كيف نتصوَّر الزمان في حياتنا اليومية؟ (1) لـ محمد كرم اسماعيل

أنا أعلم ما هو الزمان إذا لم يسألني عنه سائل، أما إذا أردت شرحه لمن يسأل وجدتني به جاهلاً
القديس أوغسطين

نستطيع أن نتبيَّن إحساسنا البسيط بالزمان بأنْ نقول أنَّه قبل كتابة عنوان هذا المقال كان هناك زمان مضى لم يكن فيه المقال مكتوباً، ومنذ كتابة العنوان للآن والمقال يُكتب، وبعدما أنتهي من الكتابة في المستقبل سيكون هناك زمان المقال فيه مكتوباً. الزمان إذن شرط لكتابة المقال، والوعي به شرط لإدراك كاتب المقال. وعلى المستوى النظري؛ حتى نهاية الزمان تشترط الزمان؛ فإذا انتهى الزمان فذلك معناه أنه كان موجوداً في زمان من قبل وأصبح غير موجود في زمان من بعد؛ أي أنه لم يزل موجوداً، وبالتالي من المحالِ أن يتصوٌَر الإنسان نهاية الزمان كما أنه من المحال أن يتصور شيئاً بدونه. وفقاً لذلك نحن لا نملك الزمان؛ لكن الزمان هو الذي يملكنا. (1)

ربما علينا أنَّ نضيف إلى تعريفات كلمة “إنسان”؛ مثل “الإنسان حيوان عاقل” و”الإنسان حيوان اجتماعي” – أنَّ الإنسان “حيوان زماني بامتياز”؛ فرغم أنَّ الوعي بالزمان، كالوعي بالتاريخ، ليس فطرياً في عقل الإنسان – إذ لا يعيش الأطفال حديثو الولادة إلا في الحاضر، ولكل ثقافة ولغة تصورها المختلف للزمان – إلَّا أن الوعي الإنساني يتميز عن الوعي الحيواني بأنَّ الحيوان، حتى بعد تجاوزه للطفولة، لا يعي من الزمان غير الحاضر، لكن الإنسان، بعد تجاوزه للطفولة المبكرة، يعي الماضي بالتذكر والحاضر بالتأمًُل والمستقبل بالتوقُّع.

يقول “روي بورتر” في كتاب “فكرة الزمان في التاريخ”: “إنَّ الإنسان القديم قد سجَّل الماضي على الأحجار… وتوصَّل إلى دفن موتاه، وهو ما لا يفعله أي حيوان آخر، مما يؤذن بأنه يفكِّر في نوع من الوجود المتصل لهؤلاء الراحلين… وقد كان إنسان العصر الحجري يُدفَن عادةً في وضع الجنين، ربما لاعتقاد أنَّ الزمان دورة تعود مجدداً؛ دُفن هكذا في رحم أمنا الأرض انتظاراً لميلاد جديد. وقد حدث ذلك بالتعلُّم والتجربة؛ فقد دعت الضرورة الإنسان إلى تسجيل الحاضر لاستباق المستقبل والتحكم فيه”. (2)

الوعي المُكتسَب بالزمان إذن جوهرٌ يميِّز الإنسان عن الحيوان، ومن ثَم صح لنا أن نُعرّف الإنسان بأنه كائن زماني. لكن بم نُعرّف الزمان؟

يبدو هذا التساؤل مغايراً للسؤال الذي وضعناه عنواناً للمقال؛ إذ التساؤل “ما الزمان؟” يستهدف معرفة ماهية الزمان وجوهره المميز له عن غيره، لكن السؤال “كيف نتصور الزمان؟” فهو سؤال عن دلالات الزمان المعرفية والإيديولوجية؛ كيف يحاول الإنسان أن يعرف الزمان؟ وما التصورات الموضوعة في ذهنه عن الزمان؟ وفي كلمة واحدة: التساؤل “ما الزمان؟” يبحث في طبيعة الزمان، والسؤال: “كيف نتصور الزمان؟” يبحث في دلالة الزمان.

إعلان

ونقرأ في كتاب لعبة الحداثة بين الجنرال والباشا لعلي مبروك ما يلي: “حسب الأمثولة الصقلية هناك شيئان لا يمكن للمرء التحديق فيهما؛ هما الشمس والموت. ويبدو أنَّ الزمان يمكن أن يضاف إليهما أيضاً؛ إذ ما أن يتجاوز المرء الإحساس البسيط بالزمان إلى النظر في ماهيته والتأمل فيها، حتى يغشاه ما يغشاه المحدق في الشمس من زيغ وتيه… وترتبط هذه المفارقة بكون الزمان أحد أكثر المفاهيم ولوجاً من الميتافيزيقية؛ وذلك نتيجة لما فيه من طابع التفلُّت الذي يجعله يستعصي على أي محاولة للقبض عليه والإمساك به. وإذ يتأدَّى النظر والتأمِّل في ماهيته إلى هذا الضرب من الزيغ والتيه؛ فإن على المرء – خشية ذلك – أن يتجاوز النظر في الزمان إلى رصد الدلالات المتباينة لهذا النظر ذاته”. (3) 

ثمت تسليم إذن في الفقرة السابقة بالعجز عن معرفة طبيعة الزمان أو ماهيته، وثمت ميل فيها إلى رصد دلالات الزمان بدلاً من السعي لمعرفته موضوعياً، ربما لأننا لا نملك طبيعة الزمان ولا نملك المعرفة بها ولا نستطيع تغييرها؛ لكننا نملك دلالات الزمان تفسيراً وتغييراً. 

 ورصد دلالات الزمان هو أداة الإجابة عن سؤال: “كيف نتصور الزمان في حياتنا اليومية؟” ولنبدأ بالزمان في اللغة.

بما أنَّ الإنسان – حسب القديس أوغسطين – عاجز عن القبض على ماهية الزمان، فهو لن يستطيع تعريفه باللغة، فاللغة ستكون قاصرة بدورها عن تعريفه بما هي من صنع العقل البشري المحدود. وإذا كان العقل البشري – حسب إيمانويل كانط – محدود ولن يستطيع أن ينفذ إلى المعرفة الموضوعية بالشيء في ذاته، وفي الوقت نفسه لن يكف – رغم محدوديته – عن محاولة المعرفة، فالإنسان عاجز عن تعريف الزمان وفي الوقت نفسه لا يستطيع أن يتصوَّر شيئاً بدون الزمان بما هو شرط لإدراك العقل حسب كانط؛ والإنسان وقد عجز عن تعريف الزمان تعريفاً موضوعياً؛ لجأ إلى تعريفه بالاستعارة.

“إننا نلجأ عند العجز إلى التشبيه والاستعارة” هكذا قال حلمي حمادة في رواية “الكرنك” لنجيب محفوظ، وهذا صحيح؛ فالاستعارة تسمح لنا بالقبض على مظهر من مظاهر تصورٍ ما مستعصٍ على القبض عليه والإمساك به – وليكن الزمان – عن طريق تصوُّرٍ آخر قابل للقبض عليه والإمساك به – وليكن المكان أو المال أو الحركة – وهذا ما أوضحه “جورج لايكوف” و”مارك جونسون” في كتاب “الاستعارات التي نحيا بها”.

الزمان في اللغة والاستعارة

إذا قلنا: “جاءنا العيد” أو “مضى العيد”؛ فنحن قد اعتبرنا الزمان يتحرَّك أفقياً ونحن ثابتون؛ إذ تصوَّرناه شيئاً يأتي إلينا من الأمام ويعبر بنا إلى الخلف كأمواج نهر نقف فيه. وإذا قلنا: “نلتقي في العيد”؛ فإننا قد اعتبرنا الزمان ثابتاً ونحن نتحرك تجاهه أفقياً؛ إذ تصورناه على هيئة مكان خارجنا، على مسافةٍ منا، نتقدم إليه. وإذا قلت “لقد أنفقت الكثير من الوقت في الكتابة” أو “لقد كلفتني كتابة هذا المقال أسبوعاُ”، وإذا قال قائل: “وقتك ليس ملكك لكنه ملك لجهة عملك”، أو “شكراً لوقتك الذي منحتني إياه”، أو “ليس لدي وقت أخسره”؛ فقد تصوَّرنا الزمان على هيئة نقود مكلفة محدودة تُنفَق أو بضاعة ذات قيمة، محدودة الكمية، نستعملها لتحقيق أغراضنا. (4)

تولَّدت هذه التصوُّرات الأخيرة من استعارة “الزمن – مال”، وهي استعارة مشتقة من المثل الإنجليزي “الزمن مال” “Time is Money”. إنَّ مفاد المثل أعمق من الحث على توجيه الإنسان للأنشطة المفيدة لا الأنشطة عديمة الجدوى؛ إذ تأسَّس هذا المثل، في الثقافة الرأسمالية الإنجليزية والأمريكية، على تجربة مادية في الواقع؛ وهي ربط الأجور بعدد ساعات العمل، وتلك التجربة تخصُّ نمط الإنتاج الرأسمالي والثقافة الرأسمالية فقط، فالمال، والعمل المأجور المرتبط بعدد ساعات معين، هي تجارب جديدة نسبياً في تاريخ الجنس البشري، ولا توجد بشكل عام في جميع أنماط الإنتاج وجميع الثقافات؛ فتحت نمط إنتاج آخر، له ثقافة أخرى، ليس المال فيه هو الغاية ولا يتم فيه ربط الأجر بعدد الساعات؛ لن يُعرَّف الزمان بالمال. إنها ثقافة الطبقة المسيطرة هي التي تنتج تعريفاً للزمان بمفردات قاموس المال.

وبعدما صُنع تصوُّر الزمان على أنه مال من الواقع المادي الاقتصادي، في البناء التحتي، ثم صعَد هذا التصور عنصراً من عناصر البناء الفوقي في الثقافة؛ بات مستقلاً بشكل نسبي عن البناء التحتي، وصار ينتجه كما أُنتج منه ويؤثر فيه كما تأثَّر به. فهذا التصوُّر للزمان “يبنين بشكل عميق سلوكاتنا اليومية الأساسية؛ فلكوننا نتصرَّف كما لو كان الزمن شيئاً نفيساً ومورداً محدوداً، وكما لو كان مالاً، فإننا نتصوَّر الزمن بهذه الطريقة. وبهذا نفهم الزمن ونعيشه باعتباره شيئاً يُستهلك ويُصرف ويُقاس ويُستثمر بصورة جيدة أو سيئة، ويتم توفيره أو تضييعه… وهذه الطريقة ليست ضرورية لتصوُّر الزمن عند الكائنات البشرية، إنها فقط ملائمة لثقافتنا، وهناك ثقافات لا يتم تصور الزمن فيها بهذه الطريقة”. (5) 

في اللغةِ العربية نجد مفارقة في كلمتين تعبِّران عن الزمان وهما: التقدُّم والتأخُّر، وتكمن المفارقة في أن دلالتيْ الكلمتين مختلفتان عن استعمالهما الحالي؛ فنحن الآن نستخدم كلمة التقدم عندما نتحدَّث عن المستقبل والتأخُّر عندما نتحدَّث عن الماضي؛ لكنَّ دلالتي الكلمتين معكوستان في اللغة العربية؛ فدلالة كلمة التقدُّم تخصُّ الماضي ودلالة كلمة التأخُّر تخص الحاضر والمستقبل. “فالمتقدِّمون في الكتابات العربية الإسلامية الوسيطة هم أهل الماضي، والمتأخِّرون هم أهل الحاضر والمستقبل… إنَّ هذين اللفظين قد انعكس معناهما الاستعمالي في عصرنا الراهن؛ فالمتقدِّمون هم رجال المستقبل والداعون والعاملون من أجل التقدُّم والتطوُّر، على حين أن المتأخِّرين هم المتخلِّفون المتمسِّكون بالماضي”. (6)

نكتشف من خلال اللُّغة أنَّ تصوُّر الزمان في الثقافة العربية الإسلامية هو تصوُّر يرى الزمان يسير إلى التدهور لا التطور، ويعطي أفضلية للماضي على حساب الحاضر والمستقبل، أي أنه تصوُّر ارتدادي للزمان كما أسماه المفكِّر الماركسي “محمود أمين العالم”.

التصوُّر الارتدادي للزمان

أجمع جُلُّ مفكري الثقافة العربية الإسلامية وشعرائها – سواء كانوا مؤيِّدين للخطاب المسيطر داخل الثقافة أو معارضين له – على ذم الزمان. فهم على اختلاف تصوُّراتهم عن الزمان؛ سواء تصوروه أزلياً أم مخلوقاً، منفصلاً أم متصلاً – أجمعوا على تصوُّره باعتباره يسير إلى الأسوأ. فلا فرق جوهري بين تصوُّر الزمان الكامن في الحديث المنسوب إلى النبي “محمد”، الوارد في بخاري ومسلم: ” خير الزمان قرني ثم الذي يليه، ثم الذي يليه”، وبين تصوُّر الزمان عند الملحد الأشهر في الثقافة الإسلامية “محمد بن زكريا الرازي” الذي رأى أنَّ مسيرة الإنسان على الأرض مسيرة تدهورية. (7) الفرق الوحيد يكمن في أنَّ اللحظة المثالية التي بدأ بعدها التدهور عند الرازي؛ هي لحظة العدم، ما قبل نزولِ الإنسان إلى الأرض، وتجاوزها يكون بالحنين إلى العدم ثم الزهد في الدنيا، إلى أن يرتد المرء للعدم مرة أخرى، أما اللحظة المثالية في الحديث النبوي فهي القرن الذي عاش فيه النبي ثم قرن الخلفاء الراشدين، وتلك الرؤية التدهورية لا ترى سبيلاً إلى تجاوز التدهور إلَّٕا بالارتداد إلى تلك اللحظة المثالية، فحسب تلك الرؤية؛ المسلمون “المتأخِّرون” – أي اللاحقين على عصر النبي والراشدين حسب معنى الكلمة في اللغة العربية – لن يتجاوزوا التدهور، ولو نسبياً، إلَّا بالرجوع إلى تلك اللحظة “المتقدٌِمة” المثالية في قرن النبي أو على الأقل إلى القرن الذي بعده (قرن الراشدين) أو الذي بعده (قرن التابعين). يتفِّق في ذلك السلفيون والمستنيرون على السواء، مع فارق تجاوز بعض المستنيرين لعصر التابعين واكتفائهم بالعودة لعصر النبي والراشدين، مع نقد بعض ممارساتهم دون الانتقاص من قيمتهم وقيمة زمنهم. 

وكذلك أجمعت الأديان الإبراهيمية الثلاثة على تصوَّر تدهوري للزمان لا سبيل فيه إلى تجاوز التدهور إلَّا بالارتداد والمعاد؛ فكلمة معاد لها دلالة دائرية تعني العودة، فسيظلُّ الزمان إلى تدهور وانحلال حتى نهايته التي ستكون ذروة الانحلال – نرى ذلك في تصوُّر علامات الساعة وآخر الزمان في الأديان الإبراهيمية مثلاً التي سيعود فيها المسيح، أو المهدي المنتظر، لينهي الانحلال والشتات قبل نهاية العالم –  ثم يعود البشر إلى الله مرة أخرى في العالم الآخر المشمول بالأبدية، الخالي من الزمان، بعد أن خلقهم وأنزلهم إلى الأرض والزمان. 

إنَّ التصور التدهوري العدمي للزمان باعتباره سائراً للأسوأ أفرز التصوُّر الدائري للزمان باعتبار العودة للحظة مثالية سابقة ستؤدِّي بالضرورة للخلاص من التدهور. ربما تأسَّس التصور الدائري للزمان في عقل الإنسان من رؤيته لتتابع النهار والليل وللتتابع الدائري للفصول الأربعة (لذلك دفن الإنسان البدائي موتاه في وضع الجنين)، وربما تأسَّس التصور التدهوري للزمان من تجربته للشيخوخة والمرض والموت؛ لكن الواقع أن هذا التصور الارتدادي للزمان – الذي يشمل العلاقة المذكورة أعلاه بين التدهور والمعاد – هو الفكر المسيطر على الإنسان للآن، وهي إيديولوجيا الطبقة المسيطرة، التي لا يقع تحت أسرها الطبقات الأدنى منها فحسب؛ بل تقع هي أيضاً تحت أسر تلك الإيديولوجيا؛ فالمترفون من أبنائها وأبناء البرجوازية الصغيرة يكرهون الزمان ويهربون من الشعور به إلى التسلية والمتعة. وكذلك تكره الطبقات الأدنى أحوالها السيئة والزمان الذي يشملها، وفي ظنهم؛ الزمان هو الذي سبَّبَها (يتضِّح ذلك في الغناء الشعبي ومأثورات ذم الزمان). تختزل الإيديولوجيا كل التعقيدات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تسبِّب الأحوال السيئة للطبقات الأدنى في كلمة “الزمان”؛ فيعاتبونه ويناهضونه، فهم يدينون حركته المجرَّدة ولا يملكون أدوات مناهضة محتواه التاريخي، ثم يعزيهم الدين بقطيعة حتمية معه بالموت والعودة للأبدية مرة أخرى بعد عقاب السقوط في الزمن على الأرض، ويُقَدِّم لهم طرق تحضير النفس لتلك الأبدية، سواء بالزهد أو الثورة الدينية على تدهور “الزمان”، لا فرق طالما سنرتد إلى الخلف، سواء إلى عدم الأبدية الساكن في الآخرة أو تكرار لحظة مثالية في الدنيا.

على أساس حُكم المسلمين على لحظة هجرة النبي “محمد” من مكة إلى المدينة بأنَّها لحظة مثالية لانتشار الإسلام وتأسيس قوته؛ بدأ المسلمون حساب الزمان بدايةً من تلك اللحظة – حتى لو كان ذلك رمزاً؛ حيث إنَّ بداية التقويم الهجري لاحقة على لحظة الهجرة؛ لكنه سمي تقويماً هجرياً على أيِّ حال – واعتبروها بداية التاريخ حتى قيام الساعة. وعلى أساس حُكم المسيحيين على لحظة ميلاد المسيح بأنها لحظة مثالية؛ إذْ هي لحظة تجلي الإله على الأرض بإرسال ابنه للبشر ليخلِّصهم من خطيئة آدم الأولى وينقذهم من زمان الأرض التدهوري ليدخلهم ملكوت السماوات الأبدي – بدأوا يحسبون الزمان بدايةً من تلك اللحظة واعتبروها بداية التاريخ حتى قيامة المسيح (وقد سُميت نهاية التاريخ والزمان بالقيامة عند المسيحيين، والمسلمين أيضاً؛ فكلمة قيامة توحي بالعودة بعد الموت لا النهاية، فهي تمثِّل لهم العودة للأبدية الساكنة ونهاية حركة الزمان التدهوري). ويسير البشر عامةً بهذا التقويم الميلادي بشكل رئيس بجانب التقويم الخاص بأديانهم لو كانوا غير مسيحيين. وتلك التقويمات ليست حسابات مجرَّدة للزمان على أساس دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس ودوران القمر حول الأرض فحسب؛ بل أعطى الإنسان لها دلالة دينية تحمل رؤية تدهورية للزمان كما أسلفنا، وقد أنتجت تلك الرؤية بالتبعية تصوُّراً تدهورياً للتاريخ؛ فكل قرن خير من الذي يليه وكل حاكم أفضل من الذي يليه وكل جيل أفضل من الذي يليه وكلُّ فنَّان أفضل من الذي يليه.. وهكذا دواليك.

***

في عرف سكان العالم يتم حساب دوران القمر حول الأرض لتحديد الأشهر القمرية ودوران الأرض حول الشمس لتحديد الأشهر الشمسية، ولكي تلائم الأشهر القمرية الأشهر الشمسية يتم (تقويمها) بإضافة شهر مقوّم كل 32 شهراً قمرياً. لكن الأمور لا تسير بهذا الشكل عند المسلمين؛ فالسلطة الدينية قد ألغت في زمنٍ ما الشهر المقوّم. فسّر البعض هذا الإلغاء بأنه راجع لقراءة بعينها لآية ” إنما النسيءُ زيادةٌ في الكفر يُضلُ به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ليواطئوا عدة ما حرّم الله فيحلوا ما حرّم الله” الواردة في سورة التوبة في مصحف عثمان؛ فتلك القراءة تعتبر “النسيء”، وهو الشهر الزائد المقوّم للأشهر القمرية، مُحرَّماً، وتلك قراءة لأول جملة في الآية فقط. لكن قراءة أخرى لمجمل الآية تقول إن المحرَّم ليس النسيء، بل وضعه بشكل غير منضبط ولا منظّم “يحلّونه عاماً ويحرمونه عاماً” لمصالح ومكاسب شخصية “ليواطئوا عدة ما حرّم الله”، وبالتالي ستكون الجملة الأولى من الآية ” إنما النسيءُ – زيادةً في الكفر – يُضلُ به الذين كفروا” فتصبح الزيادة – بعد تحويلها من خبر مرفوع إلى مفعول لأجله منصوب –  في الكفر غير عائدة على الشهر المقوّم “النسيء” بل على التلاعب به لتحقيق أهواء شخصية، فهو لا يوضع عاماً ويلغى عاماً؛ بل يوضع كل 32 شهراً، أي كل ثلاثة أعوام إلا أربعة أشهر؛ لكي يأتي شهر ربيع الأول وربيع الآخر في الربيع، وجمادى الأولى وجمادى الآخر – وسميا بذلك نسبة للماء المتجمد – في الشتاء.. وهكذا حتى لا تدور الأشهر القمرية على شهور السنة الشمسية بلا تقويم وتفقد معانيها التي سميت بها. (8)

لكن لماذا تدور الشهور الهجرية على فصول السنة؟ لماذا لا يأتي شهر ربيع الأول وربيع الآخر في فصل الربيع؟ لماذا يأتي رمضان في وقت يصوم فيه مسلم في مصر 12 ساعة ومسلم آخر في دولة أخرى 22 ساعة؟ لماذا لا تقوِّم السلطة الدينية الإسلامية الأشهر الهجرية؟ ولماذا يُعتمَد مجيء شهر رمضان والعيد من السلطة الدينية (دار الإفتاء) وهم ليسوا بعلماء فلك؟ 

لا يرجع ذلك إلى علاقات السلطة فحسب، بل وأيضاً إلى التصوُّر المهيمن للزمان في الثقافة الإسلامية، وقد رأى بعض المستشرقين مثل “ماسينيون” و”لويس جارديه” أنَّ الزمان في الثقافة الإسلامية لا يتم تصوُّره مدةً متصلة بل هو آنات منفصلة، وقد رأى الدكتور “علي مبروك” أنَّ هذا التصوّر للزمان باعتباره منفصلاً راجع إلى المذهب المهيمن في الثقافة الإسلامية: المذهب الأشعري؛ “فالزمان عند الأشاعرة مجموع آنات منفصلة، يحدث الواحد بعد الآخر، ولا صلة بين الواحد والآخر، وتبعاً لذلك يُعتبر الآن – في الزمان – وحدة قائمة بذاتها لا علاقة لها بما يسبقها أو يلحقها. وبذلك يكون الأشاعرة قد أدركوا في الزمان نقاطاً منفصلة، لا ديمومة متصلة. وتبعاً لهذا التصور للزمان الذي يقوم على الانفصال وليس الاتصال؛ فإنه لا سبيل للانتقال من آنٍ إلى آخر إلَّا بالطفرة؛ فالزمان يطفر- مثلاً – من الآن الأوَّل إلى الرابع، دون أن يمر بالثاني والثالث”.(9) فدوران الشهور الهجرية مع الفصول، بالنسبة لكهنة الإسلام، ابتلاء من الله الذي لا يتمُّ الانتقال من لحظة إلى أخرى في الزمان إلَّا بيده وفقاً للتصور الأشعري؛ فالزمان كالعالم في التصور الأشعري، لا توجد بداخله قوانين منظمة بل هو يفتقر إلى النظام والحركة ويحتاج إلى قوَّة خارجية مطلقة تحركه، وليس شرطاً أن تنظِّمه؛ فالله في التصوُّر الأشعري لا يتميَّز بالحكمة المنتظمة المعقولة لكن بالإرادة المطلقة غير المفهومة؛ لذلك لا يتمُّ الإعلان عن مجيء شهر هجري كرمضان إلَّا من أبواق السلطة الدينية، وهي أعلم بالله وإرادته من البشر بالطبع! ومن يدري؟ ربما يأتي عام من الأعوام يعلنون فيه أنَّ الله لا يريد أن يأتي بشهر رمضان هذا العام!.

زمان منفصل وتاريخ متدهور

يتجلَّى غياب الوعي التاريخي في الثقافة العربية من خلال تصوُّرات البشر عن حلول أزمات الحاضر وأساليب تقدُّمه؛ فمثلاً يتصوَّر عدد ليس بقليل في مصر الآن بأنَّ عودة حاكم بعينه للسلطة ستحمل معها خلاصاً من مشكلات الحاضر التي يعانونها في عهد الرئيس الحالي، وكذلك يعتقدون أنَّ عودة عصر المَلَكية سيحمل خلاصاً من المشاكل نفسها أيضاً، وكأنَّ عودة هذا الملك أو هذا الحاكم ستحمل معها عودة كافة العلاقات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الداخلية والعالمية، يسيطر في مصر هذا الوعي النابع من إيديولوجية البرجوازية الصغيرة الكارهة لأيِّ تغيير عام؛ فلو لم تكن ثورة يوليو 1952 ولو لم تكن ثورة يناير 2011 ما كانت الأزمات الحالية لتحدث وفقاً لتلك الإيديولوجيا.

إنَّهم يظُّنون أن الفترات التاريخية التي يفضلونها حلقات مسلسل تليفزيوني قابل للإعادة دون أي تغيير في أحداثه! وغياب هذا الوعي التاريخي راجع إلى تصوُّر راسخ للزمان، في الإيديولوجيا المسيطرة، باعتباره آنات منفصلة، يحدث فيه الآن بعد الآخر ولا علاقة لواحد منهما بالآخر، ويتحقق الانتقال بينهما بالطفرة، فمن الممكن أن نقفز من الحاضر إلى آنات سابقة كالفترة الملكية قبل ثورة 1952، والقفز إلى فترة ما قبل ثورة 2011، وكذلك من الممكن القفز إلى آنات أقدم كلحظة الإسلام الأولى في عصر النبي أو الراشدين؛ ونقحم تلك اللحظات السابقة على اللحظة الحالية بالدعوة لتكرارها. ومن الممكن أيضاً القفز في الزمان المنفصلة لحظاته إلى لحظات تالية كالقفز إلى التقدُّم الأوروبي، دون اعتبار للمسار المتصِّل لهذا التقدم، لكي نطبق منتجات هذا التقدُّم قهراً على حاضرنا دون تبلورها فيه بشكل متصل متراكم. يكتب علي مبروك مجدداً: “إنَّ هذا التصوُّر للزمان يعني إلغاءً لأيِّ علاقة ضرورية ومنطقية بين آنٍ سابق وآخر لاحق؛ وبذلك يفقد التقدم الإنساني أساسه ومعناه، وذلك يؤدي إلى استحالة انبثاق الوعي في صورته التاريخية، لأنَّ هذا الوعي يتأسَّس – جوهرياً – على ضرورة تواصل – لا انفصال – لحظات الزمان التاريخي بشكل يفسح المجال لتراكم الخبرة التاريخية”. (10)

إنَّ تصوَّر الزمان باعتباره لحظات منفصلة لا يجتمع مع التقدُّم التاريخي والتطوُّر الاجتماعي؛ فالوعي الهادف إلى التطوُّر الاجتماعي والتقدُّم التاريخي لا بدَّ أن يحمل تصوُّراً للزمان كديمومة متصِّلة. 

نستنتج من هذا التصوُّر للزمان في الخطاب الأشعري المسيطر في الثقافة الإسلامية، أنَّ كل لحظة ولحظة بينهما خلاء، فالمحتوى التاريخي الذي تحمله فترة زمنية ما ينعدم في الخلاء الذي بينها وبين الفترة الأخرى، وبالتالي تكون مهمة الزمان في الطبيعة والتاريخ هي الإعدام والإفناء لا الخلق والإيجاد. تستهدف تلك الرؤية إفساح المجال أمام الله الذي يختصُّ بالإيجاد، فقد تأسَّس هذا التصوُّر لغرض إفراد الله بالقدرة على الخلق وإسناد الوجود إليه، وجعل العالم بدونه نهباً للعدم. لكن الأشاعرة – دون وعي – جعلوا إلهين للعالم: إله الإيجاد (الله) وإله الإعدام (الزمان). 

بالطبع توجد حملات سياسية لترسيخ الحنين إلى عصر الملكية أو عصر ما قبل ثورة يناير، وتلك الحملات ترسخ هذا التصوُّر الانفصالي للزمان وبالتالي تغيِّب الوعي التاريخي، لكن هذا التصوُّر الانفصالي راسخ في الوعي المسيطر، أو بالأحرى: اللاوعي الجمعي، من الأساس؛ فهو تربة خصبة لنمو تلك الدعاية، وينتجها بقدر ما ينتج عنها. إنَّ الذين يردِّدون تلك الآراء المنادية بضرورةِ عودة الماضي لتجاوز مشاكل الحاضر يعلمون جيداً في قرارتهم أن العودة مستحيلة، وبالتالي الاعتقاد الحقيقي الراسخ في ذهنهم هو أنَّ الزمان يسير إلى الأسوأ وكل فترةٍ تاريخية أسوأ من التي قبلها، بغَّض النظر عن أمانيهم. وهذا نابع من التصوُّر الانفصالي للزمان.

 


المراجع:

  • 1 –  مستفاد من أبو البركات البغدادي “المُعتبر في الحكمة”، ضمن كتاب لـ: علي مبروك، لعبة الحداثة بين الجنرال والباشا، دار رؤية، 2006
  • 2 – روي بورتر، فكرة الزمان في التاريخ، تحرير كولن ولسون، ترجمة: فؤاد كامل، المجلس الوطني للفنون والثقافة والآداب في الكويت، 
  • 1992
  • 3 – علي مبروك، (مرجع سابق)
  • 4 –  جورج لايكوف ومارك جونسون، الاستعارات التي نحيا بها، ترجمة: عبد المجيد جحف، دار توبقال للنشر، 2009
  • 5 – المرجع السابق
  • 6 – محمود أمين العالم..”مفهوم الزمن في الفكر العربي – الإسلامي قديماً وحديثاً ضمن كتاب لـ حسين مروة وآخرون، دراسات في الإسلام، دار الفارابي، 1987
  • 8 – انظر: محمد داوود، مقال “حكاية الشهر الذي حذفوه من التقويم الهجري بعد وفاة الرسول”.. جريدة المقال، عدد 25/ 5/2015 
  • 9 – علي مبروك (مرجع سابق) 
  • 10 – المرجع السابق.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: محمد كرم اسماعيل

اترك تعليقا