فن التعامل مع السأم والملل “رؤية فلسفية”

قبضة السأم والملل، قبضة يقع فيها الجميع، لكن المرء يحاول أن يهرب منها بوسائل شتّى بقدر ما يستطيع، قد ينجح وقد يخفق، وعليه أن يعي بأن من لا يعرف صوت الملل لن يتمكن من التمتع بنغم البهجة والسرور. فالمرء لا يتمنى ما لا يعرفه وحصل عليه، بل يتمنى ما لا يعرفه وما لا يعثر عليه.

وحينما سُحق الشاعر “تميم ابن أبي مقبل” ويبّس وديان روحه وهشّم فرحته وبهجته وأفقده القدرة على تحمل مصائره الموحشة، في بيته القائل:

“ما أطيب العيش لو أن الفتى حجرٌ   ***    تنبوا الحوادث عنه وهو ملمومُ”

فتمنى بشدّة أن يتحول إلى حجر حتى تطيب له الحياة، لكن هذا التمني عاجز عن الطيران إلى سماء التحقيق بل سيبقى رهين طبيعة التقييد.

فما أصعب الحديث عن ظاهرة شديدة التجريد مثل ظاهرة الملل والسأم، كونها قوية الاشتباك مع المزاج النفسي المتغير للإنسان الذي لا تعرف الاستقرار على قمم السعادة. ويستعصي ضبطها وربما تضايقه المستمر منها في حياته، تدفعه إلى الظن بأنها ظاهرة ملازمة لطبيعته. فهي قدره المكبّل به الذي لا يستطيع أن يتحرر منه، وإن تحرر منه فتحرره مؤقت وليس مؤبد، ولذا وعى المرء تماماً أن من طبيعة الأشياء والأحياء هو التغيير لا التأبيد، فسعى وابتكر الحيل والطرائق ليفكَّ قيوده المرهونة بالسأم والضجر وليخفف من ضربات مخالبه التي تنقر في مشاعره فتشيع فيها الخراب والبور وتحولها إلى أرضٍ تدُبُّ فيها ديدان السأم والملل والضجر.

إعلان

ومن الطرائق التي حاول بها الإنسان دفع الملل عن عالمه الروحي، طريقة التسلية عن نفسه وإنعاشها بالفرح والمسرّة. وهذه الطريقة تتّخذ مظهر الخروج مع أصدقائه، ربما تعج بالصخب وتشيع فيها الثرثرة، وقد تتّخذ صورة التجمع في المقاهي والمزاح معهم بإطلاق النكات المصحوبة بالقهقهات وفي ختام اللقاء قد يقترح أحدهم الذهاب إلى مطعم لحشو البطون بما لذَ وطاب، وربما يعقبه سوء هضم وتلبّك في المعدة عند أحدهم فيعلن جهازه الهضمي عن عصيان شامل ويلقي هذا العصيان بثقله على مزاجه النفسي فيتضاعف عنده السأم والملل ويكتشف أن هذه الطريقة ليست الطريقة المُثلى للخروج منه، لأنها لا تدخل في النفس سوى مستوى ضيق من الفرح، فهي عاجزة عن التحليق به إلى قمم البهجة العميقة، لأنها لا ترتبط بمرامي وغايات كُبرى، ثم أن هذه الطريقة على شيوعها وتطورها في العصر الحديث إلّا أنها لا تضمن زوال الملل والسأم، إذ سرعان ما يعود بقوة ليسحق المرء بعجلاته الثقيلة، ويفقده القدرة على الإقبال على الحياة فيجد نفسه في دورة عنيفة من السأم.

وقد يلجأ الإنسان إلى طريقة المقامرة والمخدرات بوصفها ملاذ للحصول على الإثارة والمفاجآت وتبعد الملل بوتيرة سريعة، إلا أن هذه الطريقة على سرعتها في طرد الملل، إلّا أنها توقيف وقتي للشقاء، بل أن التخدير صورة من صور الانتحار المؤقت، فالمرء بعد أن يفوق يجد نفسه مرة ثانية في قبضة الملل. والفيلسوف هيجل قد فطن بعبقرية وقادة زيف من يزعم أن المخدرات تستحضر الإلهام وتسعف الفنان بالخيال الخصب، فيصنع روائعه الفنية، فالخيال المخدر لا يصنع الروائع، بل تصنعها العقول التي تحيا على عنفوان التفكير. أمّا المقامرة فهي الأخرى مرهونة بلعبة القدر المجهول فإما أن يبتسم للمرء ويدخله في نعيمه وإما أن يرفسه برجليه ويدخله في جحيمه، ثم أن إرادة الإنسان في المقامرة مرهونة بالحظ، فإما الفوز ونشوته أو الخسران ومرارته.

    

تبقى طريقة ثالثة تُعد نفسها طريقة واقعية نقدية محكومة برؤية عقلانية تحاول أن تعي الظاهرة نفسها لتحكم عليها من داخلها وفق معاييرها الخاصة بها، وليس وفق معايير خارجية مثل الحكم على ظاهرة السأم والملل من موقع القول إن الخطيئة تجري في عروق الإنسان مجرى الدم. وما يحدث له من سأم وملل هو العقاب على ما يرتكبه من خطايا وذنوب. فالسماء تقرر أن تسخط عليه وأن تنال منه بزجه في نار السأم والملل. ومثل هذا التصوّر يمرح ويسرح في حالة المرض والأزمات النفسية العنيفة.

 إن هذه الطريقة لا توعد القارئ بالفردوس الأرضي ولا تضمن له المكوث على قمم السعادة وليس عندها قواعد مانعة جامعة تقضي على الشقاء وتنهيه، ولا عندها الدواء الشافي من السأم و الملل تكفي المرء من ويلاته وشروره، بل كل ما عندها هو دعوته بهدوء وتبصر في هذه الظاهرة وإعادة النظر في التصورات السائدة، ومن غير المنطقي النظر إلى ظاهرة الملل والسأم بمعزل عن الزمن فهي أحد الوجوه الذي يتجلى بها، لكنه ليس الوجه الوحيد، فوجه الزمن ليس على الدوام رمادياً وقاتماً، بل قد يكون مبهجاً وردياً والإنسان هو من يضفي قيم الحزن والقبح والجمال على الزمن، أمّا الزمن فهو يمضي بطريقة محايدة وجريانه ليس شرّاً في ذاته ولا خيراً في ذاته ولا فرحاً ولا جمالاً في ذاته، وكثيراً ما يطلق البعض على الزمن الذي مضى “الزمن الجميل” لأن الحنين ينتابهم إليه، ومرتبط بذكرياتهم. ومثل هذه الأحكام قيمية ونسبية. وربما مثل هذه الأحكام استندت إلى تصورات عن الماضي ليست دقيقة.

ولأن الزمن ظاهرة محايدة يسمح بالمرونة والخروج عن نمطيته الاعتيادية، فتجربة المتذوق للموسيقى الخالصة تبرهن على هذا الخروج، فحينما تأسره رنين الموسيقى ونغمها العذب، والمفارقة في أن الأسر الموسيقى يحرره من الزمن الاعتيادي ويصبح للمتذوق الواعي أجنحة يطير بها ويسبح في ملكوت الجمال فيشعر أن الزمن توقف ويمتلئ بالعذوبة والفرح ولا مكان فيه للملل والسأم، فالموسيقى هي صورة من صور التناسب والتناسق والتناظر بين الأصوات، إنها لحظة من الكمال ترتد إلى أعماق الروح وتزحزح الزمن البائس وتُقطّع خيوط الملل والسأم، وتستبدلها بدغدغة الأفراح والبهجة المتسامية.

إن الخروج عن الزمن الاعتيادي بفضل الموسيقى التي تسيل بالبهجة وعذوبة التأمل دليل على رغبة الإنسان في تذويب أسوار الرتابة. فالرتابة تُطفئ ألق التفكير، وتُحدث فجوة يتدفق منها السأم والملل، والتغيير في نمط حياة المرء والبحث عن الجديد والمثير وفتح أبواب المفاجئات المحتملة، كل هذا يُعد محاولات لسد فجوة الرتابة.

 والتغيير يُعد نزوعاً أصيلاً عند الإنسان، وقد يتّخذ أشكال عميقة في سن النضج فيتجسد في الأعمال العظيمة التي خدمت البشرية إذا اندمج هذا النضج بالذكاء والنباهة. فالسأم وفق التصور العقلي السليم لا يمكن أن نعدُّه طبيعة غالبة مهيمنة على الإنسان وقوة سلبية تشل من إرادته، بل يمكن النظر إلى الملل بوصفه قوة محفزة لتنشيط إرادة التحدي وضخ دماء التفاؤل في دمه وأعصابه، وعلى الإنسان أن يأخذ بحكمةبرتراند رسل التي تذهب إلى ضرورة تحمل المرء للملل والسأم، بل وأن يعلّم أطفاله التدرب على السأم والملل، ومن المناسب أن لا يعوّد أطفاله على التسلية الرخيصة والمجانية فعليه أن لا يهدي لهم الألعاب التي تحمل لهم الإثارة المباشرة، بل عليه أن يعلمهم ضرورة نزع الإثارة انتزاعاً، إن الإثارة المعجونة بالجهد تعلمهم الصبر على الملل.

ودي مونتين يلوذ إلى الكتاب عندما يقع في قبضة السأم، فالمعرفة مثّلت له عزاء حقيقي ليس للعزلة، بل للخلاص من الرفقة المملة، أما رسل لجأ من السأم والكآبة بالتعلق بالرياضيات فوجد فيها متعة التناسب والتناسق وروعته، وكان رسل يتمثل كل هذه الصفات ويشعر بعذوبة اليقين المتغلغل في المعرفة الرياضية بوصفها المعرفة الأشد قدرة على إضاءة الحقائق الكونية.

 ومن الفضائل الفلسفية أن لا يشغل الإنسان بهمومه الضيقة وعيوبه الصغيرة ويستغرق في التفكير في خطاياه الخاصة، ومن المهم أن يكون على قدر من الرضا عن ذاته ويبتعد عن الحكم عليها وفق تصورات تفقدها القدرة على تمتين جسور الإرادة لصد سيول الملل والسأم الجارفة وأكبر رذيلة يرتكبها المرء هو كرهه لنفسه، وإذا كان القرف من النفس من الرذائل، فإن الاهتمام بالشأن العام من الفضائل الكبرى، وسعادة المرء ليس في الأخذ بل بالعطاء لتنشيط الروح وإدخال فيها الفرح الحقيقي، لأن هذا الاهتمام يصنع دروعاً واقية لصد الملل والسأم.

وكل العظماء في التاريخ انهمكوا في قضايا الإنسان، ولولا تحملهم على سماع إيقاع الزمن الرتيب لما استطاعوا أن ينجزوا أعمالهم العظيمة، ولا يمكن مقارنة غزو العلماء للطبيعة بمثل غزو القادة العسكريين لبلدان العالم، فالعالِم يغزو الجهل ويضاعف من نجوم الحقائق في سماء المعرفة ويبتهج بغزوه ويرغب في أن يستمر ولا يتوقف، في حين أن القائد العسكري ينتشي بنصره، إلّا أن نشوته تحترق وتتحول إلى رماد ويشعر بالندم والأسف ولا يرغب في الاستمرار.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: عبده بن بدر

اترك تعليقا