أنستني الجوانبَ المُظلمة في علاقتي بأبي، وجعلتني أرى كم كان أبي -في أفضل أحواله- شخصًا مرحًا، وكريمًا، وضحوكًا. تبدو فكرة الرسائل بسيطة، وقد كانت كذلك بالفعل، لكن ما جعلتني أشعر به لم يكن بسيطًا، لقد كان معجزة.

لم يناقشْ أبي معي مرةً أخرى خططه حول كيف ومتى سيموت، ولكن عندما تحدّثتُ إليه عبر تطبيق “سكايب” في عيد الميلاد من ذلك العام، بدا نحيلًا على نحوٍ مخيف. وفي مطلع شهر يناير، أرسلَتْ شريكتُهُ رسالةً تخبرني فيها أنه لم يعد يستطيع تحريك قدمه اليسرى. سرعان ما فقد قدمه اليمنى أيضًا، ولم يعد يستطيع المشي على الإطلاق. أعتقد أن تلك كانت الإشارة التي ينتظرها أبي.

في اليوم التالي، عادت شريكته إلى المنزل، ووجدته في فراشه. تنام قِطته مُلتفّة على نفسها بجواره، أما هو فلم يكن يتنفس، لقد توقف قلبه عن العمل، وفارق الحياة.

بعد بضعة أيام، في فيرجينيا، وجدتُ نسخةً مطبوعةً من إيميل متبادل في مكتب أبي، توضِّح بالتفصيل شراء أبي لمادة الباربيتورات barbiturate (مادة مهدئة تُستخدم في الانتحار) من شركة في الصين، معها مظروف صغير به آثار مسحوق أبيض. وضعت الورقة مطوية داخل نسخة من كتاب“The Peaceful Pill Handbook” (يعرض معلومات عن الانتحار، والقتل الرحيم الطوعي)، بجواره مقالة كتبتها امرأة مصابة بنوعٍ مميتٍ من السرطان لا يمكن علاجه، تشرح فيها كيف ساعدها الكتاب على التخطيط لموتها بكرامة. داخل الكتاب طُوِيَت صفحةٌ تصف مادة الباربيتورات، و بقلم أحمر اللون وضع أبي خطًا تحت الكلمات: سريع، غير مؤلم، آمن.


[1]رابط المقال الأصلي: https://www.wsj.com/articles/my-100-الانتحارlove-letters-to-my-dying-father-11578756313 

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: سلمى عصام الدين

ترجمة: هدير أحمد

اترك تعليقا