مشتركات الإسلام الحركي الشيعي والسني

الإسلام الحركي مصطلح تمييز لجزء كبير من أدبيات وممارسات تنظيمات الإسلام السياسي عن أدبيات وممارسات «العوام» وأي آخر -بالنسبة لهم- للإسلام، بغرض تفعيل «زعم» الموديل الإسلامي، الإسلامي الحركي قد يكون تنظيميًا أو غير تنظيمي تقيةً أو غير تنظيمي فعليًا.

مع الزمن والتجربة تُكون الإسلامويات الحركية سردياتها التاريخية «المسيرة الربانية» الخاصة بها، التي بغض النظر عن مدى خطأ أو دقة أو ميتافيزيقية منطلقاتها التاريخية تكون في الغالب مُتماسكة يقينية جاذبة دراميًا.

تحت مظلة الإسلام الحركي موديلات إسلاموية منها اثنين ذواتا موقع رئيسي «ووارف» على غيرهما: موديل «ولاية الفقيه» الشيعي الإمامي الإثنا عشري والموديل «الإخواني» السني، بالتأكيد الصفة المذهبية من شروط تصنيف كل منهما، لكن هذا لا يعني أن أيًا من الموديلين لم تتجاوز أدبياته وتأثيراته عباءة المذهب.

فمثلًا بدون جهد يذكر في التقصي والتحليل يمكن شهود تأثير -على الأقل- أدبيات الإخوان المسلمين «السنة» على حزب الدعوة «الشيعي» العراقي، لدرجة ادعاء بعض المعممين الشيعة وجود القرضاوي في المتن عند الدعويين مقارنةً بالوجود الهامشي وحتى الشكلي للسيستاني، لأن الأول حركي أو منتمي أكثر -بحسب أدبيات الصدريين- لروحية «الحوزة الناطقة»[1]، أما الثاني فهو المرجع الأعلى في «الحوزة الصامتة»، تأثر حزب الدعوة بالإخوان منطقي لأن الحزب أُسس عام ١٩٥٧ ولم يكن في الساحة الشيعية موديل حركي.

بعد رجوع الخميني من آخر منافيه في نوفل لوشاتو بفرنسا إلى إيران -وقد يكون قبلها بقليل- أطلق محمد باقر الصدر -واحد من ثمانية أسسوا حزب الدعوة- صرخته الأشهر «ذوبوا في الإمام الخميني كما ذاب هو في الإسلام»، تخلى الرجل -أي الصدر- عن اتجاهاته العقلانية الإصلاحية النقدية بشكلٍ أو بآخر، وصار في لحظة تحقق أيدولوچي -لحظة غير مأزومة- إسلامويًا حركيًا عاطفيًا راديكاليًا يدعو لما هو أكثر من الطاعة والانقياد، يدعو للذوبان، لانسحاق الفرد المطلق في سبيل الأيدولوچيا. في مايو من نفس عام «انتصار الثورة الإسلامية في إيران» ١٩٧٩، وإطلاق الصدر لصرخته، اجتمعت أمانة سر التنظيم الدولي للإخوان في سويسرا، قرروا تشكيل وفد من قيادات الجماعة لزيارة إيران للتهنئة، وإصدار كُتيب عن إيجابيات الثورة الإيرانية، وبناء صلات بين حركة الطلبة في إيران والاتحاد العام للطلبة المسلمين التابع للجماعة.

إعلان

هناك -في رأيي- إذن مشتركات جوهرية بين موديل ولاية الفقيه وموديل الإخوان، لها عدة أسس منها:

١- كما ذكرنا تجاوز تأثر وتأثير كل موديل حدود عباءته المذهبية، مما خلق تنافسًا وتلاقحًا واقتباسًا، وتعاونًا وحتى اقتداءً، وبالطبع عداءً وصل للعظم عند تضارب المصالح.

٢- القراءة الميتافيزيقية لتاريخ الإمبراطورية الإسلامية وظروف نشأتها في القرون الوسطى.

٣- تناقض الإسلام الحركي، بين كونه «حركي» وبين زعم أن هناك طبيعة ثابتة جوهرية للإسلام فوق صيرورة التاريخ، وهذا الزعم بالمناسبة كان مطلبًا استشراقيًا بامتياز.

٤- القراءة الميتافيزيقية والتآمرية -وفي أحيان كثيرة- التبسيطية لأسباب التخلف ومتطلبات «النهضة»، ولتاريخ فترات ومحاولات الاستعمار ونشأة الدولة الحديثة وتطوراتها وانتكاساتها وللصراعات السياسية والاجتماعية والطبقية.

٥- سيطرة العقل الأيدولوچي داخل هذه الموديلات والتنظيمات على حساب إقصاء وتهميش العقل النقدي التفكيكي القلق.

٦- إهمال -وفي بعض الأحيان عداء- لنزعات «الأنسنة»[2] في التراث وفي إنتاجات الفكر العربي والإسلامي عمومًا، هذا الإهمال والعداء ليس بالضرورة عن عمد أو حتى عن جهل بها، بل هو بحكم التكوين والتربية داخل كل موديل.

قد نجد بعض من هذه المشتركات في هذه النقاط:

١- آلية أهل الحل والعقد متمثلة «مثلًا» في مجلس خبراء القيادة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، الذي يختار الولي الفقيه «مرشد» الجمهورية الإسلامية ولي أمر «المسلمين» داخل وخارج إيران، وعند جماعة الإخوان مجلس الشورى العام الذي يختار «المرشد» العام لكل فرد من أفراد الجماعة «أخ» في أي مكانٍ في العالم، لأن ساحات العمل هي كل العالم، العالم يجب أن يخضع أو سيخضع في النهاية لحاكمية الإسلام، فهذا -بنظرهم- وعد إلهي.

٢- العاصمة المركزية وقد تكون أكثر من عاصمة «شبيهة بعواصم الخلافة» التي تتبع لها الأطراف «الولاة»، والأطراف هنا أحزاب، كتل برلمانية، ميليشيات، هيئات صحفية وبحثية، الأمين العام، المراقب العام إلى آخره، أي أن تكوين الهيكل الإداري في جوهره مستوحى من التكوين القروسطي للإمبراطورية الإسلامية.

هنا مثال جيد ومركب نوعًا ما مهم ذكره:

في يونيو من عام ١٩٨٣ شكل الإخوان المسلمين في فرنسا اتحاد المنظمات الإسلامية UOIF، التابع لاتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا «مقره لندن».

الـ UOIF اتحاد المنظمات الإسلامية يضم ٢٠٠ جمعية في فرنسا، استطاعوا في عام ٢٠٠٣ اكتساح مقاعد المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، في عام ٢٠٠٥ وصفت المتخصصة في دراسة الإسلام السياسي الفرنسية المولودة في بيروت «فياميتا ڤينر» الـ UOIF بأنه «يشكل القاعدة الأساسية الخلفية لكل الأهداف السياسية لجماعة الإخوان المسلمين في البلدان العربية والإسلامية»[3].

٣- الولاءات الأيدولوجية فوق الوطنية.

ننقل نص كلام الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله «في مرحلة سابقة» لتنظيميي الحزب، من إحدى المحاضرات الداخلية:

«في الوقت الحاضر ليس لدينا مشروع نظام في لبنان، نحن نعتقد بأن علينا أن نزيح الحالة الاستعمارية والإسرائيلية، وحينئذ يمكن أن ينفذ مشروع، ومشروعنا الذي لا خيار لنا أن نتبنى غيره كوننا مؤمنين عقائديين هو مشروع الدولة الإسلامية وحكم الإسلام، وأن يكون لبنان ليس جمهورية إسلامية واحدة، إنما جزء من الجمهورية الإسلامية الكبرى، التي يحكمها صاحب الزمان ونائبه بالحق الولي الفقيه الإمام الخميني».

وكما نعرف فالولي الفقيه فتواه الشرعية في المسائل السياسية مُلزمة لأتباعه في أوطانهم.

٤- الهدف النهائي والغاية الأسمى هي إقامة إمبراطورية إسلامية قروسطية، خلافة مبنية على الحق الإلهي الصريح أو المؤول، أي على البيعة في نهاية المطاف.

كتب ابن خلدون في مقدمته:

«أعلم أن البيعة هي العهد على الطاعة، كأن المبايع يعاهد أميره -المرشد/ الولي الفقيه/ أردوغان- على أنه يسلم له النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين، لا ينازعه في شيء من ذلك، ويطيعه فيما يكلفه به من الأمر على المنشط والمكره».

٥- التقية والبراجماتية التكتيكية في مسار التمكين.

كإعلان اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا عام ٢٠١٧ -المذكور في النقطة رقم ٢- انفصاله عن التنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين، بسبب معلومات عن نية إدارة دونالد ترامب إدراج الجماعة على لائحة الإرهاب.

لاحظ أن كل هذا الموجود في لندن وغيرها مرتبط بالمركز بالقاهرة، مركز نشوء الدعوة، قد نشهد بشكل تنظيمي «صريح» نقل المركز من القاهرة لعاصمة أخرى -كما جرى نقل عواصم الخلافة من المدينة للكوفة لدمشق لغيرها- أو يستمر الوجود لأكثر من مركز/ عاصمة في نفس الوقت، كما كان الحال في تعدد مراكز/ عواصم الخلافة في حقب تاريخية سابقة، مع فارق أن تعدد مراكز الخلافة كان لسلالات حاكمة مختلفة، أما تعدد مراكز الإخوان سببه انهيار حكومتهم في القاهرة عام ٢٠١٣، فتبقى رمزية القاهرة مع الانتقال لغيرها كما بقيت رمزية دمشق عند الأمويين، وانتقلوا لعاصمتهم الجديدة في قرطبة. يجد الإسلام الحركي عزاءً ومرجعية في هذه التمثُلات التاريخية التي منبعها جميعًا التمثل بهجرة النبي من مكة للمدينة، وهذه ليست المرة الأولى التي «يهاجر» فيها الإخوان من «مركز الدعوة/ القاهرة»، حدث هذا بعد محاولتهم اغتيال جمال عبد الناصر في ٢٦ أكتوبر ١٩٥٤، نتج عن هذه الهجرة «الأولى» نتائج هامة وخطيرة ليس هنا مجالها.

٦- استخدام تنظيمات وآليات وأدبيات ومفاهيم سياسية واجتماعية حديثة، كالحزب، الانتخاب، مؤسسات الجمهورية، الدستور وخلافه.

٧- هيستريا تديين الصراعات السياسية بطبيعتها كرد فعل في لحظات الأزمة على شكل ثنائيات في الأغلب، هم والطاغوت، هم والشيطان الأكبر، هم «المستضعفين» ضد المستكبرين، هم «الحاكمية» ضد الجاهلية وهكذا، وبالتالي تكتسب هذه الصفات/ المصطلحات المستوحاة من النصوص المقدسة بعدًا «متجاوزًا» لظروف نشأتها التاريخية.

٨- السعي نحو سلالات حركية أكثر نقاءً أو ولاءً أو انغلاقًا أو صِفها بما تشاء، سلالات من نوع آخر -ليست حاكمة حتى الآن-، سلالات أيدولوچية وليست -فقط- بيولوچية، أو سلالات أيدولوچية مُعضدة بيولوچيًا بالزيجات ذات الطابع القبلي تنتظر يوم الفتح، فالأولوية للإخواني أو للإخوانية، الأولوية لابن خط الولاية أو لبنت خط الولاية، والسعي هنا لا يعني تحريم الزيجات التي لا تتفق مع هذه الأولوية وهذا الطابع.

يمكن أيضًا ضرب أمثلة من موديلات أخرى، في أغسطس ٢٠١٨ نشرت الجارديان خبر زواج حمزة بن أسامة بن لادن من ابنة محمد عطا قائد المجموعة التي نفذت هجمات ١١ سبتمبر، معسكرات أمهات وأبناء الدواعش داخل الأراضي السورية التي تمثل حالة كوزموبوليتانية فريدة من نوعها.

٩- شرعنة استخدام العنف في حالات النزاع السياسي وفق ما تقتضيه الضرورات، حدثت مواجهات مسلحة بين موديل ولاية الفقيه والموديل الإخواني داخل الأراضي السورية، واعتبر كل طرفٍ منهما قتلاه في الجنة، وكل منهما كان يستخدم  تكتيكات متشابهة/ مشتركة في حرب العصابات، والسبب أن حزب الله نقل هذه التكتيكات والخبرات لحركة حماس التي نقلتها بدورها للإخوان في سوريا.

إذا نظرنا لموديل ولاية الفقيه وللموديل الإخواني سنجد وقوع تجاوز عملي لجوهر الخلاف العقائدي الشيعي السني، المتمثل في أهم جوانبه بخلافة أبي بكر، الذي يرفض الإمامية خلافته لأنه غير معصوم، ولا يخلف المعصوم -النبي- إلا معصومًا منصوصًا عليه -علي- كما يعتقدون، وبالتالي ما كان لمن قبل ولاية -الخميني- أن يقبلها والمعصوم -محمد بن الحسن المهدي[4]– حي يرزق لكنه غائب لم يحن أوان ظهوره من جديد بعد، حتى ولو لم تكن تكوينية -أي ولاية الخميني- وكانت ولاية تشريعية فقط، لأن أهل السنة والجماعة لم يدعوا لأبي بكر أي ولاية تكوينية، وكما أنه لا يوجد نص على خلافة أبي بكر، لا يوجد نص على ولاية الخميني، ومن هنا يعتبر فقهاء ومراجع ومجتهدون شيعة أن نظرية «ولاية الفقيه» بدعة، وعلى الجانب الآخر كيف يفسر الموديل الإخواني اعتبار «الإمامة» من فروع الدين مع كل هذا السعي للدولة والحكم وأستاذية العالم؟ في حين أن موديل «ولاية الفقيه» أكثر اتساقًا مع ذاته إذ يعتبرها من أصول الدين والمذهب، أليس في هذا أيضًا -لو التفت إليه منهما- تجاوزًا عمليًا لجوهر الخلاف العقائدي الشيعي السني؟

هذا التجاوز الواقع عمليًا لا نظريًا أخذ ما يقرب من ١٤ قرنًا ليتبلور بشكل ما، وهو غير معترف به في كل الأحوال إلا فيما ندر، وقد وقع التجاوز لأسباب أبعد ما تكون عن العقلنة وطرح المسلمات للبحث الحر والمسائل للنقد.

كم ستأخذ إذن السلالات الأيدولوچية الإسلاموية الحركية وقتًا لنقد ذاتها وتفكيك مقولاتها وأدبياتها وسردياتها التاريخية ونزع القداسة عنها؟

وهل يمكن لعقل مؤطر بالأيدولوچيا أن يقوم بذلك حقًا بشكل علمي موضوعي غير دعائي أو مظهري أو حتى مبتور، يؤدي إلى إعادة إنتاج الموديل/ الكتالوج بتحسينات أو بشكل أقل تشويهًا؟

المصادر والمراجع
[1] الحوزة الناطقة مصطلح أطلقه محمد محمد صادق الصدر والد مقتدى الصدر، يقصد به الحوزة -وهي مكان دراسة العلوم الدينية عند المسلمين الشيعة الإثناعشرية- المتصدية للشأن العام في إطار فضفاض ألا وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
[2] نزعة الأنسنة في الفكر العربي هو موضوع أطروحة الدكتوراة للبروفسير محمد أركون التي حصل عليها من جامعة السوربون عام ١٩٦٨.
[3] راجع مقال «الإسلام الحركي قراءة في المنهج وطرائق التفكير» للباحث أحمد الإسماعيلي المنشور على موقع الأوان.
[4] الإمام الثاني عشر عند المسلمين الشيعة الإثناعشرية، صاحب الزمان، الذي سيعود من غيبته آخر الزمان كما يعتقدون، ليملأ الأرض قسطًا وعدلًا كما ملئت ظلمًا وجورًا.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: محمد الوزيري

تدقيق لغوي: سلمى الحبشي

اترك تعليقا