نيتشه والحيوان البشري: المُدجَّن والقوي

“أقول عن حيوانٍ أو نوعٍ أو شخصٍ بأنه مُنحط عندما يكون قد افتقد غرائِزَه، وعندما يختار ويبجل ما هو مضرٌ به.”

(نيتشه، نقيض المسيح، 6)

على مر التاريخ كان البشر ينظرون إلى أنفسهم على أنهم متفوقون على جميع الكائنات الأُخرى. توجد أساطير أصلِنا الإلهي ومكاننا على قمة الخَلق في الأديان التي تعود إلى آلاف السنين. وحتى في عصرنا “المتنوِر علميّاً” فإن هذه القناعة بتفوق جنسنا لم يحدُث لها أيًّ تغيير. فنحنُ الآن أسياد هذه الأرض، وقِمَّة التطور البيولوجي، والأنواع الوحيدة العاقلة والأخلاقية في عالم من كائناتٍ لاواعية “حمراء الأسنان والمخالب”.

لكن لم يتفق الجميع مع هذا الرأي. فالبعض في الحقيقة قد نظروا إلى الجنس البشري بضوءٍ مختلفٍ تمامًا. فالفيلسوف فريدريك نيتشه على سبيل المثال اعتَقَدَ أنه إذا نظرتَ بعمقٍ إلى نفس الإنسان فستكتشفُ أنهُ وراء غُرورِنا ووراء الأقنعة التي نعرضها، نحن الحيوانات الوحيدة المقطوعة عن غرائزنا، وبالتالي، فإننا أكثر الأنواع مرضًا قد سارت على وجه الأرض.

“لقد أعدنا النظر في كل ما تعلمنا. وغدونا أكثر تواضعًا في كل أمر. لم نعد نربط الإنسان بأصل واقع في «الروح»، وفي «الألوهية»، بل أعدناه إلى موقعه بين الحيوانات. فهو الحيوان الأقوى بالنسبة لنا، لأنه الأكثر مكرًا؛ وإحدى نتائج ذلك هي ملكته العقلية. كما أننا نحترس من جهة أخرى من ذلك الغرور الذي ما زال يريد أن يُسمع صوته من جديد هنا أيضًا، كما لو أن الإنسان يمثل النيّة الخفيّة العظمى التي كانت تقود مسار التطور الحيواني. فهو ليس تتويجًا للخليقة بأي حال، وكل كائن من الكائنات التي من حوله يقف على نفس الدرجة من الكمال إلى جانبه. وبتأكيدنا لهذا الأمر، تجدنا نمضي أبعد من هذا أيضًا، إلى اعتبار مفادُه: أن الإنسان هو الحيوان الأكثر إعاقةً والأكثر هشاشةً، وهو المنحرف عن غرائزه على نحو أكثر خطرًا؛ – ومع ذلك كله فهو بحق الأكثر مثارًا للاهتمام.” (نيتشه، نقيض المسيح، 14).

كيف أصبحنا نحنُ، أكثر الكائناتِ دهاءً… الحيوان الذي يُعاني بامتياز؟ للإجابة على هذا السؤال، فقد رَجِعَ نيتشه بعقله إلى عدة آلاف من السنين إلى وقت حيث لم يتطور فيه نظامنا الحضاري الخاص بجنسنا. في هذه العصور الماقبل-تاريخية كان البشر مدفوعين بشكلٍ أساسيّ من قِبَلِ غرائزهم. لقد كانوا بحسب نيتشه “أنصاف حيوانات، التي كانت لحسن الحظّ مهيّأةً لحياة القفار، للحرب، للترحال وللمغامرة.” (نيتشه، جينالوجيا الأخلاق، م2، 16)

تحول دراماتيكي في نفسيّة هؤلاء “أنصاف الحيوانات” حدثَ عندما انتقلوا من البريّة إلى الحضارة. وفي داخل “حدود المجتمع والسلام” (نيتشه) وجد البشر أنفسهم لأول مرة خاضعين للقوانين والعادات المدعومة عن طريق التهديدِ بالعقاب، وبالتالي، لم يعودوا محكومين بغرائزهم فقط. هذه المعايير الاجتماعية جعلتنا نتكيّف في وجودٍ أكثَرَ تَحَضُّرًا. ولكنها أيضًا أضعفتَنا وزادت من مُعاناتِنا. فمن خلال تعَرُّض غرائزنا الحيوانية للقمع والإجبار «تحت الأرض» فإنها لا تختفي، ولكنها “تنقلب على نفسها القهقرى، تنقلب ضدّ الإنسان نفسه” (نيتشه، جينالوجيا الأخلاق، م2، 16). وتُنتِج في هذه الحالة مرضًا في النفس يُسميهِ نيتشه “الضّمير المُتعب” أو “الوعي الشّقي” وهو “إرادة نحو تعذيب النفس” (نيتشه، جينالوجيا الأخلاق، م2، 22) – وهكذا يُعَلِّم marking نيتشه بداية هذا الميل البشري المُروع لإلحاق الأذى بالنفس. وكما يشرح نيتشه:

إعلان

“إنّ الإنسان الذي قد زُجَّ به في ضيقة حاصرةً وفي رتابة العادات، فطفق في لهفةٍ يمزّق نفسه ويطاردها ويعضّها ويزعجها وينكّل بها… بيد أنّه معه إنّما افتتح أيضًا المرضَ الأكبر والأوحش الذي منه لم تبرأ الإنسانية إلى حدّ اليوم، أَلَم الإنسان من الإنسان من ذاته، باعتبار ذلک نتيجةً ناجمة عن فصلٍ عنيف عن الماضي الحيواني… عن إعلان حرب ضدّ الغرائز القديمة، التي عليها ارتكزت قوّتُه ومتعتُه ومهابتُه إلى حدّ الآن.” (نيتشه، جينالوجيا الأخلاق، م2، 16)

لا نُعاني في داخل أسوار الحضارة المُغلقة من “الوعي الشّقي” فحسب، ولكن كما يشرح نيتشه: “لقد جُعل الإنسان عن طريق أخلاق العادات والتقاليد وقيود المجتمع قابلًا فعلًا لِلحساب والتوقّع.” (نيتشه، جينالوجيا الأخلاق، م2، 2)
كان الخوف من القانون والعقاب أداة «التّدجين» التي أضعَفَت اتّصالنا بغرائزنا وَجَعَلَت سُلوكَنا أكثر قابلية للتنبؤ وأكثر أمانًا وشبيهًا بسلوك القطيع، فقد كَتَبَ نيتشه: “… إنّ معنى كلّ ثقافة هو أن تستنبت من الحيوان “البشريّ” المتوحش حيوانًا أليفًا متمدّنًا، حيوانًا داجنًا.” (نيتشه، جينالوجيا الأخلاق، م1، 11). وفي حين كانت عملية «التّدجين» هذه ضرورية لخلقِ الحضارة، فقد جاءت على حساب تحويل الكائن البشري من حيوان قوي، وبريء، وحُرّ، إلى مخلوق مليء بالذنب وقابل للتلاعب به، ومٌدَجّن، ويعتمد على راعٍ ليقوده.

“أن يُدعى تدجين حيوان «إصلاحًا» فذلك ما سيكون له على مسامعنا نحن اليوم وقع الفكاهة تقريبًا. وإنّ من يعرف ما يجري داخل عروض السرك، لا يسعه إلا أن يشك كل الشك في أن الوحوش يتم «إصلاحها» هناك. هناك يتم إضعافها، وتُجعل أقل قدرةً على الضرر، وتُحوَّل عن طريق الأحاسيس المحبَطة المنجرّة عن الخوف، وعن الألم، والجراح، والجوع، إلى بهائم مريضة. – والأمر لا يختلف لدى الإنسان المدّجن…” (نيتشه، غسق الأوثان، «مصلحو الإنسانية»، 2 ).

ونتيجةً لهذه العملية الطويلة التي امتدت لآلاف السنين من تدجين وإضعاف لغرائزنا فقد أصبحنا مُعتمدين بشدّة على وعينا، والذي هو وفقًا لنيتشه، “أكثر اعضائنا ضُعفًا وعرضةً للأخطاء” (نيتشه، جينالوجيا الأخلاق، م2، 16). لقد تطورنا إلى حيوان مُتَأَمِل يقوم بتحليل كل التفاصيل لدرجة تجعله يتبنّى الشك الدائم والسخرية من الحياة. ولكن حتى أسوأ من ذلك، لقد فَصَلَنا هذا الاعتماد عن “قادتنا القدامى” أي الرغبات اللاواعية المُتَحَكِّمة” (نيتشه) والتي قادت أسلافنا بأمان لمئات الآلاف من السنين وسط أهوال الطبيعة ومخاطرها.

“…لقد فقد ودمَّرَ غريزته، ولم يعد باستطاعته الوثوق بـ«الحيوان الإلهي» وأنْ يترك زمام الأمور عندما يتعثّر فهمه وعندما يقوده طريقه من خلال الصحاري.” (نيتشه، تأملات في غير أوانها).

لقد حَثَّ نيتشه قُرائه على تقليل اعتمادهم على الوعي وأن يُعيدوا الاتصال مع توجيهات لاوعيِهُم القديمة والودّية. فعندما تظهر آلام الحياة العظيمة، غالبًا ما تكون هذه الغرائز القديمة هي وحدها التي يمكن أن توفر القوة والحكمة اللازمتين للاستمرار.

“سيأتي لكل إنسان ساعة سيسأل نفسه فيها بتعجب: “كيف يتمكن المرء من العيش؟ ومع ذلك يعيش المرء!” – ساعة سيبدأ فيها بفهم أنه يمتلك نفس درجة الإبداع التي يُقَدِّرُها في النباتات، التي تتسلق وتهوي وتحصل بالنهاية على بعض الضوء وقطعة من التربة، وبذلك تخلق لنفسها نصيبها من الفرح على أرضٍ قاسية.” (نيتشه).

ومع ذلك أدرك نيتشه أنَّ خطرًا يُصاحب أولئك الذين يحاولون إحياء هؤلاء “القادة القُدامى”. لأننا وفي خلال هذه العملية، قد نُطلِقُ عن غير قصدٍ العنانَ لِأهوائِنا الوحشيّة والبدائيّة. وبكلماتٍ أُخرى، عند إصلاح انقطاعنا عن غرائِزِنا، يجب أنّ نكونَ مُستعدّينَ لمواجهِة “الوحش الذي في الداخل” (نيتشه).

“تُريد الصعود إلى أعالي الفضاء الرحب، وروحك تتوقُ إلى النجوم. لكنّ غرائزك السيئة هي أيضًا تتوقُ إلى الحرية. كلابك المتوحشة تريد الخروج إلى الفضاء الرحب؛ إنها تنبح غبطةً في قبوها عندما يكون عقلك متطلعًا إلى نسف كلّ السجون.” (نيتشه، هكذا تكلم زرادشت، عن شجرة الجبل).

لمساعدتنا على التحكم بِطَبيعتنا البدائيّة، نَظَرَ نيتشه إلى الإغريق القُدامى “نماذج كل الأمم المثقفة في المستقبل” (نيتشه). وبدلًا من إنكار غرائزهم، قام الإغريق بِتَقَبُلِها، و “خصّصوا مهرجاناتٍ لكل المشاعر والميول الشريرة” (نيتشه). كانت وظيفة هذه المهرجانات بمثابة آليات مُعتمدة ثقافيًا لمساعدة الإغريق على تحويل مشاعرهم البدائية إلى قوى ثقافية مُنتجة ومَركَبات للإبداع وتأكيد الحياة.

ولكن في العالم الحديث نحنُ نفتقِدُ أيَّ وسائِلَ اجتماعيّة من هذا النوع. ولهذا السبب، حثًّ نيتشه قُرّاءه على خلق مهرجاناتِهِم الخاصة للاحتفال بغرائزهم البدائيّة من أجل تعزيز تحويلها إلى أشكالٍ أكثَرَ إثمارًا وروحية. “في ما مضى كانت لديك كلاب متوحّشة في قبوك؛ لكنها تحولت في النهاية إلى عصافير ومغنّيات بأصوات عذبة.” (نيتشه، هكذا تكلم زرادشت، عن صبوات الأفراح والالآم). أو كما وضّح في مُذكّرة غير منشورة:

“لكي نكونَ قادرين على الخلق، يجب أن نمنحَ أنفُسِنا قدرًا من الحرية أكبرَ مما قد أُعطينا من قبل؛ وفي نفس الوقت، أن نَتَحرّرَ من الأخلاق وأن نُريحَ أنفُسِنا من خلال المِهرَجانات (هواجس المستقبل! احتَفِل بالمستقبل، وليس بالماضي! قُم بتأليف أسطورة المستقبل! عِش في أمل!) لحظات سعيدة! ثُمَ نُغطّي السِّتارة مرة أخرى وَنُحوِّل أفكارَنا إلى أهدافٍ ثابتةٍ و قريبة.”(نيتشه).

لقد كان نيتشه مُتَشَدّدًا جدًا على إعادة ربطِنا بغرائزنا الحيوانيّة لأنه أدرك أنه لا يمكننا أبدًا التخلّص من هذه العناصر الأساسيّة في وجودنا. فنحنُ إما نعتَرِفُ بها ونُسَخِّرُها لاستخدامها بطريقة بنّاءة ومُبدِعة. أو نُنكِرُها ونجبرها على البقاء في القبو. لكن هذه الطريقة الأخيرة تَعزِلُنا عن “قادتنا القدامى”، وَتُحَوِّل غرائِزُنا ضِدَّ أنفُسِنا وَتُولِّد “وعيًا شقيًّا”، وتُديمُ سُلوكَنا الذي يُشبِهُ سُلوكَ القطيع والاعتماد على راعٍ لِيُبيّنَ لنا الطّريق. “المجتمع يُروّضُ الذئب كلبًا. والإنسان هو أكثر الحيوانات استئناسًا على الإطلاق.” (نيتشه، هكذا تكلم زرادشت، عن الفضيلة المصغِّرة).

في كتابه “إنساني مُفرط في إنسانيّته”، استخدم نيتشه الأسطورة اليونانيّة القديمة «سيرس» كَرمزٍ لهذه العودة إلى الأساسات الحيوانيّة. “فكما أنَّ جُرعة الإلهة سيرس قد امتلكت القوة لتحويل الإنسان إلى حيوان، فكذلك اعتَقَدَ نيتشه أنَّ الصِدّقَ بشأنِ طبيعَتِنا وأصلِنا يُمكنُ أن يُساعدنا على استعادة اتصالنا مع غرائِزِنا، ووضعِ حدٍّ لتَدجيننا، و سَيوفِر لنا الحكمة وإرادة-القوة اللازمة لِخَلقِ قيَمٍ ثَقافيّةٍ جَديدة من شأنها أن تكونَ بمثابة الأساس لظُهورِ “رجالٍ مُستَقِليّنَ، وغير مُتَحيّزينَ، ومُعتَمِدينَ على ذاتهم”، الأركان الحقيقيّة لحضارة قوية.” (نيتشه، الفجر) أو كما كتب:

“الحقيقة مثل سيرس. خطأ قد حَوَّلَ الحيوان إلى إنسان؛ فهل تستطيع الحقيقة أن تُحَوِّلَ الإنسان إلى حيوان مرة أخرى؟” (نيتشه، إنساني مُفرط في إنسانيّته).

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: محمد مومني

تدقيق لغوي: أبرار وهدان

تدقيق علمي: راجي يوسف

اترك تعليقا