الديمقراطية.. عشبةٌ سامّة أو بذرةٌ صالحة؟

الديمقراطية في المجتمع العربي، وعلى عكس حقيقتها، لا تتجاوز كونها مفهوم يتشردق به اللاديمقراطيّون، كما يُستخدم من قبل السلطويّين على منباتِ الحداثة وأصالة الديمقراطية، وهذا التأطير ليس شاملًا أو معمّمًا بل مُحدَّد باستخدامات سلطة الحُكم المُتبني للخطاب الشعبوي المُنادي بالديمقراطية، وهذا بدوره قد عكسَ صورة سلبية عن مفهوم الديمقراطية وغايتها أو إمكانيتها لتكون حلًا يُراهن عليه، وجعلها أيضًا تبدو كأنها تعني حكم أيديولوجيّة الأكثرية على أيديولوجية الأقلية، أو حكم العدد لا غيره ودون اعتبارات أُخرى.

ولكن بالعودة إلى مفهوم الديمقراطية والتجربة الأوربية معها، نرى أنها بعيدة عن “الاستعباط” الحاصل في الساحة السياسية والثقافية العربية، وهذا كونها، وبدون شك، قضية معقدة أكثر من مفهوم العدد واحتكام الشعب لأفكار الأكثرية، ولا يجب تأطيرها على أنها شرط لتقدّم المجتمع بل يجب وضعها بخانة النتيجة، أو لنقل بخانة الحصاد لوعي المجتمع، وهذا بدوره يؤدي إلى الامتناع عن معاملتها كبذرة التطوّر الفكري قبل إصلاح، أو تنوير، أرض فكرية خصبة تُثمر بها الديمقراطية.

على سبيل المثال إن كان أغلبية المجتمع -حُكم الشعب- يؤمنون بصلاحية الإسلام السياسي، أو يدعمون الدين السياسي الشمولي، على أنه طريقٌ للبناء الفكري ووضع الحلول في المنطقة، سوف نحصد، وبشكل ديمقراطي في الظاهر، حكم يستند إلى فِكر مقدّس وأحادي “وغير ديمقراطي بجوهره، وخاصةً بعد استلام السلطة”، وهذا لأن البذرة -وعي المجتمع- سوف تُحصَد -بطريقة ديمقراطية استعباطية- ما زرعته أفكارها معتمدةً على العدد لا غيره ودون أية دراسات حقيقية للساحة السياسية والاجتماعية.

وبهذا الشكل من استلام الأحزاب الأحادية والشمولية لوسائل التعبير وحرية الرأي والمنهج التربوي لن تُستحدث قوانين مدنية تحفظ حرية الفرد واستقلاله الفكري، أو تُنفّذ الديمقراطية الليبرالية، أو الليبرالية الدستورية، أو ديمقراطية متمثّلة بالعلمانية، وبشكل أوضح لن يكون للفرد في المجتمع حق الاعتقاد والمساواة وحرية صندوق الاقتراع -لنحافظ هنا على نقطة حق الاعتقاد والمساواة لوقتٍ لاحق-.

ولأنه تحت رعاية المجتمع المصاب بداء التكتل الديني والمناطقي والفكر الطائفي، تستند الديمقراطية -حكم الشعب- إلى ميزان الأكثرية الدينية المعتمدة على أفكارها كمنهج اجتماعي صالح، دون قبول منهج علماني يفصل الدين عن السياسة، أو مدني يصيغ حقوق الفرد دون الاستناد للشريعة الدينية، أو حُرّ يقبل المشاركة السياسية العمومية، ومع العلم أن الديمقراطية قضية تتجاوز مفهوم التوجّه لصندوق الاقتراع قبل تنقيح العقل الذي يحمل ورقة الانتخاب، ومنه تحليل وعي وثقافة المجتمع والشعب الذي يحكم نفسه من خلال صندوق الاقتراع.

إعلان

وبهذا الشكل يكون الحصاد متجه نحو البذرة التي زرعها وعي المجتمع، وليس العكس كما تقول فرضية أن الديمقراطية حل ننطلق منه، ولهذا ربّما هنا يجب استبدال سؤال “هل تنفع الديمقراطية؟” نحو سؤال أكثر دقّة، وهو “هل هناك مكان للديمقراطية في مجتمع يُرهَّب ويؤدلج ويفتقد الاستقلالية أمام صندوق الاقتراع؟“، وهذا لا يتعلّق فقط بعلاقة الحكم مع الدولة وشمولية القرار واعتبارات الرقابة الدستورية على المجتمع، بل يتعلق، وبشكل موثَّق أكثر، مع علاقة الفرد بذاته؛ حيث أن الوعي الاجتماعي هنا “وليكن هذا الوصف لفِكر أغلبية أفراد المجتمع” يقع تحت سندان الطائفية والتعصّب الديني أولًا، ومثالب مؤسسة الأدلجة السياسية والتطبيع الفكري ثانيًا، ممّا يجعل منه فردًا غير ديمقراطي بطبيعته.

وبالتالي المجتمع بأغلبيته غير ديمقراطي ببنيته “إن استبعدنا الديمقراطية الإسلامية؛ حُكم الشريعة أو الاستناد عليها” بل ينقسم إلى:

  • توجه يحصل في الأنظمة الأمنية والانتهازية ويصب في مصلحة وأنانية الفرد على حساب غيره، وهو التصالح مع السلطة الحاكمة مقابل قوت عيشه والسلطة الجزئية {الدعم من الهرم السياسي+القيمة الاجتماعية المأجورة مقابل التطبيل للحكم}، وبهذا يخفّف من عبء تحمُّل مؤسساته الانتهازية والترهيبية الأمنية بعد أن يكون منها.
  • توجُّه يصب في طائفية الفرد والنهج التربوي، وهو نحو الدعوة لانتفاضة عقيدته الدينية بنبض يرفض اعتقاد الآخر، ويتلازم مع هذا التوجُّه الثاني، على عكس الأول، أنه لا يستند على أيّة اعتبارات سياسية أو ثقافية بشكل مُباشر، بل على تطابق اعتقاده الديني -غير الديمقراطي لأنه يرفض اللاعتقاد به أو مواجهته- مع اعتقاد التوجيه الجمعي، وهذا كله تحت ظل يستخدم ديمقراطية نزيهة حسبما يزعمون.

كما أنه في مجتمعنا إحياء روح النخبة المثقفة والنّاقدة هو أمر مرهون مع انهيار سلطوية العقائد الدينية والسياسية معًا، وكون هذه الرقابة المتأصلة تتوجّه ضد نُقّاد الثالوث المحرّم “الدين، السياسة، الجنس” في المجتمع، فإنها تكوّن رقابة إقصائية بفرعيّن اثنيّن:

  • الفرع السياسي القائم على تهميش وقمع الانتقاد أو التنقيح لمفاصل الحُكم وشموليته وأحاديته الحزبية، الأنظمة القائمة على الشمولية لكل المؤسسات، وشمولية الديمقراطية أيضًا، وقد يستحيل أن تؤخذ إشكاليات الديمقراطية بعين الاعتبار من قبل السلطة؛ لأن هذا تهديد مباشر للهرم السلطوي والشمولي الكامل الذي تستند عليه، ولهذا تكتفي بتعريفها المستند على العدد، ويبرعون في أدلجة هذا العدد كتيار داعم لهم.
  • الفرع الآخر هو الرقابة الشعبية، التي أيضًا تعمل على إقصاء وتهميش الانتقاد والتنقيح لمفاصل الحُكم الاجتماعي “الدين، والعادات والتقاليد”، ونتيجة ذلك يسود الخطاب الشعبوي “المستخدم من السياسية” فقط ليحطّ من قيمة الديمقراطية الحقيقية أمام نفسه وأمام الثوّار والفكريّين الجدد، والأمر هنا بالتحديد ليس فِكر ديمقراطي مستقل بل أدلجة وتهديد مباشر للثقافة، من أجل رسم خط ديمقراطية كاذب يتبنّاه خطاب السلطة من خلال قمع النقّاد لاستراتجية شموليته.

فالديمقراطية قبل أن تكون عشبة سامة أو بذرة صالحة، يعود الأمر للأرض التي تُزرع بها وكم هي خصبةٌ لإنبات الحداثة من خلالها؛ فإن كان لدينا حزب أحادي وشمولي فلا وجود لديمقراطية صحيحة، وإن كان لدنيا حزب ينتمي لأفكار متطرّفة غير ديمقراطية فلا مكان له للتنافس بساحة ديمقراطية نزيهة.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: مجد حرب

تدقيق لغوي: سلمى الحبشي

الصورة: مريم

اترك تعليقا